مقدمة:
منذ اعتماد مدونة الأسرة المغربية سنة 2004، اعتُبرت خطوة جريئة نحو تحقيق المساواة والعدالة داخل الأسرة المغربية، خصوصًا من حيث الاعتراف بحقوق المرأة والطفل وتكريس مبادئ الشراكة داخل الحياة الزوجية.
غير أن الواقع العملي أفرز عددًا من الإشكالات التي كشفت محدودية بعض النصوص، ما جعل الدعوات إلى مراجعتها تتصاعد، خصوصًا في ظل التحولات الاجتماعية والثقافية والسياسية التي يعيشها المغرب.
اليوم، تجد مدونة الأسرة نفسها مرة أخرى في قلب الجدل العمومي، خاصةً بعد الخطاب الملكي الداعي إلى تحيين مقتضياتها، بما ينسجم مع روح الدستور والتزامات المغرب الحقوقية. ويتصدر النقاش القانوني والاجتماعي مواضيع الولاية الشرعية، الطلاق والتعدد، والنفقة والحضانة، لما لها من أثر مباشر على تماسك الأسرة واستقرار المجتمع.
إشكالية المقال: ما مدى نجاعة المقتضيات الحالية لمدونة الأسرة المغربية في حماية المرأة والطفل وضمان العدالة داخل الأسرة؟ وهل الإصلاح المرتقب كفيل بتجاوز إكراهات الواقع وتحديث المنظومة الأسرية؟
أولاً: الولاية الشرعية بين النص والتطبيق
تُعد الولاية الشرعية من المواضيع الحساسة في مدونة الأسرة، حيث تنص المادة 231 على أن الأب هو الولي الشرعي، وتليه الأم عند غيابه أو فقدانه للأهلية. غير أن هذا الترتيب أثار انتقادات لكونه لا ينسجم مع مبدأ المساواة الذي كرّسه دستور 2011، ويُقصي الأم من ممارسة ولاية كاملة على أطفالها في حالة وجود الأب، حتى وإن كانت هي الأجدر أو الأقدر.
في الواقع، نجد حالات كثيرة تواجه فيها النساء صعوبات عملية في تسجيل أبنائهن في المدارس أو السفر بهم، رغم كونهن الحاضنات القانونيات. هذا الخلل يبرز الحاجة إلى مراجعة مفهوم الولاية بما يحقق مصلحة الطفل، ويفرض انتقالًا من “الولاية الذكورية” إلى “الولاية المشتركة” بين الأبوين، وفق معايير المصلحة الفضلى للطفل وليس النوع الاجتماعي.
ثانيًا: التعدد والطلاق – بين الحرية والقيود
من بين أكثر المواضيع إثارة للجدل في مدونة الأسرة موضوعا التعدد والطلاق. فرغم أن المدونة قيّدت التعدد بشروط صارمة (المادة 41 وما بعدها)، منها الحصول على إذن قضائي وإثبات المبرر الشرعي والقدرة المالية، إلا أن الواقع أظهر اختراقات لهذه المقتضيات، إما عن طريق التحايل أو التلاعب في البيانات.
يُطرح هنا تساؤل: هل لا يزال التعدد مقبولًا في السياق المغربي الحديث؟ وهل شروطه الحالية فعالة؟ هناك من يرى أن التعدد، حتى ولو تم بضوابط، يُشكّل تهديدًا لاستقرار الأسرة الأولى، ويكرّس صورة نمطية تمييزية ضد المرأة. في المقابل، يعتبره البعض حقًا شرعيًا لا يمكن المساس به. بين الرأيين، تبرز الحاجة إلى مراجعة حقيقية لمبدأ التعدد، قد تصل إلى منعه تمامًا، أو على الأقل تشديد آليات المراقبة القضائية عليه.
أما في ما يخص الطلاق، فقد انتقلت المدونة من الطلاق بإرادة الزوج فقط إلى الطلاق القضائي بأنواعه المختلفة، مما أعطى المرأة آليات للحماية. إلا أن التطبيق العملي لا يزال يعاني من بطء المساطر، وتفاوت الأحكام، وصعوبة تنفيذ النفقة أو الحضانة بعد الطلاق.
ثالثًا: النفقة والحضانة – ضمانات قانونية أم واجبات اجتماعية؟
يشكل موضوع النفقة والحضانة إحدى أبرز الإشكاليات بعد الطلاق. ففي كثير من الحالات، تشتكي النساء من تهرّب الأزواج من أداء النفقة، ما يضع الأمهات الحاضنات في وضعية هشاشة مالية، ويؤثر سلبًا على الأطفال. رغم وجود آليات قانونية مثل صندوق التكافل العائلي، إلا أن تغطيته محدودة ولا يشمل جميع الحالات.
أما الحضانة، فرغم أن المدونة منحت الأم حق الحضانة الأولي، إلا أن إسقاطها في حال زواجها يُعد أحد المقتضيات المثيرة للجدل. إذ يُساءل هذا الشرط من منظور حقوقي حول مدى عدالته وإنصافه للمرأة الحاضنة، وهل زواج الأم يفترض بالضرورة عدم أهليتها لرعاية الطفل؟
رابعًا: نحو إصلاح حقيقي أم إعادة تجميل؟
في ضوء هذه الإشكاليات، تبرز الحاجة لإصلاح شامل وجريء لمدونة الأسرة، لا يقتصر على التعديلات الشكلية، بل يتطلب إعادة النظر في الفلسفة العامة التي تحكمها. ويُفترض أن يستند الإصلاح إلى:
1. التوفيق بين المرجعية الإسلامية وروح حقوق الإنسان.
2. تفعيل مبدأ المصلحة الفضلى للطفل كمبدأ حاكم لجميع المقتضيات.
3. مراجعة الولاية لتصبح مشتركة دون تمييز.
4. إعادة تقييم مبدأ التعدد في ضوء الواقع الاجتماعي.
5. تحسين آليات تنفيذ الأحكام المرتبطة بالنفقة والحضانة.
6. إدماج مقاربة النوع في كل جوانب المدونة.
خاتمة:
إن مدونة الأسرة ليست مجرد نص قانوني، بل هي مرآة تعكس تصورات المجتمع حول العدل، والمساواة، والكرامة داخل الأسرة. وإذا كان الإصلاح المرتقب يهدف إلى ضمان حقوق النساء والأطفال، وتحقيق التوازن الأسري، فإنه يستدعي نقاشًا مجتمعيًا صريحًا ومفتوحًا، تُشارك فيه جميع الأطراف: العلماء، القانونيون، الجمعيات، والنساء أنفسهن.
لقد آن الأوان لأن تُترجم النصوص إلى واقع ملموس، يُنصف الجميع دون تمييز، ويُحقق للأسرة المغربية استقرارها وأمنها القانوني والاجتماعي في ظل التغيرات المعاصرة.