يقول الراحل الملك الحسن الثاني في خطاب له بالقصر الكبير بالرباط يوم الأربعاء 31 مارس 1982 حينما اجتمع بكبار رجال القضاء والمحاماة والعدول حيث قال: “… مسؤولية القاضي ليست أجسم من مسؤولية كاتب الضبط … ” فملك البلاد أنداك وضع مسؤولية القاضي وكاتب الضبط في مستوى واحد من الجسامة.
إلا أن التشريع والممارسة العملية لم تعيرا لهذه المساواة في المسؤولية أي اعتبار، بل اعتبرت مسؤولية القاضي أكثر جسامة من مسؤولية كاتب الضبط، رغم أنه لا يذكر القاضي في قوانين المسطرة المدنية والجنائية ولا حتى في مشروع التنظيم القضائي، إلا ويذكر إلى جانبه كاتب الضبط، فيذكران كما تذكر الصلاة والزكاة في القرآن مقرونين، فكاتب الضبط قرين القاضي وشريكه في تحقيق العدالة، فهو اليد التي تضع أحكامه موضع التنفيذ، فلا ينفع تكلم بحق لا نفاذ له .
ومن التجليات التشريعية التي اعتبرت مسؤولية القاضي أجسم من مسؤولية كاتب الضبط تخصيص مقتضيات لتجريح القضاة وانعدام مثيل لها بالنسبة لكتاب الضبط، إلا أن مشاريع القوانين الحالية استوعبت هذا التغافل ومن بينها مشروع التنظيم القضائي فوردت بهذا المشروع مادة فريدة هي الفقرة الرابعة من المادة 19 التي تنص على ما يلي: “لا يسوغ لموظفي كتابة الضبط القيام بالمهام التي تدخل في مجال اختصاصهم، في الدعاوى الخاصة بهم أو بأزواجهم أو أصهارهم أو أقاربهم إلى درجة العمومة أو الخؤولة أو أبناء الإخوة”.
فما هي ظروف وأسباب وضع هذه المادة؟ وما هي الصيغ اللغوية التي استعملها واضعوها؟ وما الفئات المخاطبة بمقتضياتها؟ وما هي شروط وإجراءات تفعيل أحكامها؟ وما هي أثارها القانونية والواقعية؟
لا يتأتى الحديث عن ظروف وأسباب وضع الفقرة الرابعة من المادة 19 إلا باستحضار هندسة المشروع، فنجد بأن هذه المادة وردت في الفصل الثالث من الباب الأول من القسم الأول من مشروع التنظيم القضائي تحت عنوان قواعد تنظيم عمل الهيئات القضائية، وبقراءة المادة 35 من المشروع في فقرتها الثانية نجدها تنص على أن موظفي هيئة كتابة الضبط يمارسون مهامهم بتجرد ونزاهة واستقامة، فالسبب الرئيسي الذي جعل المشرع يسن الفقرة الرابعة من المادة 19 هو هاجس تحقيق التجرد والحياد أي هاجس أخلاقي بالأساس.
وجاء دستور 2011 بمقتضيات مهمة لحماية حقوق المتقاضين،وأكد ميثاق إصلاح منظومة العدالة على وجوب تخليق منظومة العدالة، وذلك بتعزيز آليات الجزاء لضمان نزاهة وشفافية منظومة العدالة، وتعزيز مبادئ الشفافية والمراقبة والمسؤولية في المهن القضائية، وترسيخ القيم والمبادئ الأخلاقية لمنظومة العدالة.
فإرادة المشرع سارت نحو سن آليات لتخليق منظومة العدالة ولحسن سير مرفق القضاء وتحقيق الحياد والتجرد، ويعرف الحياد بأنه ذلك الوازع الذي يجعل الموظف يلازم موقفا سلبيا تجاه الخصوم ومبدئيا إزاء الدعوى، فيساوي كاتب الضبط بين المتقاضين مستعملي مرفق القضاء. أما التجرد فهو حالة ذهنية تعكس الصفاء النفسي لكاتب الضبط، فيمارس مهمته مترفعا عن كل منفعة ورافضا أي مفاضلة بين المتقاضين.
