من الطبيعي أن يطرح الاستقرار اليهودي بالمغرب وما رافقه من أنشطة اجتماعية واقتصادية ودينية سؤال البحث عن النصوص القانونية المنظمة لوضعية المواطنين المغاربة اليهود المؤطرة لعلاقاتهم بالسلطة والمجتمع المغربي. ومن المؤكد أن المنظومة القانونية زاخرة بقضايا هذه الفئة من المواطنين محافظة على حقوقهم وخصوصياتهم الدينية والثقافية في إطار من التعايش واحترام الآخر الذي شكل المحاور الأساس في الخطب الملكية الرسمية، ناهيك عن كثرة الظهائر والمراسيم الشريفة والقرارات الوزارية التي تجسد الإطار القانوني المنظم لهذه الفئة، وأيضا دستور 2011 حيث اعترف في ديباجته باللغة العبرية كمكون رئيسي ورافد من روافد الهوية والثقافة المغربية. وسأتطرق في هذه الورقة إلى التنظيم القضائي العبري في المغرب.
فما المقصود بالعدالة العبرية المغربية؟ وكيف تدرج التنظيم القضائي العبري المغربي من حيث القوانين والتشريعات والمصادر والهيئات؟
التنظيم القضائي العبري المغربي.
يقصد بالقضاء العبري الجهة القضائية التي تسهر على فض النزاعات المتعلقة بالأحوال الشخصية للمغاربة اليهود والتي تبث فيها المحاكم العبرية. وقد عرف القضاء العبري بالمغرب تطورا ملحوظا عبر التاريخ والتي يمكن حصرها في المراحل التالية:
مرحلة ما قبل عهد الحماية
خضع السكان المغاربة اليهود منذ القدم للسلطات الإسلامية في شؤونهم الإدارية والتجارية، ونظرا لطابع التسامح الديني الذي امتاز به الإسلام ومن أجل التعايش في جو من الوئام فقد تركت للجماعات اليهودية الحرية في فض النزاعات التي تعرض لأفراد هذه الجماعة من دعاوى تتعلق بالأحوال الشخصية والإرث، حيث كان الأحبار اليهود يقومون بفضها وفقا للشريعة الموسوية نظرا لاتسام تلك الدعاوى آنذاك بطابع ديني، وقد كانت جمعيات أعيان اليهود في المدن الرئيسية تدبر شؤون الجماعات اليهودية فيما يرجع لتنظيم الطقوس الدينية وإسعاف المحتاجين وإدارة المؤسسات الخيرية وتدبير الصحة العمومية، وبالأخص تعيين الأحبار القضاة الذين كانوا يؤلفون داخل الجماعات اليهودية المغربية محاكم تذكرنا بالمحاكم التي كانت تعرف باسم “بيت الدين” في محكمة “يهودا القديمة”. وكانت محاكم الأحبار الموجودة في المغرب آنذاك تتألف حسب القواعد التلمودية من ثلاثة أحبار، ولم تكن مهمة هؤلاء تقتصر على القضاء فقط بل كانت لهم صلاحياتهم تتناول أيضا مراقبة الطقوس الدينية وبالخصوص فيما يتعلق بالذبح بمقتضى القواعد الدينية الموساوية1.
ولم يكن تسيير هذه المحاكم قبل الحماية وحتى بعد فرضها بعدة سنوات خاضعا لأي قانون إجرائي وهذا ما أدى إلى استصدار الظهائر التالية:
ظهيران مؤرخان في 11 شعبان 1336 موافق 12 ماي 1918 ينصان على إعادة تنظيم المحاكم العبرية والتوثيق الإسرائيلي في المنطقة الجنوبية من المملكة المغربية.
ظهير مؤرخ في 21 رجب 1342 (15 فبراير 1928) بشأن تنظيم المحكمة العبرية والتوثيق العصري في طنجة.
ظهير خليفي مؤرخ في 27 رمضان 1346 (20 مارس 1928) بشأن تنظيم المحاكم العبرية والتوثيق الإسرائيلي في المنطقة الشمالية.
مرحلة الحماية
عرفت هذه الفترة بدورها ظهور مجموعة من الظهائر التي تنظم هذا النوع من القضاء في المنطقة الجنوبية والشمالية ومنطقة طنجة.
