تمهيد
يشهد المسار الانتخابي المغربي انعطافة تشريعية لافتة قبيل انتخابات 2026؛ إذ صادق المجلس الوزاري المنعقد يوم 19 أكتوبر 2025 على حزمة مشاريع قوانين تنظيمية من بينها مشروع يهمّ مجلس النواب، وآخر يخص الأحزاب السياسية. ومن أبرز مستجدات هذا المسار: منح دعم مالي عمومي يغطي 75% من مصاريف الحملات الانتخابية لفائدة لوائح الشباب تحت 35 سنة، في مسعى مُعلن لتجديد النخب وتعزيز النزاهة وتحصين العملية الانتخابية عبر تشديد العقوبات وتجريم المساس بسلامة الاقتراع. تجدر الإشارة إلى أنّ هذه النصوص ما تزال مشاريع ستخضع للنقاش البرلماني والإحالة الوجوبية على المحكمة الدستورية قبل نشرها وتنفيذها.
المحور الأول: ما الذي تغيّر فعلاً في قاعدة اللعبة؟
تتوزع أبرز التحولات على ثلاثة مستويات:
1. تمكين الشباب ≤35 سنة:
المشروع يُراجع ويُبَسّط شروط ترشّح الشباب داخل الأحزاب وخارجها، ويتيح لهم دعمًا عموميًا يصل إلى 75% من مصاريف الحملة، بما لا يتجاوز السقف الأقصى للنفقات المحدد تنظيميًا. كما يوسّع الإمكانية لتشمل لوائح شبابية مُزكّاة حزبيًا متى استوفت الشروط نفسها (السنّ والترتيب بالتناوب بين الجنسين).
2. مأسسة النزاهة والردع:
تعلن الصيغة الحكومية هدف “مَعنَنة” (مأسسة أخلاقيات) الانتخابات عبر منع من صدرت في حقه إدانة ماسّة بالأهلية من دخول المؤسسة البرلمانية، مع تشديد العقوبات لكل محاولة للمساس بسلامة التصويت أو التأثير غير المشروع فيه.
3. هندسة التمثيلية:
تقترح الصيغة حجز الدوائر الجهوية حصريًا للنساء تعزيزًا لتمثيليتهنّ، بالتوازي مع تحفيز الشباب على دخول السباق في الدوائر المحلية، ما يعني إعادة توزيع ديناميات العرض الانتخابي بين لوائح النساء جهوياً ولوائح الشباب محلياً.
المحور الثاني: آلية دعم 75% للشباب.. من يستفيد وكيف؟
يحدد مشروع التعديل، في شقه المتعلق بالقانون التنظيمي لمجلس النواب، تفاصيل عملية دقيقة:• موضوع الدعم ونسبته: يمكن للوائح الشباب غير المنتمين حزبيًا، إن كانت أعمار كل المترشحين فيها ≤35 سنة ومرتّبة بالتناوب بين الجنسين، الاستفادة من دعم عمومي يعادل 75% من المصاريف الانتخابية، على ألاّ يتجاوز هذا الدعم 75% من السقف الأقصى للنفقات المعتمد تنظيميًا. وتُطبّق القاعدة نفسها على لوائح شبابية مزكّاة حزبيًا ما دامت تستوفي الشروط ذاتها. كما يتيح المشروع دعمًا مماثلًا للمرشحات الشابات ≤35 سنة ضمن الدوائر الجهوية. يُقتطع هذا الغلاف من التمويل العمومي الإجمالي المخصّص للحملات.
• شروط إضافية لضمان الجدية: يشترط المشروع على لوائح المستقلين الشباب إرفاق ملفاتهم بـ200 توقيع من ناخبي الدائرة، مع كوتا نسائية للتوقيعات لا تقل عن 30% محليًا و50% جهوياً؛ كما يُوزَّع الموقّعون على كافة عمالات وأقاليم الجهة بنسبة لا تتجاوز 7% من مجموع التوقيعات لكل عمالة/إقليم، منعًا للتمركز. هذه الشروط تسعى لفرز لوائح ذات امتداد اجتماعي حقيقي، لا مجرد مبادرات فردية موسمية.
