الإمارات وتشديد الرقابة على وسائل التواصل

تحويل مستخدمي وسائل التواصل إلى النيابة العامة بالإمارات: قراءة قانونية وتحليلية شاملة

عالـم القانون2 سبتمبر 2025
إعلان بصري يحمل عبارة "UAE Social Media Crackdown" مع رموز القضاء والحظر، يعكس تشديد الإمارات على مراقبة المحتوى في وسائل التواصل الاجتماعي.

 

المقدمة

 

لم تعد شبكات التواصل الاجتماعي مجرد منصات افتراضية للتسلية أو التواصل بين الأفراد، بل تحولت إلى فضاءات ضخمة للإعلام والتأثير وصناعة الرأي العام، وأصبحت توازي في أهميتها القنوات الإعلامية التقليدية، بل وتتفوق عليها أحيانًا في سرعة الانتشار والوصول إلى الجمهور. في المقابل، ومع هذا الانتشار الكبير والتأثير المتزايد، ظهرت إشكالات قانونية وأمنية تتعلق باستخدام هذه المنصات، خصوصًا ما يرتبط بالمحتوى المنشور، ومدى التزامه بالقوانين الوطنية والمعايير الأخلاقية.
في دولة الإمارات العربية المتحدة، التي تعد من أبرز الدول التي اعتمدت نهجًا استباقيًا في تنظيم البيئة الرقمية، نجد أن السلطات القانونية تولي اهتمامًا بالغًا بمسألة ضبط المحتوى المنشور على وسائل التواصل الاجتماعي، بما يضمن التوازن بين حرية التعبير من جهة، وحماية الأمن القومي والنظام العام والمصلحة العامة من جهة أخرى. وقد اتخذت الإمارات سلسلة من الإجراءات الصارمة لمكافحة الانتهاكات الرقمية، لا سيما تلك المتعلقة بالتشهير، نشر الأخبار الكاذبة، أو التحريض على الكراهية.
وفي هذا السياق، شهدت الآونة الأخيرة إحالة عدد من مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي إلى النيابة العامة في الدولة، بسبب مخالفات مرتبطة بالقوانين الإعلامية والأمن السيبراني، وهو ما أثار نقاشًا واسعًا بين المتابعين والخبراء القانونيين، حول مدى مشروعية هذه التدابير، وحدودها، وأثرها على حرية التعبير، فضلًا عن الأبعاد الأمنية والاجتماعية لهذه الممارسات.
إن ما يميز التجربة الإماراتية في هذا المجال هو قدرتها على الجمع بين التطور التكنولوجي المتسارع، والحفاظ على الضبط القانوني، من خلال سن تشريعات واضحة ومواكبة للتحولات الرقمية، مثل قانون مكافحة الشائعات والجرائم الإلكترونية، وقانون النشر الإلكتروني، وقانون الإعلام، وغيرها من النصوص القانونية التي وضعت أسسًا دقيقة لضبط السلوك الرقمي.
لكن هذه الإجراءات الصارمة تثير في الوقت نفسه أسئلة جوهرية حول الحدود الفاصلة بين حرية التعبير والالتزام بالقانون، وحول المعايير التي يتم من خلالها تحديد المخالفات الرقمية، ومدى تأثير ذلك على البيئة الرقمية في الدولة.
إن موضوع “تحويل مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي إلى النيابة العامة في الإمارات” ليس مجرد حدث عابر، بل هو قضية متشعبة ذات أبعاد قانونية واجتماعية وأخلاقية، تستحق دراسة معمقة لفهم فلسفة التشريع الإماراتي في مجال الإعلام الرقمي، والآليات التي تعتمدها الدولة في مواجهة التحديات الناجمة عن ثورة الاتصالات والمعلومات.
ومن هنا تنبثق الإشكالية المركزية لهذا المقال:

 

إلى أي مدى يتلاءم تشديد الإمارات على إحالة مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي المخالفين إلى النيابة العامة مع حماية الحقوق الرقمية، وضمان الأمن السيبراني، وتحقيق التوازن بين حرية التعبير والالتزام بالقانون؟

 

المحور الأول: الإطار القانوني المنظم لاستخدام وسائل التواصل الاجتماعي في الإمارات

 

أولاً: تطور التشريعات الرقمية في الإمارات

 

شهدت الإمارات تطورًا تشريعيًا مهمًا في مجال تنظيم الفضاء الرقمي منذ صدور القانون الاتحادي رقم 5 لسنة 2012 بشأن مكافحة الجرائم الإلكترونية، والذي عُدّل لاحقًا ليواكب المستجدات الرقمية. هذا القانون وضع ضوابط صارمة بشأن نشر المعلومات الكاذبة، أو المحتوى الذي يمس الأمن الوطني، أو يشكل تعديًا على الخصوصية.
كما اعتمدت الدولة قانون مكافحة الشائعات والجرائم الإلكترونية لعام 2021، والذي شدد العقوبات على الأفعال التي تنطوي على نشر أخبار مضللة أو التحريض على الكراهية، إضافة إلى تنظيم المحتوى الإعلامي عبر الإنترنت.

