نمو صناعي قانوني للقنب المقنّن… دون القضاء على السوق السوداء

"القنب القانوني بالمغرب… توسع الإنتاج وصمود السوق السوداء"

عالـم القانون11 أغسطس 2025
صورة لنبات القنب مع عنوان بالإنجليزية حول الصناعة القانونية للقنب.

 

مقــدمة

 

شهد المغرب خلال السنوات الأخيرة تحوّلاً غير مسبوق في سياسات التعاطي مع القنب: من اقتصادٍ شبه مقنّع وسوقٍ سوداء تقليدية إلى إطارٍ قانوني يُنظّم الزراعة والإنتاج والتصدير لأغراض طبية وصناعية. هذا التحول جاء نتيجة لقانون أقرّه البرلمان وإحداث هيئات تنظيمية متخصصة، ما فتح نافذة اقتصادية وفرص عمل لسكان مناطق الشمال (الريف) التي اعتمدت تاريخياً على زراعة القنب. ومع ذلك، يواجه هذا المسار المعقّد تناقضًا واضحًا: توسعٌ ملحوظ في الإنتاج القانوني من ناحية، واستمرارٌ قوي للسوق السوداء من ناحية أخرى — وهو ما يثير أسئلة قانونية واجتماعية واقتصادية عميقة.

وضع السوق القانوني اليوم: أرقام ودلالات

منذ تشريع الإطار القانوني المتعلق بالاستخدامات الطبية والصناعية للقنب (Law 13-21 وما تلاه من تنظيمات)، شهدت المساحة المصرّح بها للزراعة الشرعية وزيادة سريعة في أعداد المزارعين المرخّصين وكمية الإنتاج المسجّلة. تقارير رسمية وصحافية تشير إلى أن المساحات القانونية توسّعت من مئات الهكتارات إلى عدة آلاف، وأن الإنتاج القانوني بلغ أرقامًا تُحسب بالآلاف من الأطنان خلال 2024–2025، مع دخول مزارعين جدد إلى النظام المرخّص وإجراء أولى صادرات قانونية نحو أسواق أوروبية. هذه المعطيات تؤكد وجود صناعة متنامية تعتزم تحويل نشاط تقليدي إلى قطاع اقتصادي منظّم ومؤسسي.
لكن قراءة هذه الأرقام وحدها قد توهم أن المشكلة حلّت؛ فالواقع على الأرض أكثر تعقيدًا: فمساحة الأراضي المزروعة غير القانونية لا تزال تفوق بكثير المساحات المرخّصة، والمنتجات غير المصرّح بها تظل مطلوبة محليًا وإقليمياً، الأمر الذي يمدّد عمر السوق الموازية ويجعل التحوّل الكامل هشا إن لم تُرافقه سياسات اقتصادية واجتماعية متكاملة.
لماذا يستمر السوق السوداء؟ تحليل عقبات عملية وقانونية
التحوّل من اقتصاد غير رسمي إلى قطاع قانوني يتطلب أكثر من إصدار قوانين: يحتاج إلى آليات فعّالة للتنفيذ، لبيئة مؤسسية شفافة، وإلى حوافز اقتصادية تُكافئ الامتثال وتقلّل الفائدة من البقاء في الظل. في حالة المغرب، يمكن حصر العوائق في نقاط عملية وقانونية أساسية:

1. تعقيد الإجراءات والبيروقراطية:

 

نظام الترخيص، شروط الانخراط في تعاونيات مرخّصة، متطلبات التتبع والجودة، وإجراءات التسويق والتصدير تُعدّ عقبات أمام كثير من المزارعين الصغار الذين يفتقرون إلى موارد قانونية وتمويلية وتقنية. هذه التعقيدات تجعل الدخول في القطاع المنظّم مكلفًا زمنياً ومالياً مقارنةً بالبيع الفوري للسوق غير الرسمي.

