مشروع قانون الشيكات الجديد بالمغرب: نهاية “التجريم التلقائي” وبداية عصر التسوية الذكية

مشروع قانون الشيكات بالمغرب (قيد المناقشة البرلمانية)

عالـم القانون2 نوفمبر 2025
إنفوغرافيك عن إصلاح قانون الشيكات في المغرب يظهر شيكاً مختوماً بـPAID، نسبة 2%، تقويم 30 يوماً، ميزان عدل ومصافحة، وعنوان Smart Cheque Settlement Reform.

مقدمة

على مدى سنوات، تحوّل الشيك من أداة دفع آمنة إلى مصدر قلق قانوني واقتصادي، بفعل تفشي ظاهرة “الشيكات بدون مؤونة” وما تستتبعه من متابعات جنحية تلقائية وعقوبات سالبة للحرية تُربك المستفيد والساحب معاً. الأرقام الرسمية تُظهر اتساع الظاهرة: قرابة 30 مليون عملية أداء بالشيك سنة 2024 بقيمة 1.319 تريليون درهم، مقابل 972 ألف حالة عارض أداء (عدم وجود/عدم كفاية المؤونة)، وهو ما ترجِم إلى 180 ألف شكاية وأكثر من 58 ألف حالة اعتقال بين 2022 ومنتصف 2025. ضمن هذا السياق، صادق مجلس الحكومة (9 أكتوبر 2025) على مشروع القانون رقم 71.24 لتعديل الكتاب الثالث من مدونة التجارة، في محاولة للانتقال من منطق “العقاب أولاً” إلى منطق “التسوية أولاً”.

تنبيه مهم: النص لا يزال مشروعاً حكومياً قيد المسار التشريعي (مناقشة برلمانية وإحالة على المحكمة الدستورية قبل النشر بالجريدة الرسمية)، وبالتالي قد تطرأ عليه تعديلات قبل دخوله حيز التنفيذ.

المحور الأول: لماذا الإصلاح الآن؟

ليس سراً أن التجريم التلقائي (رفع الدعوى الجنحية آلياً تقريباً) لم يُنتج دائماً وفاءً فعلياً للمستحقات، بل أدى إلى تعطيل المقاولات، وضغط المؤسسات السجنية، وإثقال الجهاز القضائي بملفات ذات طابع مالي كان يمكن حلّها مدنياً. الحكومة قدّمت مشروعاً يقوم على مقاربة مزدوجة:
1. الحفاظ على التجريم كأداة ردعية أخيرة لضمان الانضباط المالي.
2. استبدال الحبس في كثير من الحالات بـمساطر للتسوية (الدفع + غرامة إبرائية مخفّضة) وبـبدائل إجرائية (إشعار، مراقبة قضائية) تُعطي للساحب فرصة جادة لتدارك الوضع.
الهدف المُعلن: استعادة الثقة في الشيك كوسيلة أداء، وتخفيف العبء على القضاء والسجون دون التفريط في هيبة القانون.

المحور الثاني: خفض الغرامة من 25% إلى 2%… ما الذي يعنيه ذلك عملياً؟

قبل الإصلاح، كان الفصل 316 من مدونة التجارة ينتهي غالباً إلى مسطرة جنحية وغرامة ثقيلة تُوازي 25% من قيمة الشيك (فضلاً عن الحبس الممكن)، ما جعل تصحيح الخطأ مكلفاً حدّ الإحباط. الصيغة الحكومية الجديدة تعتمد منطق التسوية:
• إذا أدّى الساحب قيمة الشيك ودفع غرامة إبرائية بنسبة 2% فقط، تُوقَف المتابعة وتُطفأ الدعوى تلقائياً، بما ينهي النزاع سريعاً ويُعيد الحقوق للمستفيد.
• يُمكن تفعيل التسوية في أي مرحلة: قبل المتابعة، أثناءها، وحتى بعد الحكم (مع آثار على تنفيذ العقوبة).
هذا التخفيض الكبير (من 25% إلى 2%) يمثل تحولاً جذرياً في فلسفة التجريم: الأداء أولاً، لا الحبس أولاً.

المحور الثالث: إشعار 30 يوماً قبل المتابعة… ومتى يُستعاض عن الحبس بالمراقبة القضائية؟

إحدى نقاط القوة في المشروع هي تجريم “التفاجؤ” بالاعتقال. تنص الصيغة الجديدة على أن النيابة العامة تُشعر الساحب بضرورة توفير المؤونة خلال 30 يوماً، مع إمكانية تمديد المدة 30 يوماً إضافية بموافقة المستفيد. خلال هذه الفترة، تُفضَّل بدائل الاعتقال (مثل المراقبة القضائية، وذُكر السوار الإلكتروني كخيار في التغطيات الصحفية) لمنح فرصة فعلية لتسوية المبلغ دون إدخال الساحب السجن. الفلسفة هنا واضحة: إعطاء الزمن للتسوية بدل “الصدمة الجنحية”.

