البنيوية و سؤال المعرفة الإنســــــانية

عالـم القانون20 يناير 2024
البنيوية و سؤال المعرفة الإنســــــانية

مقـــــــــــــــــــــــــــدمة:

المعرفة لغة هي إدراك المرء للأمور على حقيقتها، أما اصطلاحاً فالمعرفة هي نظام يهتمّ بالعالم المادي و السلوك البشري والظواهر الخاصة بهما، حيث إنه ينطوي على تتبع المعرفة التي تزوّد بالحقائق والقوانين الأساسية للأمور المختلفة، ويتبنى المعرفة على الملاحظة والمراقبة ومختلف التجارب المنهجية التي لا تنحاز لفكرة أو قانون معين. ويمكن تعريف المعرفة أيضاً بأنه اتباع منهج معين في دراسة طبيعة الأمور المادية بالاعتماد على القياس والملاحظة والتجارب المختلفة، ومن ثم التوصل إلى قوانين عامة تصف طبيعة الأمور التي تمت دراستها، وتنطوي المعرفة أيضاً على دراسة السلوك البشري إلى جانب الأمور المادية، ومن الأمثلة على المعارف الإنسانية التي تدرس السلوك البشري علم الاجتماع،
ومنه يمكن القول أن المعرفة الإنسانيّة تهدف إلى رصد الظواهر الإنسانيّة والطبيعيّة، والملاحظة، وإجراء التجارب، ووضع الفرضيات، بالإضافة إلى المحاكمة المنطقيّة بهدف التنبؤ بالحوادث المستقبليّة وشرحها، وهو مجموعة من الأصول الكليّة، والمسائل التي تدور حول ظاهرة ما أو موضوع ما يعالج بمنهج محدد وينتهي إلى القوانين والنظريات.
و بناءا عليه فالبنيوية منهج من المناهج المعتمدة في دراسة المعرف الإنسانية، فهي منهج أدبي نقدي يقوم في أساسه على دراسة التصميم الداخلي للعمل الأدبي، من خلال دراسة عناصر ورموز ودلالات معينة يتم تتبعها عنصرًا تلو الآخر، وقد ظهر هذا المنهج في الستينات من القرن العشرين، ومن خلال ما سبق تظهر العلاقة بين البنيوية و المعرفة الإنسانية ، و من أجل التعرف أكثر على البنيوية و المعرفة الإنسانية، فإننا سنعمل على هذا من خلال الإشكالية التالية:
ما هي العلاقة بين البنيوية و المعرفة الإنسانية؟ و قبل الجواب على هذه الإشكالية الأساسية سنعمل على الإجابة على بعض الإشكاليات الفرعية كالتالي:
ما المقصود بالبنيوية و ماهي مراحل تطورها و أبرز روادها؟ و وماهو التطور التاريخي للبنيوية؟ ثم ما مفهوم المعرفة الإنسانية و ماهي أنواعها؟ وهل هناك علاقة بين بين البنيوية و المعرفة الإنسانية؟
و من أجل محاولة معالجة هذا الموضوع من مختلف جوانبه و بالتالي الإجابة على الإشكالية المطروحة و إشكاليته الفرعية سنتعمد التصميم المنهجي التالي:

المبحث الأول: التطور التاريخي للبنيوية و ماهيته
المطلب الأول: حول ماهية البنيوية
المطلب الثاني: تأصيل تاريخي لتطور البنيوية.
المبحث الثاني:مفهوم المعرفة الإنسانية وعلاقته بالبنيوية.
المطلب الأول: مفهوم و أنوع المعرفة الإنسانية
المطلب الثاني: علاقة المعرفة الإنسانية بالبنيوية.

المبحث الأول: التطور التاريخي للبنيوية و ماهيته

إن محاولة فهم هذا الموضوع تنطلق من ضرورة البحث في التطور ألمفاهيمي الذي عرفه على مستوى جميع الحقب التي مر منها(المطلب الأول)، ثم البحث في أبرز تطوراتها عبر التاريخ(المطلب الثاني)، و ذلك بالرجوع إلى رواد المدرسة البنيوية و أهم أفكارهم حولها.

