مقدمـــــــــة:
منذ إقرار مدونة الأسرة المغربية سنة 2004، كثُر الحديث عن مكتسبات المرأة وتمكينها القانوني، وتم تسويق المدونة كإنجاز كبير نحو تكريس المساواة والعدالة داخل الأسرة.
لكن، وبالرغم من هذه الإصلاحات، بدأت تتعالى أصوات من داخل المجتمع المغربي، خصوصًا من فئة الرجال، تُعبّر عن شعور متزايد بالغبن القانوني والاجتماعي الناتج عن أحكام المدونة.
فالخطاب العام اختزل المظلومية في المرأة، وغيب تمامًا الرجل كطرف يتحمل الجزء الأكبر من الأعباء الأسرية.
في ظل هذه المفارقة، يفرض السؤال نفسه بإلحاح: هل لا يزال الرجل هو الطرف المهيمن داخل الأسرة المغربية؟ أم أن الواقع يُثبت أنه بات الحلقة الأضعف من حيث الالتزامات والحقوق؟
إشكالية المقال: هل يمكن اعتبار الرجل المغربي مظلومًا في ظل مقتضيات مدونة الأسرة؟ وما هي الإصلاحات الضرورية لإعادة التوازن داخل العلاقات الأسرية بشكل يضمن الإنصاف لكافة الأطراف؟
أولاً: الالتزامات المالية للرجل: ثقل لا يُطاق؟
من أبرز مظاهر اختلال التوازن بين الرجل والمرأة في مدونة الأسرة، أن الرجل مُلزم شرعًا وقانونًا بكافة التكاليف المعيشية. وتشمل النفقة: الطعام، الملبس، التعليم، التطبيب، السكن، والترفيه أحيانًا. وهذا يشمل الزوجة والأبناء، حتى إن كانت الزوجة تشتغل وتحقق دخلًا يفوق دخل الزوج.
هذا المبدأ كان مبررًا في مجتمع تقليدي حيث الرجل وحده من يُمارس العمل والإنتاج، لكن السياق تغير اليوم، وأصبحت النساء حاضرات بقوة في سوق الشغل، بل يتفوقن في بعض الحالات على الرجال من حيث الدخل والاستقرار المهني. ومع ذلك، لا يزال القانون يُلزم الرجل وحده بالنفقة، في تناقض صارخ مع مفهوم الشراكة الزوجية.
ثانيًا: المهر وتكاليف الزواج: من رمز إلى عبء اقتصادي
تحوّل الصداق، الذي كان في الأصل هدية رمزية، إلى شرط مادي ضخم يثقل كاهل الشباب المغربي. كثير من الأسر أصبحت تطلب مهورًا مبالغًا فيها، إلى جانب شروط إضافية كالسكن المستقل، حفل الزفاف الفاخر، والتأثيث الكامل.
هذا الواقع يخلق حالة من النفور لدى الشباب من الزواج، ويُؤخر سن الزواج بشكل لافت. بل يُمكن القول إن الزواج تحوّل إلى مشروع استثماري للمرأة أو أسرتها، بدل أن يكون علاقة قائمة على المودة والتكافل.
ثالثًا: غياب الواجبات القانونية المقابلة للمرأة حيث مدونة الأسرة تمنح المرأة حقوقًا كثيرة، لكنها لا تُلزمها بواجبات متوازية.
فهي غير ملزمة بالإنفاق، وغير ملزمة قانونيًا بأعمال البيت، ويمكنها رفض القيام بها دون أي أثر قانوني.
بل إن البعض يُطالب بسن قانون يُجبر الرجل على توفير خادمة إن لم ترضَ الزوجة بأعمال المنزل.
هذا التصور يُحول العلاقة الزوجية إلى علاقة ذات اتجاه واحد، يُقدِّم فيها الرجل كل شيء، ولا يَلقى بالمقابل أي التزام واضح، وهذا ما يُفقد الحياة الزوجية توازنها ومفهوم الشراكة الحقيقية.
رابعًا: الطلاق كأداة ربح قانونية؟
في حالات كثيرة، تُقدم بعض الزوجات على طلب الطلاق دون مبررات قوية، ومع ذلك يحصلن على مجموعة من التعويضات: المتعة، النفقة، السكن، الحضانة، مصاريف الأطفال، نفقات العدة، وغيرها.
والنتيجة أن الرجل يجد نفسه أمام التزامات مالية مرهقة، وربما يفقد أبناءه في الوقت نفسه.
بل الأخطر، أن بعض النساء يستعملن الطلاق كوسيلة للربح أو الانتقام، في غياب رقابة فعلية على دوافع الطلاق، وعدم وجود عقوبات على الطلاق التعسفي، كل هذا يُفاقم شعور الرجل بالهزيمة القانونية.
خامسًا: البعد النفسي والاجتماعي لمظلومية الرجل الرجل المغربي مُطالب دائمًا بالصبر، الكتمان، والتحمل.
لا يُسمح له بالتعبير عن معاناته، ولا يُعترف له بالحق في الانهيار أو الشكوى.
الخطاب العام يُطالبه بأن يكون “سندًا” و”رجلًا قويًا”، بينما في الواقع هو ينهار تحت ضغط المسؤوليات الاقتصادية، والاجتماعية، والعاطفية.
بل حتى في حالات العنف الزوجي أو الإهانة النفسية، يُواجه الرجل بالسخرية إذا اشتكى، في حين تُوفر للمرأة حماية قانونية ومؤسساتية واسعة.
هذا الخلل في التعاطف المجتمعي يُغذي اختلالًا آخر في ميزان العدالة.
سادسًا: ما الإصلاحات المطلوبة؟
لإعادة التوازن والعدالة داخل الأسرة المغربية، لا بد من مراجعة مدونة الأسرة برؤية جديدة، ومن بين أهم الإصلاحات الممكنة:
1. تقنين النفقة: اعتماد مبدأ “القدرة والاستطاعة”، وتوزيع النفقة حسب دخل الزوجين معًا.
2. ربط الحقوق بالواجبات: النص على التزامات واضحة للمرأة داخل الأسرة، بما فيها المساهمة المالية إذا كانت تشتغل.
3. ضبط شروط الطلاق: إلزام القضاء بالتحقيق في دوافع الطلاق، والحد من الطلاق التعسفي.
4. تعديل نظام الحضانة: تحقيق التوازن بين الأب والأم، وتمكين الأب من حضانة أبنائه عند توفره على الشروط.
5. فرض تعويض على الطرف المتسبب في الطلاق التعسفي.
6. إعادة الاعتبار للمهام النفسية والعاطفية للرجل: واعتماد مقاربة أكثر توازنًا في حماية الأسرة.
7. إشراك الرجال في لجان إصلاح المدونة: باعتبارهم طرفًا معنيًا، وليس فقط كخصم أو مسؤول.
خاتمة:
مدونة الأسرة في صيغتها الحالية لا تُحقق العدالة الكاملة، لأنها تنطلق من فرضية أن الرجل قوي لا يحتاج حماية، والمرأة ضعيفة تحتاج دائمًا إلى دعم. هذا التصور تجاوزه الواقع، وأصبح يُنتج مظلومية جديدة، غير معترف بها، تطال الرجال في صمت.
ولأن المجتمع لا يستقيم إلا بتوازن الأسرة، فإن أي إصلاح قادم يجب أن يكون شاملاً، يُنصف الرجل كما يُنصف المرأة، ويُعيد للأسرة المغربية تماسكها ومكانتها. فالمعادلة العادلة هي: “حقوق متساوية، وواجبات متقاسمة”