في تحول قانوني بالغ الأهمية، أصدرت المحكمة الأوروبية حكمًا مفصليًا يؤسس لمرحلة جديدة في العلاقات بين القضاء الوطني الأوروبي ومركز التحكيم الرياضي (CAS). فبعد عقود من التوجه نحو اعتبار قرارات المركز بمثابة أحكام نهائية غير قابلة للطعن خارج سويسرا، جاء الحكم ليقر بإمكانية الطعن في هذه القرارات أمام المحاكم الوطنية لدول الاتحاد الأوروبي. القرار، الذي استند إلى دعوى رفعها نادي RFC Seraing البلجيكي، يمس جوهر المنظومة القضائية الرياضية ويقوّض النموذج التقليدي الذي استندت إليه العلاقة بين الهيئات الرياضية الدولية والأنظمة القضائية الأوروبية لعقود طويلة.
إن أهمية هذا القرار لا تكمن فقط في مضمونه القانوني، بل تتعدى ذلك لتشمل البُعد الرمزي والسياسي الذي يحمله في ظل تنامي الانتقادات الموجهة لمنظومة التحكيم الرياضي بوصفها نظامًا مغلقًا يخضع لنفوذ المؤسسات الرياضية الكبرى، وفي مقدمتها الفيفا واللجنة الأولمبية الدولية. لقد فتح القرار الباب أمام تساؤلات جوهرية تتعلق بمشروعية الحصانة القضائية التي تمتعت بها المؤسسات الرياضية عبر العالم، وخصوصًا ما إذا كانت هذه الحصانة تتعارض مع الحقوق الأساسية للأطراف المعنية، كحق التقاضي أمام قاضٍ طبيعي، وحق الدفاع، ومبدأ المساواة أمام القانون.
لقد كان مركز التحكيم الرياضي الذي يوجد مقره بمدينة لوزان السويسرية يمثل، لسنوات طويلة، الوجهة القضائية الحصرية لكل النزاعات المرتبطة بالرياضة، سواء تعلق الأمر بالخلافات بين الرياضيين ومؤسساتهم أو بالطعون في قرارات اتحادات دولية كالفيفا أو الاتحاد الأوروبي لكرة القدم (UEFA). وقد استطاع هذا المركز أن يرسخ لنفسه مكانة مرموقة بصفته المحكمة العليا في قضايا الرياضة العالمية، بدعم غير مباشر من الهيئات الرياضية ذات النفوذ، التي اشترطت ضمن أنظمتها الداخلية وجوب اللجوء إلى CAS دون سواه، مما جعل منه بمثابة قضاء “مفروض” لا خيار فيه، يتنافى في أحيان كثيرة مع مبدأ الاختيار الحر لقاضي النزاع.
بيد أن هذا النظام لم يخلُ من انتقادات حادة، لا سيما في ما يتعلق باستقلالية المركز وشفافية إجراءاته. فقد اتهم منتقدو CAS بأنه يشكل فضاءً قضائيًا تتحكم فيه المؤسسات الرياضية نفسها، خصوصًا أن تمويله يتم بشكل أساسي من اللجنة الأولمبية الدولية، وأن أسماء المحكمين المعتمدين لديه تفرض غالبًا على الأطراف دون أن تكون لهم حرية مطلقة في اختيارهم. كما أثيرت تساؤلات بشأن التوازن بين الطرفين في هذه المنازعات، حيث يُنظر إلى الرياضي، باعتباره الطرف الأضعف، على أنه يدخل المعركة القضائية بموارد محدودة وإمكانيات قانونية لا تُقارن بتلك المتوفرة للاتحادات الرياضية الكبرى.
القرار الصادر عن المحكمة الأوروبية يُعتبر أول ضربة حقيقية لبنية هذا النظام. فهو يقر، في سابقة قانونية، بأن قرارات مركز التحكيم الرياضي، حتى لو صدرت من هيئة يقع مقرها خارج الاتحاد الأوروبي، تظل خاضعة لمراقبة المحاكم الوطنية متى تعلق الأمر بحقوق تندرج ضمن مظلة القانون الأوروبي. وبذلك تكون المحكمة قد اعتمدت مقاربة ترتكز على حماية الحقوق الأساسية المضمونة بموجب مواثيق الاتحاد الأوروبي، معتبرة أن هذه الحقوق لا يمكن أن تُعلق أو تُقصى لمجرد أن الطرفين اتفقا مسبقًا على التحكيم أمام هيئة أجنبية.
إن هذا المنظور الجديد، القائم على أولوية الحقوق الأساسية على قواعد التحكيم الخاصة، يمثل تغيرًا جوهريًا في فلسفة القضاء الأوروبي، الذي أظهر في حالات سابقة قدرًا من التردد في التدخل في نزاعات التحكيم الرياضي. بل إن الاعتراف ضمنيًا بأن التحكيم الإجباري المفروض من طرف المؤسسات الرياضية قد لا يستجيب دومًا لمعايير المحاكمة العادلة يُعد خطوة ثورية بكل المقاييس، ذلك أنه يمنح الرياضيين والأندية هامشًا قانونيًا جديدًا للطعن في قرارات لطالما اعتُبرت غير قابلة للنقاش.