ثانيًا: نطاق الأفعال المجرّمة

من أبرز المخالفات التي تؤدي إلى إحالة المستخدمين إلى النيابة العامة:
• نشر معلومات كاذبة أو مضللة تؤثر على الأمن أو الاقتصاد.
• التشهير بالأشخاص أو الهيئات عبر منصات التواصل.
• التحريض على الكراهية أو التمييز العنصري والديني.
• اختراق خصوصية الأفراد عبر نشر صور أو مقاطع دون إذن.
• انتهاك القوانين المتعلقة بحقوق الملكية الفكرية على المنصات الرقمية.

ثالثًا: العقوبات المقررة قانونًا

تتراوح العقوبات بين الغرامات المالية الكبيرة التي قد تصل إلى ملايين الدراهم، والحبس لمدد متفاوتة بحسب خطورة الفعل، إضافة إلى إغلاق الحسابات المخالفة وحجب المحتوى.

المحور الثاني: الأسباب والدوافع وراء تشديد الرقابة والإحالة إلى النيابة العامة

1. حماية الأمن السيبراني والمجتمع
في ظل التنامي الكبير للأخبار المضللة التي يمكن أن تؤثر على الاستقرار، تأتي هذه الإجراءات كجزء من استراتيجية وطنية لحماية الأمن السيبراني.
2. مواجهة ظاهرة خطاب الكراهية والتحريض
وسائل التواصل قد تتحول إلى منصات للتحريض ونشر الكراهية، ما يستوجب تدخلًا حازمًا لحماية النسيج الاجتماعي.
3. تعزيز مصداقية الإعلام الرقمي
الرقابة القانونية الصارمة تضمن التزام المؤثرين والمستخدمين بالمصداقية، وتحد من ظاهرة الأخبار الزائفة التي تهدد الثقة في الفضاء الرقمي.

المحور الثالث: التحديات والانتقادات الموجهة لهذه السياسة

أولاً: جدلية حرية التعبير

ينتقد البعض هذه الإجراءات باعتبارها قد تُقيد حرية التعبير، ما يثير سؤالًا حول المعايير التي تحدد الفرق بين الرأي والمخالفة.

ثانيًا: صعوبة الرقابة على الكم الهائل من المحتوى

مع ملايين المنشورات اليومية، تظل مسألة الرقابة صعبة، حتى في ظل الاعتماد على الذكاء الاصطناعي وتقنيات الرصد الآلي.

ثالثًا: الأثر على سمعة الإمارات كوجهة رقمية عالمية

رغم أن التشدد يعكس حرص الدولة على الاستقرار، إلا أن بعض المراقبين يرون أن ذلك قد يُنظر إليه كمؤشر على التضييق على الحريات الرقمية.

الخاتمة

في ضوء ما سبق، يتضح أن إحالة مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي المخالفين إلى النيابة العامة في الإمارات ليس مجرد خيار قانوني، بل هو جزء من سياسة شاملة لتنظيم الفضاء الرقمي وضمان أمنه وسلامته، في ظل التحديات المتزايدة التي تفرضها ثورة الاتصالات والمعلومات. غير أن هذا التوجه يفرض في المقابل ضرورة البحث عن آليات توازن بين حماية الأمن العام وصون حرية التعبير، بما يضمن بيئة رقمية صحية تحترم القوانين وتدعم في الوقت ذاته الابتكار والإبداع.
ويبقى السؤال مفتوحًا: هل يمكن تحقيق هذا التوازن الدقيق بين الرقابة الصارمة والحريات الرقمية في ظل التحولات التكنولوجية المتسارعة؟

Leave a Comment

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


Comments Rules : من شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الإلهية، والابتعاد عن التحريض العنصري والشتائم.

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

We use cookies to personalize content and ads , to provide social media features and to analyze our traffic...التفاصيل

موافق