ففي المنطقة الجنوبية فإن الظهيرين المؤرخين في 22 ماي 1918 قد اقتبسا أساليب التنظيم العصرية، فنصا على إنشاء المحاكم العبرية في المدن والموانئ المغربية التي تعين بمقتضى قرار وزيري ويشمل اختصاص هذه المحاكم النظر في جميع المسائل التي تدور حول قانون الأحوال الشخصية والإرث للإسرائيليين المغاربة، كما أنه ترك لقرار وزيري أمر تحديد نطاق كل دائرة قضائية وتأليف كل محكمة. وقد صدر تدريجيا مجموعة من النصوص التشريعية التي حددت أحوال القضاء العبري وكيفية تسييره. فالظهيران الصادران سنة 1918 قد نصا على إنشاء محاكم عبرية أولية في المدن الكبرى أما في المدن الصغيرة فقد أنشئت “مجالس للأحبار المفوضين” التي أنيطت بهم مهمة التحكيم ومراقبة شؤون التوثيق وكان عدد هذه المجالس يبلغ في نهاية عهد الحماية ثلاثة عشر مجلسا وقد تضمن أول الظهيرين المذكورين قواعد الترافع لدى تلك المحاكم والمجالس والطعن في الأحكام التي تصدرها2.
كما تأسس في تطوان محكمة عبرية عليا يناط على وجه الاستئناف في الأحكام الصادرة في الدرجة الأولى عن مختلف المحاكم الأولية.
مرحلة الاستقلال
ومع الاستقلال ظهر ظهيران شريفان بتاريخ 15 مارس 1957 يرميان إلى تحديد عدد المحاكم العبرية بالمغرب وتعيين مراكزها ودوائر كل منها والإصلاحات التي انجزت بواسطتها تتخلص فيما يلي3:
استبدال تسمية المحاكم حيث أصبحت المحاكم التي كانت تسمى سابقا “المحاكم العبرية الأولية” تسمى “المحاكم العبرية الإقليمية” والتي تحولت أيضا مع تعديل القانون وأصبحت تسمى “المحاكم العبرية الابتدائية”، كما أن مجالس الأحبار المفوضين السابقة أصبحت تسمى “محاكم الحاخامات الحكام المفوضين”.
وتم أيضا إنشاء محكمة عبرية إقليمية لناحية تافيلالت يكون مركز في قصر السوق (الراشيدية حاليا).
الأحكام التي تصدر عن المحكمة العبرية بطنجة تستأنف أمام المحكمة العبرية العليا في الرباط.
وقد أصبح التنظيم العبري منذ 23 فبراير 1957 على الشكل التالي:
حذفت المحاكم العبرية المؤسسة بموجب الظهير الشريف الصادر في 11 شعبان 1336 الموافق 22 ماي 1918 وعوضت بالمحاكم العبرية الإقليمية التي أصبحت فيما بعد ابتدائية والتي عينت مقراتها ودوائر اختصاصها.
كما حذفت وظيفة الحاخام المفوض وعوضت بمحاكم الحاخامات الحكام المفوضين وعين مقر كل منها.
كما تم إدماج محاكم الشمال في مجموعة النظام القضائي العبري للمغرب وأصبحت المحاكم العبرية تختص فقط في الأحوال الشخصية وخصوصا ما يهم الزواج في الشريعة العبرية وشروط صحته، وطريقة الإشهار عن الزواج وعقده، ومعيار الذمة المالية للمرأة المتزوجة، وأهليتها، وما تسترجعه بعد انحلال ميثاق الزواج وحالات تعدد الزوجات والزواج المختلط بالإضافة إلى الطلاق وكل ما يرتبط به من حقوق ونظام الإرث والتركة والهبات والوصايا.
مصادر وهيئات التشريع القضائي العبري المغربي.
في مجال الأحوال الشخصية
جاء في المادة الثانية من مدونة الأسرة المغربية “أما اليهود المغاربة فتسري عليهم قواعد الأحوال الشخصية العبرية المغربية.”3 هذه القاعدة تلخص الوضع القانوني لهذه الفئة من المجتمع المغربي الذي تأسس على تراكمات تنظيمية تشريعية تاريخية.
ويستمد التشريع القضائي العبري المغربي مصادره فضلا عن التوراة والتلمود، من قوانين ذات طبيعة مغربية صرفة، سبق لأحبار يهود مغاربة تزعموا المجالس الإسرائيلية السابقة، أن سطروها، وفق ما تقتضيه خصوصية تطبيق الديانة اليهودية بالمغرب. ويعتبر أسمى هذه القوانين قانون “بن هاعيزر” وكتاب “حوشي ميت بات” ومؤلف “هانا كانوت هامش” ثم كتاب “بات هاعبري” الذي كتبه أحبار مغاربة سنة 1950م. هذه القوانين تتفرع عن معاملات شرعية يهودية مغربية غاية في التفرد، وتكشف الوجه الأخر لخصوصية هذه الفئة من المجتمع المغربي.