• الهيكلة الإجرائية للصرف: تُحيل التفاصيل الدقيقة لصرف الدعم إلى مرسوم حكومي يحدد كيفياته، وهو ما يتيح للسلطات المالية والرقابية مواءمة التدفق مع قواعد التبرير اللاحق للحسابات الانتخابية. عمليًا، يربط هذا النظام الدعم بـالتصريح المالي اللاحق وبوثائق الإنفاق، ويجعل استرداده ممكنًا إذا لم تُحترم المقتضيات.
مغزى هذه الآلية: دعم 75% ليس “هبة مجانية”؛ إنه تعويض مقيّد بشروط تمثيلية (عمر/تناوب/توقيعات) وإجرائية (سقف مصاريف/مرسوم صرف/حسابات مُبرَّرة)، ما يعني أن الدولة تُراهن على تخفيض عتبة الدخول المالي للشباب مع الحفاظ على مصافي الجدية والشفافية.
المحور الثالث: مكافحة الفساد الانتخابي.. من تجريم السلوكات إلى مضاعفة الردع
على الضفة الزجرية، يذهب مشروع الإصلاح أبعد من مجرد التصريحات الأخلاقية:
• عقوبات مشددة للتلاعب بسلامة الاقتراع: تتحدث النصوص المرافقة عن رفع سقف العقوبات في جرائم العنف داخل مكاتب التصويت، وعرقلة الناخبين، والتأثير غير المشروع، والتلاعب في المحاضر، وشراء الأصوات… لتصل في الحالات الأشد إلى 10 سنوات حبسًا وغرامات ثقيلة، وفق عرضٍ صحفي مفصّل لمضامين مشروع القانون التنظيمي رقم 53.25 الذي أُحيل على مجلس النواب. الهدف المعلن: ردعٌ صريح لكل ما يمس سلامة السلسلة الانتخابية من التسجيل إلى الفرز.
• ضبط استطلاعات الرأي خلال الحملة: يقترح مشروع تعديل قانون اللوائح والاتصال السمعي البصري رفع الحد الأدنى للحبس إلى 6 أشهر (بدل شهر) ومضاعفة الغرامات على إنجاز/نشر/التعليق على استطلاعات رأي انتخابية ضمن الفترة المحظورة، مع توسيع وسائل النشر المحظورة لتشمل منصات التواصل وأدوات الذكاء الاصطناعي وأي نظم معلوماتية. الرسالة واضحة: كبح التأثيرات المضلِّلة التي قد تحرف سلوك التصويت في اللحظات الحساسة.
• فصل “الأهلية الانتخابية” عن سوابق المساس بالاقتراع: يُعلن البيان الرسمي للمجلس الوزاري الاتجاه إلى منع من فقدوا الأهلية بحكم قضائي من دخول البرلمان، واتخاذ إجراءات فورية لإبعاد كل من يُضبط متلبسًا بالتدخل غير المشروع في العملية الانتخابية. هذا يرفع كلفة المخالفة من غرامة/حبس إلى إعدامٍ سياسي مؤسسي (فقدان الأهلية) في حالات بعينها.
الخلاصة الزجرية: ينتقل المشرّع من منطق “التوصية” إلى منطق الردع المُقنّن، بما يعيد تعريف المخاطر القانونية لأي سلوك انتخابي غير مشروع، ويعزّز الثقة في نتائج الصناديق.
المحور الرابع: رقمنة المساطر وتبسيط الإجراءات.. من “شباك الورق” إلى منصات الإيداع
من بين المستجدات العملية الأكثر تأثيرًا على يوميات المرشحين:
• بوابة إلكترونية للترشيحات: يتجه المشروع إلى اعتماد منصة رقمية لملء استمارات الترشح وإرفاق الوثائق إلكترونيًا والحصول على وصل مؤقت برقم ترتيبي يحدد موعد الإيداع الورقي لدى السلطة المختصة. هذه السلسلة تُخفّض الاحتكاك الإداري وتُقلّص فرص الأخطاء الشكلية التي تُهدد بصحّة الترشح.
• هندسة توقيعات المستقلين: اشتراط 200 توقيع مع توزيعات مكانية ونِسَب نسائية محددة يُترجم عمليًا في فضاء رقمي قابل للتثبت والمطابقة؛ أي أن الرقمنة هنا ليست فقط تيسيرًا، بل أيضًا أداة تحقق من سلاسة الامتثال للمعايير.