المحور الرابع: توسيع الصلح… واستثناء النزاعات بين الأزواج والأصول

يتجه المشروع إلى توسيع مساحات الصلح بشكل غير مسبوق:
• الصلح ممكن في جميع المراحل، حتى خلال تنفيذ العقوبة؛ إذ يؤدي سحب الشكاية أو الأداء إلى إيقاف المتابعة أو سقوطها، وإلى تعليق/إيقاف التنفيذ وفق الأحوال.
• الاستثناء العائلي: في حالات النزاع بين الأزواج أو الأصول، يُقرّ المشروع الإعفاء من العقوبة الجنحية، بما يُخرج الخلاف من المنطق الزجري إلى منطق المعالجة المدنية داخل الأسرة.
هذه الترتيبات تُظهر توجهاً نحو إنسانية السياسة الجنائية، تُعطي الأولوية لإبراء الذمة المالية وحماية الروابط الاجتماعية على اللجوء السريع للحبس.

المحور الخامس: هل يعني ذلك “إلغاء التجريم”؟ ما هي العقوبات بعد الإصلاح؟

أكّد مسؤولو وزارة العدل أن الإصلاح ليس “دَستِرةً للتبرئة” ولا إلغاءً للتجريم، بل تحولٌ إجرائي يُبقي على العقوبة الجنحية في حالة الإصرار على الامتناع. بحسب تصريحات رسمية لمديرية الشؤون الجنائية:
• العقوبات السالبة للحرية أصبحت في القاعدة ضمن نطاق ستة أشهر إلى سنتين (بدل هوامش أوسع سابقاً)،
• مع غرامات بين 5.000 و20.000 درهم،
• لكن الرهان الأساسي صار على إطفاء الدعوى عبر الأداء + غرامة 2% والتسوية داخل الآجال.
بهذا تُحافظ الدولة على الردع وتُقلّل في الوقت ذاته من الأثر الاجتماعي والاقتصادي للحبس، حيث يصبح الدفع الطريق الأقصر للخروج من المتابعة.

المحور السادس: أثر الإصلاح على الفاعلين – من المستفيد ومن المتحفظ؟

1) على التجار والمقاولات
• إعادة الثقة في الشيك كوسيلة أداء: يبقى الشيك جذاباً عندما يعلم الطرفان أن هناك نافذة تسوية سريعة، وأن القانون يُعلي الأداء على الزجر.
• تخفيض كلفة المخاطر: الانتقال من 25% إلى 2% يجعل تصحيح الأخطاء (الطارئة/الظرفية) ممكناً دون انهيار مالي.
• تحسين السيولة: سرعة إطفاء النزاع تسهّل استمرار العلاقة التجارية.
2) على الأفراد والأسر
• تخفيف الوصم الجنحي وإعطاء مسارات مدنية لحل الخلافات، خاصة داخل الأسرة.
• الإنفاذ الواقعي لحقوق المستفيد: حين تكون فرص الأداء أعلى من فرص الحبس، ترتفع احتمالات استرداد الدين فعلاً.
3) على المنظومة القضائية والسجنية
• تقليص الضغط على المحاكم وقاعات الجلسات، وتحويل جزء مهم من النزاعات إلى قنوات تسوية.
• ترشيد الاعتقال: مع الإشعار والمراقبة القضائية، يقلّ اللجوء إلى السجن قبل استنفاد فرص الأداء.
4) على الانضباط المالي
• الإصلاح لا يُهمل الردع: العقوبة قائمة لمن يمتنع عن الأداء بلا سبب مشروع، وتبقى ملفات التنفيذ المدني متاحة للمستفيد.
• إضافةً إلى ذلك، يستمر تدبير بنك المغرب لملفات عوارض الأداء في سجلّاته (مع آجال للحفظ)، ما يجعل السمعة الائتمانية رهينةً بالامتثال
أسئلة تطبيقية مهمة (بصيغة عملية)
1) ماذا أفعل فور رفض الشيك؟
• كمستفيد: اطلب شهادة الرفض من البنك، تواصل مع الساحب، ثم فعّل مسطرة الإشعار/الصلح بسرعة.
• كساحب: بادر إلى توفير المؤونة خلال 30 يوماً (قابلة للتمديد باتفاق)، واطلب من النيابة/المحكمة وقف المتابعة بعد الأداء + غرامة 2%.
2) هل يُلغى الحبس نهائياً؟
لا. القاعدة الجديدة تُعطي الأولوية للأداء والصلح، لكنها تحافظ على العقوبة لمن يصرّ على الامتناع أو يسيء استعمال الشيك. المبدأ: “الدفع يوقف الدعوى”، لا “لا عقوبة إطلاقاً.
3) وماذا عن الشيكات بين الأزواج والأصول؟
يقرّ المشروع الإعفاء من العقوبة الجنحية لهذه الحالات، مع تكييف النزاع مدنياً حفاظاً على الروابط الأسرية، شرط استيفاء الأداء/التسوية.
4) إذا سددت المبلغ بعد صدور حكم؟
تُفتح أبواب الصلح حتى في مرحلة التنفيذ؛ ويمكن أن يؤدي السداد/التنازل إلى تعليق تنفيذ العقوبة أو سقوطها وفق النصاب الإجرائي.
مكاسب متوقعة… ومخاطر واجبة التنبه
المكاسب
• تعافي أداة الشيك كمحرّك للمعاملات،
• تخفيف الضغط القضائي والسجني،
• رفع معدل استرداد الحقوق لصالح المستفيد،
• تكلفة إصلاح أقل بكثير على الساحب حسن النية (2%).