ومن جهة أخرى، فإن أثر هذا القرار لا يقتصر على الجانب الرياضي فحسب، بل يمتد ليشمل العلاقة بين الأنظمة القانونية الوطنية والمؤسسات التي تستغل “التحكيم” كوسيلة للهروب من الرقابة القضائية التقليدية. فالفكرة الأساسية التي تكرّست بموجب الحكم هي أن الاتفاقات التحكيمية، مهما كانت طابعها الدولي، لا ينبغي أن تُستغل كأداة لحرمان الأطراف من ضمانات التقاضي العادل. بل إن المحكمة اعتبرت أن التحكيم، بصفته إجراءً استثنائيًا يخرج عن القواعد العامة للاختصاص القضائي، لا يجوز أن يُفرض على الطرف الأضعف دون أن تكون له الإمكانية الواقعية في الدفاع عن حقوقه أمام قاضٍ مستقل ومحايد.
وفي السياق ذاته، فإن تداعيات هذا الحكم قد تتعدى النطاق الأوروبي لتصل إلى دول ومؤسسات أخرى تعتمد آلية التحكيم الدولي في علاقاتها الرياضية أو التجارية. فقد يفتح الباب أمام دول خارج الاتحاد الأوروبي لمراجعة ترتيباتها الخاصة بالتحكيم الرياضي، خصوصًا في إفريقيا وأمريكا اللاتينية حيث غالبًا ما تُفرض هذه الشروط على الأندية والرياضيين دون تفاوض. بل إن بعض الخبراء يرون في هذا الحكم بداية لتحرك عالمي أوسع يعيد النظر في صلاحيات الهيئات التحكيمية الدولية، ويطالب بإعادة التوازن بين الأطراف المتنازعة.
من منظور موازٍ، يطرح الحكم أيضًا تحديات قانونية على مستوى التنسيق بين المحاكم الوطنية وهيئات التحكيم الدولية، إذ أن قبول الطعن في قرارات CAS داخل الاتحاد الأوروبي قد يخلق وضعيات تضارب أحكام، خاصة إذا صدر حكم من محكمة أوروبية يتعارض مع قرار نهائي صادر عن CAS. ورغم أن المحكمة الأوروبية لم تقدم تصورًا تفصيليًا لهذه الإشكالية، فإن الأمر يتطلب، من وجهة نظر فقهية، تطوير آليات جديدة لتسوية النزاعات القضائية المتشابكة، بما يضمن احترام الحقوق دون تقويض الاستقرار القانوني للنظام الرياضي العالمي.
ولعل من أبرز ما يدعم هذا التحول القانوني هو تنامي وعي الرياضيين أنفسهم بضرورة حماية حقوقهم، وعدم التسليم بالقيود المفروضة عليهم تحت غطاء اللوائح الرياضية. فقد شهدنا في السنوات الأخيرة قضايا مشهورة أثار فيها الرياضيون انتقادات علنية لإجراءات التحكيم، من بينها قضية لاعبة التنس الروسية ماريا شارابوفا، والنجم البرتغالي كريستيانو رونالدو، فضلاً عن قضايا تتعلق بالمنع من المشاركة في الألعاب الأولمبية لأسباب اعتبرها البعض سياسية. وفي كل هذه الحالات، شكلت القرارات الصادرة عن CAS حجر الأساس، دون أن يكون للرياضيين مجال واسع للطعن خارج هذا الإطار.
اليوم، وبعد حكم المحكمة الأوروبية، يتغير هذا الواقع. فالمؤسسات الرياضية باتت مطالبة بإعادة النظر في لوائحها التي تفرض على الرياضيين اللجوء الحصري إلى CAS، وإلا فإن قراراتها قد تصبح عرضة للطعن في المحاكم الأوروبية، وهو ما قد يهدد شرعيتها وقبولها دوليًا. كما أن مركز التحكيم الرياضي نفسه سيُضطر إلى مراجعة بنيته الإجرائية وضماناته القانونية، حتى يستعيد ثقة الرياضيين والمجتمع الدولي في حياده واستقلاله.
وفي الختام، لا يمكن وصف قرار المحكمة الأوروبية سوى بأنه لحظة فاصلة في تاريخ القضاء الرياضي الدولي. فقد حرّك مياهًا راكدة منذ سنوات، وأعاد الاعتبار لفكرة أن التحكيم لا يجب أن يكون وسيلة لتجاوز المحاكم، بل آلية يجب أن تُبنى على التوازن والعدالة والاختيار الحر. إنه قرار يكرّس مجددًا أن سيادة القانون تبدأ وتنتهي بحقوق الإنسان، وأن لا مؤسسة، مهما بلغت قوتها ونفوذها، تستطيع أن تجعل من نفسها سلطة فوق القانون.
أوروبا تُسقط حصانة CAS: القضاء الرياضي تحت المجهر
نهاية الحصرية السويسرية في التحكيم الرياضي: قرار المحكمة الأوروبية وتداعياته القانونية