المطلب الأول: حول ماهية البنيوية

تُعرف المدرسة البنيوية بأنّها نظرية فكرية في العلوم الإنسانية، ومن الاختصاصات المتعلقة بها اللغويات، والنظرية الأدبية، والأنثروبولوجيا، بدأ تأثيرها خلال فترة الخمسينيات والستينيات، اعتمادًا على النظريات اللغوية لفرديناند دي سوسير، وتعتبر المدرسة البنيوية أن اللغة مجموعة من الدلالات والإشارات، يصعُب فهمها إلا من خلال ترتيبها معًا بنظام مُحدّد، ومن خلال المنظور الأدبي، تعتقد البنيوية بأنّ كل عمل أدبي يظهر حقيقة شيء معين؛ لذا حلّل النقاد البنيويون التفاصيل الأساسية في العمل الأدبي لاستخراج المعنى الأساسي منه، مثل الحبكة في القصة، وهذا أدّى إلى تطوير الاستنتاجات العامة حول الأعمال الفردية والأنظمة الأساسية لها( )
كما تُعدّ المدرسة البنيوية حركة أدبية مهمة في المجالات الأكاديمية كافّة، المختصة بدراسة اللغة والثقافة والمجتمع، ويعدّ فرديناند دي سوسير أول مَن أطلق البنيوية في النصف الثاني من القرن العشرين عام 1958م، وظهرت فكرة البنيوية لأول مرة في القرن التاسع عشر، أما مصطلح البنيوية فقد ذُكر لأول مرة في أعمال عالم الأنثروبولوجيا الفرنسي كلود ليفي شتراوس، ممّا أدّى إلى ظهورها في فرنسا، مما حفّز لاحقًا المفكرين ميشيل فوكو، ولويس ألتوسير، والمحلل النفسي جاك لاكان، لإنتاج أعمال مبنية على الحركة البنيوية
يُشار إلى ظهور الحركة البنيوية في فترة الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، لكن أهمّها ظهر خلال أعمال المتخصص اللغوي فرديناند دي سوسير الذي كرّس اهتمامه لاستنباط المعاني الرئيسة من اللغة، عِوضًا عن التركيز على التطور التاريخي للغة، فدرسها كأنّها علامات ودلالات تشير إلى مفاهيم أخرى أعمق غير ظاهرة، واعتمدت دراساته على بعض الأسس والمنطلقات أهمها ما يأتي:
اعتماد الفصل بين المعنى الظاهر المتعارف عليه للكلمة في اللغة، وبين المعنى الباطن، إذ إنّ الكلمة الواحدة يوجد لها عدة معانٍ مختلفة عن بعضها بعضًا، ويمكن استخدامها في سياقات عدّة للدلالة على موضوعات مختلفة.
إبقاء الكلمات متّصلة مع باقي الكلمات المرادفة لها في المعنى؛ أي المشابهة لها لتعريفها بدقة، لأنّ كل كلمة في اللغة يتأكد معناها من خلال معرفة مرادفاتها، مثل كلمة “قصر” عند مقارنتها بالكلمة المرادفة لها “منزل”، يؤكد المعنى أو الفكرة الرئيسة لها، كما أنّ معرفة الكلمات المتضادة أو المتناقضة تساعد في تأكيد المعنى لأنها مرتبطة ببعضها بعضًا، مثل كلمة “رجل” عكسها “مرأة”، و”ليل” عكسها “نهار”.
التسليم بعدم اتفاق أو ربط المعنى والمفهوم في بعض الجمل والمواضيع، وتخطّيها لتحليل العقل البشري، ومثال على ذلك مفهوم “إرهابي”، و”مقاتل من أجل الحرية”، كلاهما لا يمكن التمييز بينهما بطريقة محايدة وحقيقية بين موقفهما؛ بسبب اختلاف الأفكار والآراء والتقييمات لدى مختلف الأشخاص.

المطلب الثاني: التأصيل التاريخي لتطور البنيوية.