لقد عرف القضاء العبري المغربي في مجال الأحوال الشخصية تطورا بسبب وفود بعض اليهود الإسبان إلى المغرب الذين عملوا على إدخال بعض التعديلات على النصوص المنظمة لهذا المجال. وهكذا نجد أن الشريعة الموساوية لم تكن تمنع تعدد الزوجات مهما بلغ عددهن، شريطة توفر حسن المعاشرة وبعد وفود اليهود من إسبانيا المعروفين “بالميكوراشيم” الذين جاءوا ومعهم ومجموعة من الاجتهادات القضائية في مادة الأحوال الشخصية العبرية تعرف “بالطاكونيت” حيث منعوا تعدد الزوجات ماعدا إذا كان للراغب في ذلك متزوجا لمدة تفوق عشر سنوات ولم ينجب من صلبه أي مولود حيث يباح له التعدد ويبقى من حق المرأة الأولى إما البقاء مع درتها أو طلب التطليق، والحالة الثانية المرخص فيها بالتعدد هي خاصة بالزوج الذي توفى تاركا زوجة بدون أبناء فإن زوجته المتوفى عنها تكون ملزمة بالزواج من أخ الهالك بالرغم عنها4.
وهنا نلاحظ أن الاجتهاد القضائي العبري المغربي “الطاكونيت” قد ضيق من إمكانية تعدد الزوجات بشروط مشابهة – إلى حد ما – لما تضمنته مدونة الأسرة المغربية من تعديلات خصوصا المادة 40 التي تشترط العدل بين الزوجات والمادة 41 التي تشترط الراغب في التعدد الموارد الكافية لإعانة الأسرتين من نفقة وإسكان ومساواة في جميع أوجه الحياة بل الأكثر من ذلك تنص المادة 44 أن المحكمة لا تأذن بالتعدد إلا إذا ثبت لها مبرره الموضوعي الاستثنائي وتوفرت شروطه الشرعية مع تقييده بشروط لفائدة المتزوج عليها وأطفالها.
في مجال المنازعات التجارية والعقارية
بعدما ألغى قانون توحيد القضاء بتاريخ 26 يناير 1965 كل المحاكم الدينية المسلمة منها واليهودية أخذ المواطنون المغاربة اليهود يرجعون في نزاعاتهم المدنية إلى المحاكم العادية (المحكمة الابتدائية ومحكمة الاستئناف والمجلس الأعلى) وفق القانون المغربي. وما دام الأمر كذلك، فسنحاول التركيز على أهم قضايا النزاع في الأمور المدنية وكيفية تعامل الشريعة الربية اليهودية معها قبل صدور القانون المذكور آنفا.
فعندما يكون النزاع متعلقا بمدعين يهود فإن السلطات الربية يكون عندها الحل سهلا نسبيا، وهو أقل سهولة عندما يكون الطرف الثاني غير يهودي وفي الواقع كان التعامل بين اليهود والأغيار أمرا طبيعيا، لأن السكان المسلمين كانوا يشكلون القاعدة العريضة من الزبائن والمشتارين والمستدينين وأحيانا الدائنين. ومن بين أكثر النزاعات شيوعا أمام المحاكم تلك المتعلقة بالقرض بفائدة وعقد الشراكة والمنازعات العقارية. ولقد ورد المنع البات للقرض بفائدة كما وردت إدانته في نصوص التوراة وشروحها التلمودية. ورغم ذلك تفنن التجار في اختراع الوسائل المتنوعة للتحايل على القوانين المتعلقة بالقرض بالفائدة مما ألزم بعض التعديلات في التشريع لجعل بعض أشكال العمليات الربوية مشروعا 5.
وبما أن اليهودي لا ينجح دائما في الحصول على الاقتراض مباشرة من أحد الأغيار فإنه يلتجئ إلى رأسمال أخيه في الدين، مستعملا جاره أو شريكه غير اليهودي وسيطا في العملية وقد ظلت هذه المناورة مستعملة على نطاق واسع بالرغم من إدانة التشريع التقليدي لها. وهكذا يصبح التعاهد من هذا النوع عقدا عاديا للقرض بالفائدة 6.