المخاطر

• سوء الفهم:

 

قد يظن البعض أنها “إباحة للشيك بدون مؤونة”، وهو خطأ؛ العقوبة قائمة لمن يرفض الأداء.

• التحايل:

 

خطر تسويف الأداء بذريعة مهلة الـ30 يوماً؛ يُواجه ذلك عبر المراقبة القضائية وإمكانية إيقاف المهلة عند سوء النية

• الانتقاليات:

 

ضرورة نصوص تنظيمية دقيقة (مراسيم) تُبيّن كيفيات الأداء والإثبات وإجراءات إيقاف المتابعة، مع منصات إلكترونية للتصريح والمتابعة.

ما الذي ينبغي على الفاعلين فعله منذ الآن؟

• المقاولات والتجار: تحيين سياسات القبول بالشيكات، إدراج بنود زمنية واضحة للسداد، وتفعيل قنوات الإنذار المبكر على مستوى الخزينة.
• الهيئات المهنية (محامون، موثقون، خبراء محاسبة): إعداد نُسخ معيارية للتسوية، وتكوين فرق على مستجدات المسطرة (الإشعار، المراقبة القضائية، الإطفاء).
• الأفراد: تجنّب إصدار الشيك كـ“ضمان” خارج نطاقه القانوني، والاحتفاظ بكل سندات الأداء والاتفاقات؛ فعند أول تعثر، السرعة في التسوية أهم من أي شيء.
• السلطات التنظيمية: الإسراع في إصدار المراسيم والدلائل التطبيقية، وربطها بمنصات رقمية تُقلّل الاحتكاك وتمنع اللبس الإجرائي.

ماذا تغيّر بنقطة؟

• الغرامة الإبرائية: من 25% إلى 2% مع إطفاء المتابعة عند الأداء.
• الإشعار: 30 يوماً قابلة للتمديد شهراً آخر بموافقة المستفيد، مع بدائل الاعتقال (مراقبة قضائية/سوار إلكتروني).
• الصلح: مفتوح في كل المراحل بما فيها التنفيذ بعد الحكم.
• الأُسري: إعفاء جنحي في نزاعات الأزواج والأصول.
• العقوبات عند الامتناع: الحبس 6 أشهر–سنتان + غرامة 5.000–20.000 درهم (مع بقاء التجريم.

خاتمة

يضع مشروع قانون الشيكات الجديد حدّاً لدوامة “الحبس أولاً”، ويُعلن انتصار براغماتية الأداء على آلية الزجر التلقائي، دون أن يُسقط هيبة الردع عند الإصرار على الامتناع. إنه توازن دقيق بين حماية ائتمان المعاملات وحقوق المستفيدين والاعتبارات الاجتماعية للساحب.
ولكي ينجح التحول، ينبغي:
1. استكمال المراسيم والإجراءات الرقمية التي تُسند المنظومة الجديدة،
2. توحيد الممارسة القضائية بدلائل تطبيقية واضحة،
3. توعية واسعة للتجار والأفراد حتى يُدرِك الجميع أن “2% + الأداء = نهاية المتابعة” ليست “دعوة للتساهل”، بل طريقاً سريعاً لإبراء الذمة واستمرار الثقة في الشيك كأداة دفع.
بهذا المعنى، لا يقتصر الإصلاح على معالجة ملف قضائيّ ثقيل، بل يبعث إشارة اطمئنان للسوق، ويمنح فرصة ثانية لآلاف الفاعلين لطيّ صفحة التعثر والعودة إلى دورة الإنتاج، تحت سقف قانون أكثر إنسانية وفعالية.

Leave a Comment

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


Comments Rules : من شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الإلهية، والابتعاد عن التحريض العنصري والشتائم.

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

We use cookies to personalize content and ads , to provide social media features and to analyze our traffic...التفاصيل

موافق