تيك توك بين الحظر والبيع: قراءة في حكم المحكمة العليا الأمريكية ومسار التفويت

معركة تيك توك الكبرى أمام القضاء

عالـم القانون9 أكتوبر 2025
شعار تيك توك على هاتف أمام مبنى المحكمة العليا الأمريكية مع مطرقة قاضٍ وميزان وعدّاد قفل، في إشارة لمعركة قانونية وأمن البيانات.

مقدّمة

لم يعد النقاش حول تيك توك مجرّد جدلٍ بين «حرية التعبير» و«الأمن القومي». فمنذ أن سنّ الكونغرس الأميركي في 24 أبريل/نيسان 2024 قانون «حماية الأميركيين من التطبيقات الخاضعة لسيطرة خصوم أجانب» (المعروف إعلاميًا بقانون «البيع أو الحظر»)، دخلت المنصّة أشهر معركة قانونية في تاريخ المنصّات الرقمية. في 17 يناير/كانون الثاني 2025 حسمت المحكمة العليا الأميركية الموقف بقضاءٍ موجز يؤيّد دستورية القانون في مواجهة دفوع تيك توك ومُنشئي المحتوى، واضعًا معيارًا جديدًا لكيفية وزن محكمة عليا حديثة بين حرية التعبير ومقتضيات الأمن القومي في الاقتصاد الشبكي. منذ ذلك التاريخ توالت قراراتٌ تنفيذية لتأجيل الإنفاذ وفتح مسارٍ عملي لصفقة تفويت مُؤهَّل تبقي التطبيق عاملًا داخل الولايات المتحدة لكن بملكية وهيكلة حوكمة جديدة. وبالنظر إلى أنّ التطبيق يُستَخدم «من نحو 170 مليون أميركي»، فإنّ كلّ خطوة قانونية أو تنفيذية تُحدِث رجّةً تنظيمية وتجارية تتجاوز الولايات المتحدة إلى العالم بأسره.

المحور الأول: من التشريع إلى «قاعدة اللعبة» الجديدة

القانون الأميركي H.R. 7521 (المدمج لاحقًا في القانون العام Public Law 118-50) صاغ مقاربةً مباشرة: أي تطبيق تُصنّفه الدولة «خاضعًا لسيطرة خصم أجنبي» يُحظر على الكيانات الأميركية «توزيعه أو صيانته أو تحديثه» عبر متاجر التطبيقات أو خدمات الاستضافة داخل الإقليم الأميركي—إلا إذا تمّ تفويتٌ مُؤهَّل يقرّره الرئيس يُنهي سيطرة الخصم الأجنبي ويمنع أي علاقة تشغيلية أو تشارُك للخوارزميات والبيانات مع الكيان الأجنبي السابق. وضع القانون مهلة 270 يومًا لتصبح المحظورات نافذة، مع إمكان تمديدٍ رئاسي لمرة واحدة حتى 90 يومًا إضافية؛ ولأن القانون سمّى صراحةً «ByteDance Ltd.» و«TikTok» ضمن الفئة المعنية، فقد كان تاريخ النفاذ الأوّلي 19 يناير/كانون الثاني 2025. ويُسند القانون إنفاذه لوزارة العدل مع جزاءاتٍ مدنيةٍ «باهظة» للمخالفين. هذه العناصر لم تُترَك لتأويلٍ واسع؛ فقد أعادت المحكمة العليا سردها بدقّةٍ ضمن الخلفية التشريعية للحكم.
على المستوى البنيوي يوسّع القانون أدوات الدولة بعيدًا عن «الإدارة بالجزاءات» إلى إعادة هيكلة الملكية والسيطرة كشرطٍ للاستمرار؛ أي أنّ موضوع التنظيم هو «من يحكم» البيانات والخوارزميات أكثر مما هو «ماذا يُنشَر». بهذا المعنى، تحوّل النقاش من «رقابة محتوى» إلى «حوكمة بنية تحتية للمحتوى» (الملكية، سلسلة القيمة، تخزين البيانات، تدريب الخوارزميات).