فلتحقيق هذه الأهداف جاءت الفقرة الرابعة من المادة 19 وابتدأت بخطاب كاتب الضبط بكلمة لا يسوغ ونفس المضمون أوردته المادة 37-2 من مسودة مشروع قانون المسطرة المدنية إلا أنها استعملت كلمة لا يجوز، فاستعمل المشرع صيغة الجواز لا الوجوب، عكس القاضي الذي خاطبه المشرع بلفظ المنع من خلال الفقرة الأخيرة من المادة 39 من المشروع حيث وردت كلمة يمنع على القضاة، لكنه في المادتين المواليتين أي المادة 40 و41 استعمل في مخاطبته لعمل القضاة كلمتي “لا يمكن”، “لا يسوغ” وشتان بين معاني كل كلمة وهذا عبث في لغة التشريع التي يجب أن تكون مضبوطة.
ورجوعا للصيغة اللغوية التي استعملها المشرع والتي تطرح تساؤلا حول إلزامية تطبيق هذا النص على كاتب الضبط، بمعنى هل إذا توفرت حالات التجريح يمنع أو يمتنع كاتب الضبط عن القيام بمهمته في كل الأحوال، أم تبقى إمكانية تطبيق هذا النص وتعطيله حسب ظروف كل حالة وموارد كل محكمة أي على سبيل الاختيار؟
كما أن المادة وجهت مقتضياتها نحو هيئة كتابة الضبط، فهل يقصد بهيئة كتابة الضبط هيئة كتابة الضبط المشاركة في هيئة الحكم، وذلك بحكم كون إجراءات كاتب الجلسة اقرب إلى الإجراء القضائي، أم المعنى كامل هيئة كتابة الضبط؟
ورجوعا للمادة نجدها استعملت مصطلح هيئة كتابة الضبط دون تخصيص، وبالتالي فجميع موظفي الهيئة معنيون بمقتضيات هذه المادة، فالعام يؤخذ على عمومه إلى أن يرد ما يخصصه.
فكاتب الضبط حسب الفقرة الرابعة من المادة 19 لا يجوز له القيام بعمل يدخل ضمن وظيفته إذا توفرت حالات التجريح، وبالرجوع إلى المادة الثالثة من النظام الأساسي لكتابة الضبط نجدها لا توصف بشكل محدد مهام كاتب الضبط، بل تحيل على النصوص التشريعية والتنظيمية الجاري بها العمل. لكن عموما فإن مهام كاتب الضبط متنوعة تنطلق من تهيئ الملفات واستدعاء الأطراف والمحافظة على الوثائق والملفات، وتحرير محاضر الجلسات والسهر على إجراءات التحقيق والخبرة وصولا إلى تبليغ الاحكام وتنفيذها، كما أناط المشرع به إجراءات صعوبات المقاولة ومهام حسابية ومسك السجلات، والكثير مما لا يتسع الوقت لذكره.
فالقاعدة أن كاتب الضبط يجب عليه بعد أدائه لليمين القانونية القيام بمهامه بشكل طبيعي وكل امتناع قد يعد خطأ ربما يعرضه لعقوبات تأديبية، إلا أن الفقرة الرابعة من المادة 19 وضعت استثناء على هذه القاعدة حيث يتوقف كاتب الضبط عن القيام بعمله العادي إذا توفرت حالات هذا الامتناع.
وحددت الفقرة المذكورة الحالات التي بتوفرها يتم تجريح كتاب الضبط، وهي الدعاوي الخاصة بهم أو بأزواجهم أو أصهارهم أو أقاربهم إلى درجة العمومة أو الخؤولة أو أبناء الإخوة.
ما يلاحظ على هذه الفئات أنها وردت على سبيل الحصر لا المثال، وبالتالي فلا يجوز التوسع في تفسيرها. كما أن المشروع حدد درجة القرابة والمصاهرة في درجة العمومة أو الخؤولة أو أبناء الإخوة.وحددت المادة 37-2 من مشروع المسطرة المدنية درجة القرابة في الدرجة الرابعة مع إدخال الغاية.
وما يؤخذ على الفقرة إنها اكتفت بتعداد حالات التجريح ولم تتطرق إلى إجراءاته، مما جعل هذا النص الموضوعي منعدم الروح في ظل غياب نص إجرائي يُفعل مقتضياته.
فهل يكون تجريح كاتب الضبط بناء على طلب أو من تلقاء نفسه، سكوت المادة يضعنا في حيرة لن تنجلي إلا بسن نصوص إجرائية توضح ما اغفل من إجراء.