إن أصل كلمة البنيوية يرجع إلى المصطلح اللاتيني “Struere” وأول استخدام له كان في فن العمارة في القرن السابع عشر، ومن خلاله تم اقتباسه لتوظيفه في العلوم الإنسانية والاجتماعية، والفلسفة، وقامت البنيوية في الأصل على أسس فلسفية وهي خلاصة لجدل كبير دار بين التيار المثالي والتيار المادي في الفلسفة الحديثة. فأخذت البنيوية الإشكال الدائر حول قضيتي الحقيقة والوجود مادة أساسية لها، فالتيارات الفلسفية اختلفت حول مصدر المعرفة الإنسانية وحدودها، وطبيعتها، فالتيار التجريبي يرى أن أصل العرفة البشرية هو الحواس والتجارب، في حين يرى المذهب العقلاني أن العقل هو المصدر الأول للمعرفة على أساس أن هنالك مفاهيم عقلية سابقة للتجربة، وتوسط هذين التياران الكانطية باعتبارها مثالية نقدية. واستعارت البنيوية من المثالية الكانطية السبيل لفحص بنية النص من داخل، ويذكر أن فكرة سجن النسق هي استعارة من الكانطية، فقد أكد بول ريكور على أن البنيوية هي كانطية، ولكن دون فكرة الذات المتعالية، وذلك لأن أصل هذه الفلسفة أن تجعل من النماذج اللغوية مطلقة بعد التدرج في التعميم للوصول إلى حد أن يصبح مطلقًا، لذلك كانت البنيوية ثورة على الذات عند ديكارت والذات المتعالية عند كانط. فالبنيوية تبحث عن الأسس الشاملة للنص التي تقع خارج الإطار الزماني، وتؤكد على وجود نسق أولي ترتكز عليه المظاهر الخارجية التي تقوم عليها النصوص، وهذا الأمر يوضح مدى قرب الفلسفة البنيوية من الفلسفة الكانطية، تحديدًا في نظرية المعرفة الكانطية.
وقد مرت الحركة البنيوية على العديد من المؤثري، ومن أبرزهم ما يأتي:
فرديناند دو سوسير: يعد فرديناند دي سوسير الشخصية الرئيسية لتأسيس علم اللغة الحديث، عاش في الفترة ما بين (1857م – 1913م)، وأثّر على اللغة من خلال نشره لكتاب يحث على تغيير القواعد المتوارثة للأحرف المتحركة في اللغة الهندو أوروبية، ثم تنقل في الجانب الدراسي والمهني، إذ قدّم أطروحة الدكتوراه حول التركيب الصرفي في اللغة السنسكريتية، ثم قدّم عدّة أعمال عن الليتوانية بعد عودته إلى موطنه جنيف؛ بسبب إنشاء تخصص حول اللغة السنسكريتية وتاريخ ومقارنة اللغات له عام 1891م، وربط هذه الأعمال بكتابه السابق حول الحروف المتحركة والتي نتج عنها قانون سوسير. لاحقًا قدّم ثلاث دورات في علم اللغة العام في جامعة جنيف بعد تطويره منهجًا للغات وعرضه كنظام للإشارات والدلالات، وكل علامة فيه تتكون من (دال) يُعنى فيه (النمط الصوتي)، و(مدلول) أي (المفهوم) يرتبط كلاهما معًا بشكل بدهيّ للعقل البشري مكونًا نظام لغوي مشترك، وكل دال ومدلول في هذا النظام هو قيمة ناتجة عن اختلاف الدالّات أو الدلائل الأخرى الموجودة معًا في النظام اللغوي النموذجي المتعارف عليه، وبعد وفاة سوسير جمع زملاؤه ملاحظات الطلاب الناتجة عن الدورات مع ملاحظات سوسير ونتج عن ذلك كتاب يعد أساس النهج البنيوي في اللغة، ثم ارتبط في مجالات أخرى لاحقًا بعد نشره عام 1916م.