المحور الثاني: القضاء الأعلى… كيف وازن بين الخطابين؟

وصل النزاع إلى المحكمة العليا مباشرةً وبجدولٍ مُعجَّل—استمعت للمرافعات يوم 10 يناير/كانون الثاني 2025 وأصدرت قرارها بعد أسبوع واحد. وهي سابقةٌ لافتة في سرعة التقاضي لقضية تلامس الفضاء العام الرقمي. قبل ذلك، كانت محكمة الاستئناف بدائرة العاصمة قد رفضت دفوع تيك توك في 6 ديسمبر/كانون الأول 2024، معتبرةً أنّ القانون، حتى بافتراض تطبيق «رقابة صارمة»، يلبّي هدفًا مُقنِعًا ويُصاغ على نحوٍ متناسب. المحكمة العليا أكّدت النتيجة، لكنّها صرّحت بأنّ «الرقابة المتوسطة» هي الإطار الأنسب هنا: فالتنظيم موجّهٌ إلى السيطرة المؤسسية والعلاقات التشغيلية مع «خصمٍ أجنبي»، وليس إلى التعبير في ذاته، وأنّ المصلحة الحكومية (منع جمع بياناتٍ حسّاسة على نطاقٍ واسع وإمكان توظيفها أو التأثير الخفي في الترتيب والترويج عبر الخوارزميات) هي مصلحةٌ مهمّة وغير متعلّقة بقمع التعبير، وقد صيغت القيود بحيث لا تُثقل من الكلام أكثر مما يلزم ذلك الهدف. اختتمت المحكمة: «لا تنتهك الأحكام المطعون فيها حقوقَ مقدّمي الطلبات في التعديل الأوّل» وأقرّت حكم دائرة العاصمة.
دلالات هذا المنطوق عميقة. أوّلًا، إنّ تركيز القضاء على «التحكّم بالخوارزمية والبيانات» يجعل النزاع أقرب إلى تنظيم «البُنى التحتية» منه إلى تقييد «سوق الأفكار»؛ وثانيًا، تُدرِك المحكمة خطورة «التمييز على أساس المتحدّث» في قضايا الخطاب، لكنّها تعتبر أنّ حجم البيانات وطبيعة الانكشاف أمام دولةٍ مُصنَّفة «خصمًا» تُبرّر المعالجة الخاصّة. ومع أنّ بعض الآراء المُوافِقة أثارت تفاصيل مختلفة حول نطاق فحص الأوّل، بقي الإجماع على أنّ التوازن يميل للأمن القومي ضمن ضوابط متناسبة.

المحور الثالث: من «حُكم القاضي» إلى «صفقة التفويت»—كيف سيبقى التطبيق عاملًا؟

حكمُ المحكمة لا يعني إطفاء التطبيق فورًا؛ فالقانون ذاته يتيح تفويتًا مُؤهَّلًا إذا قرّر الرئيس أنّ الهيكلة المقترحة تُنهي السيطرة الأجنبية وتقطع «أي علاقة تشغيلية» مع الكيانات المُفارِقة، لا سيّما في ما يتصل بتشغيل خوارزمية التوصية وتدفّقات البيانات. بعد الحكم، استخدم البيت الأبيض سلطة تأجيل الإنفاذ مرّات عدّة خلال 2025 لإتاحة مسارٍ تفاوضي عملي—ثم جاء الأمر التنفيذي 14352 بتاريخ 25 سبتمبر/أيلول 2025 بعنوان «إنقاذ تيك توك مع حماية الأمن القومي» ليُعلن أنّ الإطار التعاقدي المقترَح يلبّي شروط التفويت: شركةٌ أميركية مشتركة جديدة، ملكيّتها وسيطرتها أغلبية أميركية، وحصة ByteDance دون 20%، ومجلس إدارة جديد، مع اشتراطاتٍ ثقيلة على تخزين بيانات الأميركيين في بيئة سحابية أميركية وإعادة تدريب ومراقبة نماذج التوصية من «شركاء أمنيين موثوقين». كما نصّ الأمر على فترة عدم إنفاذ لمدة 120 يومًا إضافية (تُحسب من 25 سبتمبر)، وطلب من وزارة العدل إصدار إرشادات عدم ملاحقة عن أي سلوك سابق خلال فترات التأجيل. هذه الوثيقة الرسمية لا تكتفي بإعلان النيّة، بل تُجري «تقرير مؤهّلية التفويت» وفق الإجراء البين-وزاري الذي يشترطه القانون.
ولتعزيز طبقة الأمن التشغيلي، أفاد البيت الأبيض في «ورقة حقائق» مرافقة أنّ Oracle ستكون مزوّد الأمن ومراقب العمليات المستقل في الولايات المتحدة، وأنّ ByteDance لن تتجاوز 19.9% من الملكية ولن تكون لها مقاعد مؤثّرة في لجنة الأمن داخل الكيان الجديد. هذه التفاصيل تعالج مباشرةً هواجس الخصومة حول «من يشغّل الخوارزمية؟ وأين تُخزَّن وتُدرَّب؟». مع ذلك، تُبقي تغطيات صحفية موثوقة أسئلةً مفتوحة حول التفاصيل الفنية للملكية الفكرية للرمز والخوارزمية، واحتمال حاجة الصفقة إلى ضوءٍ أخضر نهائي من الجهات الصينية المختصة باعتبار ضوابط تصدير الخوارزميات. والنتيجة العملية حتى كتابة هذه السطور: مسارٌ تنفيذيٌّ واضح يُبقي التطبيق عاملًا داخل الولايات المتحدة، لكن على نظام ملكية وحوكمة وأمن بيانات مختلف جذريًا.
هذه التحوّلات تلزم أطراف البنية الإيكولوجية كلّها: متاجر التطبيقات ومزوّدو الاستضافة عليهم امتثالٌ واضح (عدم توزيع/تحديث/استضافة تطبيقٍ مُصنّف ما لم يثبت التفويت المؤهَّل)، والمُعلنون وصنّاع المحتوى سيحتاجون إلى قراءة شروط الخدمة والخصوصية الجديدة، والشركات الأم ستعيد رسم خرائط سلاسل القيمة: من يملك البيانات؟ من يدرب ويضبط الخوارزمية؟ ما حدود مشاركة النماذج عبر الحدود؟ وهذه ليست تفاصيل تقنية فحسب؛ بل سياسات عامّة جديدة تضع خطوطًا فاصلة بين أسواق التقنية وحوكمتها.