• من الورقي إلى القابل للتتبع: ربط الدعم والتصاريح اللاحقة بالرفع الإلكتروني للحسابات وبيانات الإنفاق يعزّز “أثرًا رقميًا” قابلاً للتدقيق اللاحق، ويُيسّر على المجلس الأعلى للحسابات والسلطات الرقابية تتبّع الأثر المالي للحملات في آجال أقصر. (تؤكد تغطيات إعلامية مواكِبة اتجاه التشريع إلى تقوية رقابة التمويل والالتزام بالتصريح داخل آجال مضبوطة).
أثر ذلك على الممارسة: يُنتظر أن تنتقل الحملات من فوضى “المطبوعات والوسطاء” إلى تعاقد رقمي: تتبع، توثيق، مواعيد محددة، وقابلية أعلى للمساءلة.
المحور الخامس: قانون الأحزاب.. تحديث القواعد وحوكمة التمويل
بالتوازي مع إعادة تشكيل قواعد الترشح والتمويل الانتخابي، يشمل المسارُ مشروعًا لتنقيح القانون التنظيمي للأحزاب يطال تأسيسها وتمويلها وحوكمتها:
• شروط تأسيس أكثر صرامة وتمثيلاً: يرفع المشروع من متطلبات الانتشار الجغرافي والتمثيل النسائي والشبابي ضمن المؤسسين، ويُلزم بحدٍّ أدنى من المؤسسين مع نسبة نساء وشباب وبسط حضور جهوي أوسع لدى الحزب الناشئ.
• رفع سقف التبرعات وتنوع الموارد: يقترح المشروع رفع سقف التبرعات السنوية من 300 ألف إلى 800 ألف درهم لكل متبرع، في إطارٍ أكثر شفافية، مع دمج النتائج في الحساب السنوي المودع لدى المجلس الأعلى للحسابات.
• شركات مملوكة للأحزاب ضمن أنشطة محددة: ابتكارٌ لافت يتمثل في السماح بإنشاء شركات تجارية مملوكة كليًا للحزب، في نطاق أنشطة مرخّصة (اتصال، نشر، طباعة، خدمات معلوماتية…) مع إخضاعها للتصريح والرقابة ودمج نتائجها في حسابات الحزب، ما يفتح نقاشًا حول تنويع مصادر التمويل دون الانزلاق إلى تضارب المصالح.
• المقصد العام: وفق البيان الرسمي، تروم هذه المراجعات تحديث الإطار القانوني، وتعزيز مشاركة النساء والشباب، ورفع جودة الحوكمة والتمويل والمحاسبة، حتى تتلاءم الحياة الحزبية مع تحولات المجتمع.
مغزى حزبي-انتخابي: إذا كان “تمويل 75%” يخفّض عتبة دخول الشباب إلى السباق، فإن تحديث قانون الأحزاب يحاول خفض كلفة إدماجهم داخل الأحزاب ذاتها، عبر فتح مسارات مهنية وتنظيمية وتمويلية أكثر استدامة من “مغامرات مستقلة” موسمية.
المحور السادس: كيف يمكن أن تتغير الخريطة السياسية في 2026؟
1-تجديد النخب… ولكن بأي ثمن؟
دعم 75% للشباب قد يُنتج عرضًا انتخابيًا أكثر شبابًا في الدوائر المحلية، ويغري” المقاولات السياسية الصغيرة” بالظهور، خصوصًا في المدن الكبرى والدوائر ذات الكثافة الطلابية. لكن شرط 200 توقيع بتوزيعٍ نسائي ومجالي وسقف النفقات المرتبط بالدعم، كلها عوامل تصفي الترشيحات الهشّة، وقد تدفع الكفاءات الشابة إلى التقاطعات الحزبية بدل الذهاب إلى الاستقلالية المطلقة. النتيجة المرجّحة: مزيج من لوائح شابة مستقلة في بعض الدوائر، ولوائح حزبية شابة في دوائر أخرى، تبعًا لقوة البُنى الحزبية محليًا.