رولان بارت: يُعرف رولان جيرار بارت بأنّه كاتب مقالات وناقد اجتماعي أدبي فرنسي، اختصت معظم أعماله حول السيميائية، ودراسة الرموز العلامات التي اخترعها فرديناند دي سوسير، ويعد مؤسس رئيسيّ للحركة البنيوية والنقد الجديد، عاش في الفترة ما بين (1915م – 1980م)، نشأ في فرنسا، ودرس في جامعة باريس، وفي عام 1939م حصل على شهادة في الآداب الكلاسيكية، وفي عام 1943م حصل على شهادة في قواعد اللغة وعلم اللغة، عمل رولان في المركز الوطني للبحوث العلمية، ثم عمل في كلية العلوم التطبيقية، وكان أول رئيس لقسم علم الأحياء الأدبية في جامعة فرنسا عام 1976م.
تزفيتان تودوروف: يعد تسفيتان تودوروف من أبرز رواد الدراسات الأدبية وله مكانة رفيعة في الفكر الأوروبي، من أبرز المنظرين الثقافيين عالميًا، تأثرت العديد من الموضوعات بنظرياته مثل: علم السرد، وعلم الأخلاق، وحتى الرسم، والسياسة، وهو فرنسي ولد في بلغاريا، وعاش في الفترة ما بين (1939م – 2017م) قدّم نقاشات عديدة حول تغيّر أفكاره في التاريخ والثقافة خلال فترة الثمانينيات مع عدة مفكرين فرنسيين مثل جان جاك روسو، وميخائيل باختين، كما تناول مفهومه عن التنوير، وأفكاره حول التأريخ، ودفاعه عن الهوية الأوروبية، وآراءه الفلسفية حول السياسة، وآراءه الناقدة حول الشمولية. جيرار جينيت: يُعرف جيرار جينيت بأنّه عالم أدبي، ومنظّر بنيوي، ومؤثر معروف بتطوير علم السرد في الأدب، بالرغم من ظهور هذا العلم قبل وجوده، ولد عام 1930م، وعمل ككاتب ومعلم، حتى عُيّن كأستاذ للأدب الفرنسي في جامعة السوربون، ومحاضر معروف في المدرسة العليا للنورمال، بالإضافة إلى عمله كعميد أكاديمي في مدرسة الدراسات العليا في العلوم الاجتماعية، بالإضافة إلى تأسيسه وإدارته لمجموعة Poetics في دار النشر Seuil، ونال جيرار شهرة عالمية بعد تطويره مصطلحات لوصف عمل السرد.
حميد الحميداني: يُعرف حميد الحميداني بأنه أديب مغربي، ولد في 1 من شهر يناير في مدينة تازة بالمغرب، والده مزارع يدعى أحمد بن عبد السلام، ووالدته ربة منزل تدعى طاهرة بنت محمد، تزوج في شهر أيار عام 1990م وله طفلان، حصل على شهادة البكالوريوس من جامعة محمد الخامس عام 1976م، كما حصل على شهادة الدكتوراه من جامعة ستراثكلايد عام 1982م، وفي السنة نفسها عمل في جامعة سيدي محمد بن عبد الله في فاس بالمغرب كأستاذ للأدب الإنجليزي والأمريكي، وعُيّن كعضو في اتحاد كتّاب المغرب. صلاح فضل: يُعدّ الدكتور صلاح فضل من القامات الأدبية العربية المعروفة، وُلد في 21 من شهر مارس عام 1938 بقرية شباس الشهداء في مصر، وحصل على شهادة البكالوريوس من كلية دار العلوم في جامعة القاهرة عام 1962م، ثم عمل معيدًا في كلية دار العلوم حتى نال منحة للدراسات العليا في الجامعة المركزية في مدريد بإسبانيا وحصل على شهادة الدكتوراه في الآداب عام 1972م، وخلال فترة دراسته هناك درّس الأدب العربي والترجمة في كلية الفلسفة والفنون بجامعة مدريد ما بين الفترة 1968م – 1972م، ولاحقًا عمل كأستاذ للأدب والنقد في كلية اللغة العربية وكلية البنات في جامعة الأزهر.