ولم يتوقف غموض النص عند مسطرة ممارسة مقتضياته بل حتى عند الحديث على الآثار القانونية لممارسته، فهل تجريح كاتب الضبط يؤدي إلى بطلان الإجراء وما استتبعه؟
الصيغة اللغوية للنص لا تسمح بالقول ببطلان الأجراء، لأنها جاءت بصيغة الجواز لا الوجوب، وبالتالي فقواعد الفقرة قواعد مكملة أكثر منها أمرة حسب الصياغة اللغوية وحتى حسب نية واضع المادة، لأن هذا الأخير لم يحدد جزاء واضحا لها، ولم يحل على إجراءات مسطرية معينة لتفعيلها. فكأن المادة ولدت ميتة من أصلها.
وسبق القول أن مسألة تجريح هيئة كتابة الضبط نص عليها المشروع في الفقرة الرابعة من المادة 19 التي نحن بصدد دراستها وكذلك في المادة 37-2 من مشروع مسودة قانون المسطرة المدنية، وتكرار نفس النصوص القانونية في مدونات قانونية مختلفة قد يعتبر عبثا، وأعمال المشرع منزهة عن العبث.
فالأجدر الاكتفاء بأحد النصين، مما يطرح السؤال عن المكان المناسب لوضع هذه المادة، هل هو قانون التنظيم القضائي أم قانون المسطرة المدنية؟
للإجابة على هذا التساؤل يجب التمييز بين القاعدة الشكلية والقاعدة الموضوعية، فالقاعدة الموضوعية هي التي تقرر الحقوق والواجبات وتحددها، فتبين كيفية نشأتها ومباشرتها وأثارها وكيفية انتقالها وانقضائها، أما القواعد الشكلية أو المسطرية أوالإجرائية فهي التي تبين الإجراءات والوسائل الواجب إتباعها لكفالة ممارسة واحترام القاعدة الموضوعية.
وبناء على هذا التمييز يمكن القول بأن القاعدة الموضوعية تقرر الحق والقاعدة الشكلية تمكننا من آليات لحماية وممارسة الحق، ولأن الفقرة الرابعة من المادة 19 اكتفت بتحديد حالات تجريح كتابة الضبط دون تحديد لإجراءات ممارسة هذا التجريح، فإن مقتضيات هذه المادة موضوعية أكثر منها شكلية، وعليه يجب الاكتفاء الفقرة الرابعة من المادة 19 من مشروع التنظيم القضائي كقانون موضوع، وتعويض مقتضيات المادة 37-2 من مسودة مشروع قانون المسطرة المدنية كقانون شكل بإجراءات التجريح.
وسيؤدي تطبيق هذه الفقرة لا محالة إلى مجموعة من الآثار من بينها:
أنه سيرفع الحرج عن كثير من كتاب الضبط عند القيام بإجراءات تهمه مباشرة أو بالوساطة تجعله يميل نحو أحد الأطراف دون الأخر.
كما سيعزز تطبيق هذه المادة من تخليق عمل كتابة الضبط، و ويضمن تحقيق التجرد والاستقامة والنزاهة المنشودة.
على النقيض من ذلك قد تحدث مقتضيات هذه المادة اضطرابا في عمل المحاكم، فمثلا قد يمتنع أو يمنع كاتب الجلسة من تحرير محضر الجلسة في ملف توفرت فيه حالات التجريح.
اختم مداخلتي بمجموعة من التوصيات، أهمها:
• يجب وضع نصوص إجرائية لتفعيل مقتضيات الفقرة الرابعة من المادة 19 من المشروع وعدم الاكتفاء بمادة واحدة.
• أن يكون موضوع تجريح كتابة الضبط من بين المواضيع المعروضة على أنظار لجنة صعوبات سير العمل بالمحكمة، التي جاءت بها الفقرة الأخيرة من المادة 18 من المشروع.
• كما يجب استعمال مصطلحات أكثر وضوحا ليسهل على المخاطب بالنص القانوني والممارس له فهمه وتطبيقه.
• توسيع حالات تجريح هيئة كتابة الضبط لتشمل وجود صداقة أو عداوة مشهورة بين كاتب الضبط وأحد الأطراف
قراءة في مقتضيات الفقرة الرابعة من المادة 19 من مشروع التنظيم القضائي.
قراءة في مقتضيات الفقرة الرابعة من المادة 19 من مشروع التنظيم القضائي.
عالي ابعيريس
المصدر
عالي ابعيريس