2-توازن التمثيل بين النساء والشباب
حجز الدوائر الجهوية للنساء سيعزز تمثيليتهنّ، بينما يوجّه الدعم العمومي المحلي نحو الشباب. هكذا يُعاد توزيع “مفاعيل التمييز الإيجابي” قطاعيًا (نساء/شباب) ومجاليًا (جهوي/محلي)، ما قد يُفضي إلى مجلسٍ بتركيبة عمرية وجندرية جديدة. التحدي هنا هو التنسيق البرامجي بين مكونات بهذه المواصفات لضمان الفاعلية التشريعية وعدم الوقوع في التشتت.
3- الردع القانوني وتأثيره على سلوك الحملة
تشديد العقوبات، وتجريم نشر استطلاعات الرأي خلال الفترات الحساسة، وتوسيع نطاق وسائل النشر المحظورة إلى الذكاء الاصطناعي، سيرفع كلفة المخالفات ويقلص “ضجيج” التأثيرات غير المشروعة، ويجعل الحملات أكثر تركيزًا على البرامج المحلية وخدمات القرب بدل المزايدات الرقمية. لكنه بالمقابل يضع عبئًا إضافيًا على المرشحين في الامتثال الرقمي والتوثيق والتدقيق.
4- مصيدة التشتت أم رافعة التجديد؟
تثير تغطيات وتحليلات محلية نقاشًا مشروعًا: هل يشجّع دعم المستقلين الشباب على تفتيت المشهد الحزبي وتشظّي البرلمان، أم أنه رافعة تجديد تضخ دمًا جديدًا حتى داخل الأحزاب؟ يبدو أن ممرات التوقيعات والامتثال المالي والرقمي ستحدّ من “الفوضى المستقلة”، بينما سيستثمر جزء من الأحزاب في لوائح شبابية مزكّاة لتفادي خسارة الأصوات الشابة لصالح المستقلين. باختصار: المنافسة على الشباب ستتحول من صراع صفر-مجموع إلى لعبة اصطفاف ذكي.
5- اقتصاد الحملة… وأثره على الخريطة
إذا غطى الدعم 75% من سقف النفقات، فإن 25% المتبقية، إضافة إلى تكاليف التنظيم والامتثال الرقمي واللوجستي، ستبقى عتبة فعلية تميّز الكيانات المهيكلة عن المبادرات الفردية. هنا قد تفوز اللوائح الشابة المؤطرة حزبيًا بميزة الحجم (خبرة محاسبية/قانونية/ميدانية)، بينما يحتاج المستقلون الشباب إلى شراكات مدنية ومجتمعية لتقليص كلفة “التعلم خلال الحملة”.
6- السيناريو المرجّح
مجلس نواب بتركيبة أكثر شبابًا، وتمثيلية نسائية معززة جهويًا، وحياة حزبية أكثر حوكمة وتمويلاً منضبطًا؛ مع هامش تشظٍ محدود بفضل مرشحات ومرشحين شباب داخل القوائم الحزبية. أثر ذلك على السياسات العمومية سيظهر في أجندات اجتماعية-محلية أوضح (الشغل، التعليم، النقل، السكن)، مع طلب متزايد على الخبرة التقنية داخل الفرق البرلمانية لمواكبة المتطلبات الرقابية والمالية الجديدة.
خاتمة
يُعطي مشروع تعديلات 2026 إشارة سياسية قوية: فتحُ الباب واسعًا للشباب عبر دعمٍ عمومي جوهري، وتحصين نزاهة الاقتراع بمنظومة ردع أشد، وتحديث الحياة الحزبية بالحوكمة والتمويل الشفاف. غير أن نجاح هذه الهندسة التشريعية يتوقف على ثلاثة شروط:
1. إخراجٌ تنظيميّ ذكي (مراسيم واضحة، منصّات فعّالة، آجال مضبوطة).
2. رقابة مالية وقضائية رشيقة تُحاسب وتُنصف بالسرعة والصرامة نفسيهما.
3. استثمار حزبي ومجتمعي في تكوين القيادات الشابة، حتى لا يتحول دعم 75% إلى “طريقٍ مختصر” بلا تراكم سياسي.
إذا تفاعلت هذه الشروط إيجابًا، فالأرجح أن تُنتج انتخابات 2026 خريطة سياسية أكثر شبابًا وتمثيلية، مع برلمانٍ يمزج بين الطاقة الجديدة والخبرة المؤسسية، في إطار تنافسٍ أعدل ورقابةٍ أصرم.