المبحث الثاني:مفهوم المعرفة الإنسانية وعلاقته بالبنيوية.

بعد أن تعرفنا على ماهية البنيوية و أهم روادها عبر التاريخ فإنه أضحى لزاما علينا و إنطلاقا مما سبق أن نبحث حول مفهوم المعرفة الإنسانية(المطلب الأول) ثم علاقة هذه الأخيرة أي المعرفة الإنسانية بالبنيوية(المطلب الثاني)، حتى يكتمل لدينا صرح الإجابة على إشكالية الموضوع.

المطلب الأول: مفهوم و أنوع المعرفة الإنسانية.

يمكن تعريف المعرفة بأنها قدرة الفرد على استيعاب وإدراك ما يدور حوله من حقائق، والوعي في الحصول على المعلومات واكتسابها من خلال القيام بالتجارب أو بالملاحظة والتأمل وكما يمكن التوصل للمعرفة والوعي بواسطة مراقبة ما قام به الآخرين والاطلاع عليه والتمعن في ما توصلوا إليه من استنتاجات، ويرتبط مقدار المعرفة بسرعة البديهة والسعي الدؤوب في البحث عن الأشياء المجهولة واكتشافها وكشف أسرارها، وتنمية القدرات الفردية بالاعتماد على الاستنتاجات، كما يمكن تعريف المعرفة بأنها ما يكتسبه الفرد من خبرات ومهارات، والتي يقوم أساساً على التجربة والتعلّم بالدرجة الأولى، المتمثلة بالفهم بشقيّه النظري والعملي لأي فكرة أو موضوع، وكما يمكن تعريفه بأنه ثمرة التوسع في المقابلات والاتصال في عدة اتجاهات مختلفة.
و فيما يتعلق بأنواع المعرفة فيمكننا الحديث على:
المعرفة الشخصية: المعرفة الشخصية يقوم هذا النوع من أنواع المعرفة على الخبرة الذاتية واكتسابها، والنابعة من الاطلاع، وحتى تتمكن من معرفة شيء ما يتطلب منك الأمر التجربة، إذ تُعتبر التجربة والاكتساب من أساسيّات المعرفة الشخصيّة، بالإضافة إلى التعرّف على فرضيات بأسلوب خاص بها.
المعرفة الإجرائيّة: هي القدرة على أداء أمر أو عمل ما من خلال فهم نظرياته الكامنة في صميم العمل، أي أنه يمكن للفرد أن يكون ملمّاً بنظريات وجميع أفكار نشاط ما لكن دون القدرة على تطبيقه على أرض الواقع، وحتى تكون المعرفة فعلية يجب أن تتم التجربة والتطبيق للأمور.
المعرفة الافتراضيّة: يعتمد هذا النوع من أنواع المعارف على التعمّق بالحقائق والوقائع ومعرفتها عن كثب، ويعدّ هذا النوع في غاية الأهمية والإثارة بالنسبة للفلاسفة، وتعتمد على الافتراضات، ويمكن وصفها بأنها المعرفة الحقيقية للوقائع.
ومن خلال ماسبق نستنج أن المعرفة الإنسانية تعتبر فرعاً من فروع المعرفة المختصة بدراسة البشر و ثقافتهم بطريقة علمية باستخدام المناهج النقدية والتحليلية للتساؤلات المرتبطة بالقيم الإنسانية وقدرة الإنسان عى التعبير عن نفسه، وتمتاز العلوم الإنسانية عن غيرها من التخصصات الأكاديمية بمضمونها و منهجها المختلف، وتُوصف المعرفة الإنسانية بأنّها دراسة تحليلية لخبرات وأنشطة البشر، و معرفة آليات معالجتهم للتجربة البشرية وتوثيقها.

