مشروع قانون المسطرة الجنائية الجديد بالمغرب: بين تحديث المنظومة وضمان العدالة الجنائية

إصلاح المسطرة الجنائية بالمغرب: خطوة نحو عدالة فعالة وضمانات أقوى للحقوق والحريات

شعار المملكة المغربية فوق لافتة زرقاء كُتب عليها "إصلاح المسطرة الجنائية" باللغة الإنجليزية، في تصميم يعبر عن مشروع قانون جديد في مجال العدالة الجنائية.

مقدمة:

 

في ظل التحولات التي يشهدها المغرب على المستويين القانوني والمؤسساتي، تأتي مصادقة مجلس النواب، بالأغلبية، على مشروع قانون المسطرة الجنائية رقم 03.23، كخطوة استراتيجية تروم تعزيز دعائم دولة الحق والقانون وتحديث العدالة الجنائية.

وقد وصف وزير العدل، عبد اللطيف وهبي، هذا النص التشريعي الجديد بـ”دستور العدالة الجنائية”، نظرًا لما يتضمنه من مستجدات جوهرية تعيد ترتيب العلاقة بين أطراف العملية الجنائية، وتفتح آفاقًا جديدة نحو ترشيد الممارسة القضائية وتوسيع ضمانات المحاكمة العادلة.

 

فما هي أبرز مضامين هذا المشروع؟ وما هي خلفياته وسياق صياغته؟ وهل يرقى فعلاً إلى طموحات الإصلاح الشامل لمنظومة العدالة الجنائية؟ هذه الأسئلة تشكل جوهر الإشكالية التي سيعالجها هذا المقال.

 

أولاً: السياق العام لإعداد مشروع قانون المسطرة الجنائية الجديد

 

تندرج مراجعة قانون المسطرة الجنائية ضمن أوراش الإصلاح الكبرى التي أعلن عنها المغرب منذ سنوات، وخاصة بعد صدور دستور 2011، الذي أرسى مبادئ الحكامة القضائية واستقلال السلطة القضائية وضمان المحاكمة العادلة. كما جاء هذا المشروع استجابة للتوصيات المتكررة للمؤسسات الوطنية، كالمجلس الأعلى للسلطة القضائية ورئاسة النيابة العامة والمجلس الوطني لحقوق الإنسان، إضافة إلى التزامات المغرب الدولية في مجال حقوق الإنسان.

 

ثانياً: مستجدات مشروع القانون رقم 03.23

 

1. تعزيز ضمانات المحاكمة العادلة:

 

من أبرز ما جاء به المشروع، تقوية حقوق الدفاع، لا سيما من خلال توسيع صلاحيات المحامي خلال مراحل التحقيق والاستنطاق، وتكريس مبدأ حضور المحامي لدى الضابطة القضائية، وإخطار هيئة الدفاع بكافة الإجراءات الجوهرية.

2. ترشيد الاعتقال الاحتياطي:

 

اعتبر الاعتقال الاحتياطي في المشروع إجراءً استثنائياً يجب تبريره واللجوء إليه فقط عندما تتعذر البدائل. كما تم التنصيص على إلزامية تعليل قرارات الاعتقال، وإخضاعها لمراقبة دورية من طرف قاضي التحقيق.

 

3. توسيع استعمال الوسائل الرقمية:

 

 

في إطار التوجه نحو رقمنة الإدارة القضائية، جاء المشروع بإجراءات تتيح استخدام التكنولوجيا في التبليغ، وتقديم الشكاوى، وعقد الجلسات عن بعد في بعض الحالات، مما من شأنه تقليص زمن التقاضي وتخفيف العبء على المحاكم.

4. حماية ضحايا الاتجار بالبشر:

 

استلهم المشروع مقاربته من الاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان، حيث عزز تدابير حماية الضحايا، خصوصًا النساء والأطفال، من خلال ضمان السرية، وتوفير الترجمة، والمساعدة القانونية، والحق في التعويض.

 

5. مأسسة الوساطة الجنائية والعقوبات البديلة:

 

يُعدّ من أبرز الابتكارات التي جاء بها المشروع هو إدخال آليات الوساطة الجنائية والعقوبات البديلة، مثل العمل لفائدة المصلحة العامة، والغرامات اليومية، والتتبع القضائي، ما يسهم في تقليص الاكتظاظ داخل المؤسسات السجنية وتكريس مفهوم العدالة التصالحية

 

.
ثالثاً: الانتقادات الموجهة لمشروع القانون

 

رغم أهمية المستجدات التي جاء بها المشروع، إلا أن بعض الهيئات الحقوقية والقانونيين اعتبروا أن المشروع لم يبلغ بعد مستوى الطموح المنشود. فقد تم تسجيل غياب بعض المقتضيات المتعلقة بالحماية الصريحة للصحفيين ومبلغي الفساد، وعدم كفاية الضمانات الخاصة بمناهضة التعذيب وسوء المعاملة خلال الحراسة النظرية، فضلاً عن ضرورة تأطير دقيق لاستخدام التقنيات الحديثة ضماناً لعدم المساس بالمعطيات الشخصية.

 

رابعاً: أهمية المشروع في تكريس العدالة الجنائية الحديثة من منظور مقارن،

 

فإن مشروع قانون المسطرة الجنائية المغربي يندرج في اتجاه تحديث المنظومة الجنائية على غرار العديد من التشريعات المقارنة، التي تسعى إلى إعادة التوازن بين متطلبات الأمن واحترام الحريات الفردية. ويمثل هذا المشروع تحوّلاً من منطق الزجر العقابي التقليدي نحو منطق إعادة الإدماج وحماية المجتمع عبر تدابير أكثر نجاعة وإنصافاً.

 

خامساً: أدوار الفاعلين في تنزيل المشروع

 

تتوقف فعالية هذا المشروع على انخراط كافة المتدخلين في العدالة الجنائية، من قضاة ونيابات عامة، وهيئات دفاع، وضابطة قضائية، ومجتمع مدني. كما أن التنزيل الفعلي للمقتضيات الجديدة يتطلب موارد بشرية مؤهلة، وبنية تحتية رقمية متطورة، وتكويناً مستمراً يتلاءم مع المستجدات القانونية والتقنية.

 

خاتمة:

 

إن مشروع قانون المسطرة الجنائية رقم 03.23 يشكل لحظة فارقة في مسار إصلاح العدالة الجنائية بالمغرب، لما يحتويه من مقتضيات تروم الموازنة بين نجاعة العدالة وحماية الحقوق والحريات.

غير أن التحدي الحقيقي يكمن في التنزيل السليم والفعال لهذه النصوص، وهو ما يستدعي يقظة مجتمعية ومؤسساتية مستمرة لضمان ألا تبقى المبادئ المعلنة حبيسة النصوص، بل تتحول إلى ممارسات يومية تُجسد فعلاً قيم العدالة والكرامة والإنصاف.

Leave a Comment

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


Comments Rules : من شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الإلهية، والابتعاد عن التحريض العنصري والشتائم.

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

We use cookies to personalize content and ads , to provide social media features and to analyze our traffic...التفاصيل

موافق