المحور الرابع: الأبعاد العابرة للحدود—الهند وأوروبا وسابقة «مونتانا»

المشهد الأميركي لا يتحرّك في فراغ. ففي الهند، حُظر تيك توك أصلًا (مع 58 تطبيقًا آخر) منذ 29 يونيو/حزيران 2020 بقرارٍ يستند إلى المادة 69A من قانون تكنولوجيا المعلومات بحجّة مساس تلك التطبيقات بـ«سيادة وأمن الهند»، في خطوةٍ غيّرت خريطة نموّ المنصّة عالميًا. وفي أوروبا، وإن لم يذهب الاتحاد الأوروبي إلى حظرٍ تجاري شامل، فقد حظرت مؤسساتٌ مركزية كالمفوضية الأوروبية وتكتّلاتٌ حكومية عديدة—ومنها الحكومة البريطانية—التطبيق على أجهزة العمل الحكومية، بوصفه إجراءً للأمن السيبراني. وفي الولايات المتحدة نفسها، جرّبت ولاية مونتانا عام 2023 سنّ حظرٍ على مستوى الولاية، لكنّه أُوقِف قضائيًا على أساس تعارضه مع صلاحيات الحكومة الفدرالية واختصاصاتها في الشؤون الخارجية والتجارة. هذه الأمثلة تُظهر اتساع «طيف التدخّل»: من حظرٍ وطني شامل (الهند)، إلى تدابيرٍ احترازية قطاعية (أوروبا)، إلى محاولاتٍ محلّية تُحسَم لصالح سلطة المركز (الولايات المتحدة). والجامع بينها كلّها أنّ الموضوع لم يَعُد «تطبيقًا» بل «البنية التحتية للبيانات والخوارزميات والتأثير.

خاتمة: ماذا بعد الحكم… وبعد «تفويت» الملكية؟

تؤسّس «معركة تيك توك الكبرى أمام القضاء» لسابقةٍ قابلة للتكرار في عالم المنصّات: حين تُسمّي الدولة مخاطرًا بنيويةً على الأمن القومي مرتبطةً بالملكية والسيطرة والتدفّق العابر للحدود، يمكن أن يُعاد تشكيل السوق بقرارٍ تشريعي مدعومٍ بحكمٍ قضائي. الحكمُ الأعلى في 17 يناير/كانون الثاني 2025 وضع معيارًا قانونيًا متّزنًا: لا هو «شيكٌ على بياض» للدولة، ولا هو «تحصينٌ مطلق» لشركات المنصّات باسم حرية التعبير—بل اختبار «رقابة متوسطة» يُنصِف بين خطرٍ مُثبت ومقتضى التناسب. تنفيذيًا، أُنشئت سُبلُ امتثالٍ عملية عبر «تفويتٍ مُؤهَّل» يُعيد توزيع السيطرة ويشترط فصلًا حقيقيًا في الخوارزميات والبيانات والحَوْكمة، مع فترات عدم إنفاذ لإكمال الانتقال.
بالنسبة للباحثين وصنّاع السياسات، الأسئلة المقبلة ليست قضائيةً فقط، بل هندسية-حوكميّة: كيف تُراقَب الخوارزميات عند فصلها عن بيئات تدريب عابرة للحدود؟ كيف تُقاس «السيطرة الفعلية» بعيدًا عن نسب الأسهم الورقية؟ ما حدود قابلية نقل النماذج والرموز بين الكيانات دون نقل السيطرة؟ وكيف تتفاعل هذه الهندسة القانونية مع منظوماتٍ أخرى (الاتحاد الأوروبي/قانون الخدمات الرقمية، أو قوانين حماية البيانات في الهند، إلخ) حين تتشابك التطبيقات عالميًا؟
الأكيد أنّ السوق تعلّم درسًا: الامتثال اليوم لم يَعُد «سياسة خصوصية» أو «دليل مجتمع» وحسب، بل بنية ملكية وحَوْكمة قد تُفرض من خارج الشركة حين يتعلّق الأمر بالأمن القومي. وفي حين يبدو أنّ المسار الأميركي اختار «إصلاح الملكية» بدل «إطفاء المنصّة»، فإنّ نتيجته الأوسع قد تكون نقلةً نموذجية نحو فصلٍ مؤسّسيٍّ للبيانات والخوارزميات كشرطٍ للنفاذ إلى أسواقٍ كبرى.

Leave a Comment

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


Comments Rules : من شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الإلهية، والابتعاد عن التحريض العنصري والشتائم.

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

We use cookies to personalize content and ads , to provide social media features and to analyze our traffic...التفاصيل

موافق