وفي ضوء المفهوم الواسع للمعرفة الإنسانية يُمكن فهم سبب شمولها لمجموعة ضخمة ومتنوعة من الفروع الأكاديمية المتاحة للدراسة، حيث تشمل دراسة معرفة الإنسانية مجموعة من المجالات يمكن إبرازها في:
علم الآثار: يختص علم الآثار بدراسة البقايا الماديّة التي خلّفها الإنسان قديماً وحديثاً؛ فقد يدرس علماء الآثار أحافير يبلغ عمرها ملايين السنوات من الأجيال البشرية القديمة في أفريقيا، أو قد يدرسون مخلفات البشر المادية من القرن الحالي في إحدى المدن الكبرى مثل نيويورك، و يهدف علم الآثار إلى دراسة وتحليل البقايا المادية للوصول إلى فهم واسع وشامل للثقافة الإنسانية، ويدرس علماء الآثار منطقةً جغرافيةً محددةً من العالم أو موضوعاً محدداً؛ فالتخصص بمنطقة معينة أو موضوع محدد يسمح لهم ببناء وتطوير خبرة تراكمية في ذلك، و يُعدُّ علم الآثار حقلاً أكاديمياً يشمل عدّة أنواع من الدراسات كالآتي:
علم الآثار الحيوية الذي يدرس البقايا البشرية،
علم الآثار الحيوانية الذي يدرس بقايا الحيوانات.
علم الحفريات القديمة الذي يدرس بقايا النباتات القديمة.
دراسة بقايا الصخور والأحجار.
دراسة الأدوات والتقنيات التي تُساعد على تحديد المواقع الأثرية.
الدين المقارن: يُشير مصطلح الدين المقارن إلى أحد فروع دراسة الأديان التي تهتم بدراسة جميع التقاليد والممارسات في أديان وعقائد العالم المختلفة، ويمتاز هذا الفرع بأنّه لا يدرس دين واحد وإنّما يتناول الاهتمامات والأسس الفلسفية للأديان المختلفة و يدرسها من منظور عالمي وبشكل علمي وأكاديمي؛ ليُحدّد القواسم المشتركة ونقاط الاختلاف فيما بينها. التاريخ: تُقدّم دراسة التاريخ مؤشّرات للأفراد والمجتمعات حول سبل وآليات تحقيق التطوّر والتقدّم مستقبلاً من خلال فحص ودراسة الأحداث و التداعيات الثقافية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية المرتبطة بالمجتمع الإنساني، والتي تختلف باختلاف الزمان والمكان، ومن هنا تكمن أهمية دراسة التاريخ بكونها تُلهم الأفراد والأمم والمجتمعات للأفضل بخصوص مستقبلهم، وذلك بالاستفادة من الماضي والخبرات السابقة للمجتمع البشري في إحداث التغييرات التاريخية.
فنون الأداء: تشمل فنون الأداء مجموعةً متنوعةً من الفنون، مثل: الموسيقى، والغناء، والرقص، والمسرح، تُعبّر عن التراث الثقافي غير المادي لأيّ مجتمع، كما تعكس الثقافة الشعبية وتُظهر عنصر الإبداع البشري،وبشكل عام يوجد مساران من الدرجات العلمية والشهادات الأكاديمية في فنون الأداء؛ يعتمد المسار الأول على جانب التطبيق والممارسة إذ يقوم على درجة كبيرة من الأداء الفعلي منذ اليوم الأول، أمّا المسار الثاني فهو المسار الأكاديمي الذي يدمج بين التطبيق العملي والتحليل العلمي والأكاديمي للموضوع قيد الدراسة؛ لذلك غالباً يتمّ تدريس فنون الأداء في الجامعات والمؤسسات المختصة من خلال مزيج من المحاضرات التدريسية وورش العمل.
الفلسفة: تُعتبر الفلسفة علماً يقوم على استخدام أدوات المنطق والعقل لتحليل الطرق التي يختبر بها الإنسان عالمه، وتطرح الفلسفة بمختلف مجالاتها مجموعةً من الأسئلة الفلسفية أهمّها: هل تصف حواسنا الحقيقة بدقة؟ ما الذي يجعل الخطأ خطأ؟ كيف يجب أن نعيش؟ وفي ضوء هذه الأسئلة الفلسفية تُركّز الفلسفة على تزويد دارسيها بطرق الإجابة من خلال إكسابهم مهارات وأدوات التفكير النقدي، والقراءة الدقيقة، والكتابة الواضحة، والتحليل المنطقي؛ ليتمكّن الفلاسفة من توظيف تلك المهارات والأدوات في وصف العالم وتحديد مكان الإنسان فيه.