اختصاصات الغرفة العبرية بالمحكمة الابتدائية
تختص الغرفة العبرية بالدارالبيضاء في جميع القضايا ذات الصبغة الشرعية التي يكون أطرافها يهودا يحملون الجنسية المغربية. هذه القضايا تشتمل الزواج والطلاق وأحكام النفقة والإرث والوصية، وهي مواضيع ذات طابع فقهي يهودي محض. هذا الأمر يفسر أن جميع القضاة الموجودين هنا هم من كبار الحاخامات والأحبار اليهود في المغرب.
تضم الغرفة خمسة قضاة كلهم أحبار لهم تكوين ديني يهودي بالمغرب ويعينون بظهير. فهؤلاء القضاة ليسوا مجرد رجال دين عاديين بل إن لكل حاخام منهم معبدا خاص به في الدار البيضاء حيث يقوم المغاربة اليهود بعباداتهم بل أن هؤلاء القضاة يتكلفون بختانة الأطفال اليهود والإشراف على جهاز مراقبة الغذاء لتحليل الطعام فضلا على أنهم الوحيدون في العالم الذين لهم تكوين خاص في القضاء العبري كما أن الغرفة العبرية بالبيضاء هي الوحيدة في العالم التي تطبق القانون العبري علما بأن إسرائيل تعمل بالقانون المدني المطبق من طرف قضاة مدنيين. ولا يختلف وضع القضاة العبريين المغاربة عن القضاة العاديين إذ لهم نفس الصلاحيات ويتوفرون على البطاقات المهنية ذاتها، كما أنهم يشاركون في انتخابات المحكمة كما يتقاضى هؤلاء أجورهم من الخزينة العامة للمملكة 7.
بالإضافة إلى القضاة تتوفر الغرفة العبرية على خمسة عدول لديهم تكوين عدلي ديني يهودي مغربي، اختلاف بسيط بينهم وبين العدول المكلفين بالتعاملات الشرعية الإسلامية هو أنهم لا يفتحون مكاتب بالشوارع وقرب المحاكم بل لهم أماكن خاصة داخل الأحياء التي يقطن بها المغاربة اليهود بشكل مكثف . وتتجلى مهمتهم في كتابة المحررات القضائية الشرعية مثل عقود الهبة والوصية والإراثة. هذه المحررات العبرية يتكلف القضاة الأحبار بترجمتها 8.
إلى جانب العدول العبريين المعتنقين الديانة اليهودية، يوجد محامون يهود مختصون في الأحكام القضائية العبرية ، يوفرون خدمة الدفاع عن المغاربة اليهود المتقاضيين، غير أن الغرفة العبرية لا تشترط في المحامين أن يكونوا يهودا، وهو ما يتيح للعديد من المحامين العاديين إمكانية الترافع في قضايا معروضة على الغرفة العبرية أطرافها يهود ويكون ذلك أساسا في القضايا الأخرى ذات الصبغة المدنية، والتي يكون النزاع فيها بين مغاربة يهود ومسلمين أو بين مغاربة يهود وآخرين من جنسيات أخرى حتى من إسرائيل.
مما سبق نستنتج أن المواطنين المغاربة اليهود عاشوا في إطار منظومة قانونية نظمت علاقتهم الداخلية والخارجية مع السلطة والمجتمع، كما حرصت على احترام خصوصياتهم الدينية والثقافية وهوما يؤكده الكم الهائل من الظهائر والمراسيم والقرارات التي نظمت بشكل محكم مختلف مناحي حياتهم وأنشطتهم.
أن القانون العبري المغربي في مجال الأحوال الشخصية المطبق على المواطنين المغاربة اليهود يستمد أسسه من المرجعيات التراثية والدينية اليهودية، كما أن هذا القانون يعد فريدا في العالم حيث أن كل دول العالم التي تضم اليهود بما في ذلك إسرائيل، تعمل بالقانون المدني.
هوامش:
1-القضاء العبري المغربي، إصدارات محكمة الاستئناف بفاس سنة 2008م.
2-نفسه.
3-نفسه.
4-جزء من المادة (2) من مدونة الأسرة المغربية.
5-حاييم الزعفراني، ألف سنة من حياة اليهود بالمغرب، ترجمة أحمد شحلان وعبد الغني أبو العزم، ط1 الدار البيضاء، 1987م ص: 161.
6-حاييم الزعفراني، مرجع سابق، س: 162
7-محمد خروبي، كاتب الضبط بالغرفة العبرية، موقع الناظور سيتي، 2012م.
8-حوار مع يوسف إسرائيل قاضي بالغرفة العبرية بالدار البيضاء، جريدة المساء، 1827-2013م.