الأدب: يُطلق مصطلح الأدب على مجموعة الأعمال الشعرية والنثرية المكتوبة التي يتّسم مؤلفّوها بقدرة عالية على التعبير والتصوير الجمالي لمشاعرهم وخواطرهم وعكسها بأرقى أساليب الكتابة، ويُصنّف الأدب وفقاً لمجموعة متنوعة من الأنظمة، بما في ذلك اللغة، والأصل القومي، والفترة التاريخية، والنوع، والموضوع، وتشمل الدراسات الأدبية جميع الأعمال المكتوبة التي تتضمّن عنصر الخيال؛ كالشعر، والدراما، والسرد الأدبي.
اللغات: تهدف دراسة اللغات أو لغة محددة كتخصص أكاديمي إلى تحسين كفاءة الطالب وفهمه في هذه اللغة، وعادةً تختلف الخطة الدراسية عند دراسة اللغات كتخصص من لغة لأخرى ومن مؤسسة أكاديمية لأخرى، إلاّ أنّ هناك قاسم مشترك بين دراسة اللغات المختلفة يتمثّل في كون معظم الدرجات العلمية والشهادات الأكاديمية المتخصصة باللغات تُركّز بشكل أساسي على تحسين طلاقة الطالب وقدرته على القراءة والكتابة والتحدّث بلغة أخرى غير لغته الأم، كما أنّها تُغطّي التاريخ والسياسة والأدب والثقافة المرتبطة باللغة المختارة. الإعلام ودراسات التواصل: يشمل تخصّص الإعلام ودراسات التواصل دراسة التواصل الجماهيري، ويتطرّق أحياناً لدراسة بعض القضايا المرتبطة بالعلوم الاجتماعية والإنسانية وعلاقتها بالإعلام، كما تتحدّث دراسات التواصل والإعلام عن نشأة وتاريخ وتأثيرات أشكال وسائل الإعلام المختلفة على المجتمع بالإضافة إلى الطريقة المثلى التي يُمكن استخدامها لتوصيل رسائل مختلفة، وعند دراسة الإعلام ودراسات التواصل كتخصص فإنّ الموضوعات التي يتمّ دراستها تختلف من جامعة لأخرى، لكن عموماً يجب أن تشمل دراسة التخصص عدداً من المواضيع و القضايا المهمّة، أهمّها ما يأتي:
* دراسة النظريات التي تتناول دور وسائل الإعلام في المجتمع خلال العام الأول.
* تناول تأثير وسائل الإعلام على بعض الظواهر الاجتماعية و السياسية المهمة خلال العامين الثاني والثالث، كدراسة تأثير وسائل الإعلام على المرأة، والحروب، والجرائم، وغيرها.
ا* لتعرّف على أهم التقنيات المستخدمة في صناعة الأفلام، والأفلام الوثائقية، وبرامج الراديو، وألعاب الفيديو، و غيرها.
فن الاستوديو: يشمل فن الاستوديو جميع الفنون المرئية التي قد تكون مصنوعةً في استوديو، مثل: التصوير الفوتوغرافي والتصميم، أو فنون مشابهة لحدّ كبير للفنون المصنوعة باستديو؛ كالفنون المبتكرة من الرسم، والتلوين، والأعمال اليدوية؛ كالسيراميك، و النحت، والرسم على الزجاج، كما يُستخدم مصطلح فن الاستوديو لوصف الفن الرقمي، ويُعدّ فن الاستوديو الطلاب للعمل في مجالات عديدة ومتنوعة أبرزها مهن الفنون، والإعلام، والهندسة المعمارية، وتصميم وصناعة الرسوم المتحركة وألعاب الفيديو، وصناعة الأفلام، والتصميم الجرافيكي، وتصميم المواقع الإلكترونية والمنصات الإعلامية، وغيرها العديد من المجالات، وتتوقع الإحصائيات الرسمية لمكتب إحصاءات العمل (BLS) أن يزيد التوظيف في مهن الفنون والتصميم في العام 2028م بنسبة 3% عمّا كانت عليه عام 2018م، وهذا يعني أنّه ستكون هناك حاجة لمزيد من المختصين بهذا المجال لتلبية الطلب المتزايد على التأثيرات المرئية في ألعاب الفيديو، والأفلام، والتلفزيون، والهواتف الذكية.

المطلب الثاني : علاقة المعرفة الإنسانية بالبنيوية.

تكمن أهمية دراسة المعرفة الإنسانية في أنّها تُشكّل قاعدةً أساسيةً للعديد من الوظائف، حيث يكتسب دارسوها مهارات التفكير النقدي و التحليلي، الأمر الذي يمنحهم قدرةً كبيرةً ومميزة للتعبير عن أنفسهم بوضوح؛ ممّا يُكسبهم درجةً عاليةً من المرونة و التكيّف على الصعيد المهني، كما تُقدّم المعرفة الإنسانية فرصةً مميزةً لإكمال التعليم العالي، حيث تُهيّئ الظروف لدارسيها لاستمرارهم بالتعليم على مستوى درجات علمية متقدمة كالماجستير و الدكتوراة، كونها تُكسبهم العديد من المهارات التي يُمكن تطبيقها في مجالات واسعة ضمن حقل الآداب و العلوم الإنسانية، فمثلاً يستطيع الطالب الحاصل على درجة البكالوريوس في التاريخ تحصيل درجة علمية في مجال القانون، أو علوم المكتبات، كما ساهمت البنيوية في بروز المعارف الإنسانية، بالنظر للتطور و الإهتمام الكبير الذي عرفته البنيوية كألية لدارسة المعارف الإنسانية
و الواضح أنّ ما حققته البنيوية من صهر للمنهجين الداخلي والخارجي يُعد حاجةً ملحةً للإفادة من المعرفة الإنسانية؛ لهذا تسلط البنيوية على القضايا المركزية التي تتضمنها النصوص الأدبية؛ وذلك ببيان صلة البنية بالتحولات الاجتماعية التي تُهيمن على أنظمة النص الأدبي. كما يُركز المنهج البنيوي التكويني على دراسة آليات تكوين النصوص الأدبية، إذ يُظهر طرائق تشكيلها من خلال بيان العلاقات الداخلية والخارجية، وجاء هذا المنهج لتجنب الإشكاليات التي تعرضت لها البنيوية الشكلانية، خاصةً مسألة إغلاق النص الأدبي.وقد أظهر هذا المنهج أهمية الإفادة من المرجعيات الاجتماعية والتاريخية؛ لوعي المضامين الفكرية التي يُكونها النص الأدبي، ويعتمد المنهج البنيوي على أربعة عناصر في دراسة النصوص الأدبية؛ وهي فيما يأتي البنية الدالة و الفهم والتفسير والكلية والانسجام. وجدير بالذكر أنّ البنيوية تجاوزت عدداً كبيراً من الإشكاليات التي تعرضت لها البنيوية الشكلانية، ومنها إغفال المؤثرات الاجتماعية والتاريخية لمؤلف النص المراد تحليله، وإغلاق النص والعناية بالجانب الداخلي، وتعمل البنيوية على كشف الجوانب الاجتماعية التركيبية، وأبعاد الأعمال الأدبية الداخلية، و هذا ماهو سوى تجلي من تجليات البنيوية على جزء من المعرفة الإنسانية و الذي يوضح الدور الكبير لهذا للبنيوية في مجال المعرفة الإنسانية.

خاتمـــــــــــــــة:

إذا كانت المعرفة الإنسانية هي مجموع المعارف المرتبطة بالإنسان و التي درج الإنسان على تعلمها و تطويرها عبر الأزمان، فإن البنيوية هي ذلك المنهج النقدي الذي ظهرت حديثا ملامحه الواضحة والمتكاملة في الفكر الحديث وقد تبلورت في حوار مع مناهج سابقة أو معاصرة، ومع مجموعة من العلوم كاللسانيات والأنثروبولوجيا وعلم النفس، لكنها (البنيوية) ظلت أداة للنظر والتحليل ولم تتحول إلى علم أو نظرية قائمة الذات، إلأ أنها فرضت نفسها أي البنيوية كمنهج مهم و متميز في المعرفة الإنسانية.
فالتفكير البنيوي يعتمد الملاحظة المنظمة للظواهر ووضع الفروض وإجراء التجارب وجمع البيانات وتحليلها لتثبت من صحة تلك الفروض. فهو يعتمد على جمع الأدلة والبراهين المادية والعلمية التي تساعد على إصدار تعميمات محتملة الصدق والثبات، وتستمد هذه المعرفة صحتها لا بكونها مبرهن عليها وغير متناقضة منطقيا في ذاتها، بل وفي المقام الأول لكونها قابلة للاختبار من خلال الممارسة، أي من خلال الملاحظة والتجربة العلمية. وبذلك فهي تختلف عن الاعتقاد الأعمى والذي هدفه التسليم المطلق بصحة موضوع ما دون القيام بالبحث عنه على أسس علمية والتحقق من ذلك علميا أيضا.
و عليه فيمكن الخروج باستنتاج مفاده أن المعرفة الإنسانية إستفادت كثيرا من البنيوية كمنهج نقدي، حيث أن هذا الأخير ساهم في تطويرها، ناهيك على أنه فرض نفسه على الساحة في الأونة الأخيرة، مما جعلها تبرز عن طريق العمل بها في مجالات المعرفة الإنسانية.

Leave a Comment

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


Comments Rules : من شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الإلهية، والابتعاد عن التحريض العنصري والشتائم.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

We use cookies to personalize content and ads , to provide social media features and to analyze our traffic...التفاصيل

موافق