2. فروق الأسعار الهائلة:

 

الأسواق غير الرسمية تدفع ثمناً أعلى لمادة الرّيسن أو للحشيش الخام بالمقارنة مع الأسعار في القنوات القانونية التي تفرض مواصفات وجودة أقل أو تبيع بأسعار منخفضة للمصنّعين الأجانب. وجود فرق سعر كبير يجعل العودة للسوق الموازية خيارًا إغراءً اقتصادياً لبعض الفلاحين. تقارير ميدانية نقلت فروقًا كبيرة جداً بين سعر السوق الأسود وسعر المنتج القانوني.

3. بطء السيولة والدفع:

 

بعض المزارعين يُبلغون عن تأخّر في دفع المستحقات من الجهات المشغّلة أو من سلاسل القيمة القانونية، ما يولّد أزمة سيولة ويزيد مخاطر الاعتماد على السماسرة في السوق غير القانوني لتغطية حاجات العائلة الفورية

4. غياب شبكة لوجستية وتمويلية ملائمة:

 

القطاع القانوني حديث العهد؛ البُنى التحتية من تعبئة ومساحات تبريد، ومعالجة، وشراكات مع قطاع الأدوية أو التجميل، لا تزال في طور التشكّل. نقص هذه الشبكات يجعل المنتج القانوني أقل تنافسية من ناحية التكلفة والمرونة

5. بقايا الإطار الجنائي الاجتماعي:

 

على الرغم من التشريع وتيسير تراخيص محدّدة، لا تزال آثار عقود الحظر السابقة، وقبضة الشبكات الإجرامية، وخوف بعض الفلاحين من الملاحقة أو فقدان مصادر دخل قديمة، عوامل تدفع جزءًا من المجتمع الريفي إلى التمسك بالأساليب التقليدية في التجارة
هذه العوائق مجتمعة تبيّن أن الجانب القانوني وحده لا يكفي لامتصاص «الشوائب» الاقتصادية للسوق غير الرسمي؛ بل يتطلب تدخلاً متعدد الأبعاد.

أطر تنظيمية ومحاولات الحلّ: ما الدور الذي تلعبه الدولة والهيئات الرقابية؟

بعد إقراره، نصّ قانون تنظيم الأنشطة المرتبطة بالقنب على إشراف مؤسسات مثل الوكالة الوطنية لتنظيم الأنشطة المتعلقة بالقنب (ANRAC) التي تُكلّف بمنح التراخيص، ومراقبة الامتثال، وتنسيق سلسلة القيمة. هدف هذه المؤسسات هو ضمان توالي الإنتاج من الحقل إلى المعمل مع الالتزام بمواصفات دوائية وصناعية قابلة للتصدير. كما شَهِدنا مبادرات لتدريب المزارعين، ومنح إعفاءات جزئية أو دعم تقني في بعض الحالات لتشجيع التحوّل إلى النظام القانوني.
إضافة إلى ذلك، كانت هناك مبادرات سياسية واجتماعية، مثل عفو ملكي شمل آلاف المزارعين المتهمين سابقًا، كإشارة للانتقال من المسار الجنائي إلى المسار الاقتصادي والتنظيمي؛ خطوة تهدف إلى إزالة حاجز الخوف وتشجيع الاندماج في الاقتصاد الرسمي. لكن العفو وحده لا يكفي إذا بقيت الحوافز الاقتصادية ضئيلة والإجراءات الإدارية معقدة
من الناحية القانونية، يتطلب استقرار السوق القانوني أيضاً إرساء قواعد واضحة للتعاقد بين المزارع والمشغّل، آليات سعر مرجعية عادلة، نظم حماية اجتماعية للمزارعين في مرحلة الانتقال، وبرامج لتمويل البنية التحتية المحلية. إن غياب هذه الضمانات يعطّل ثقة الفاعلين ويُبقيهم في موقف تقابلي مع القنوات القانونية.

تبعات دولية وتجارية: التصدير والفرص الاقتصادية

بعض الشركات المغربية بدأت تصدّر منتجات قنب مرخّصة إلى أسواق أوروبية، مما دلّ على إمكانية تحقيق عائدات مالية معتبرة للبلد. توقعات اقتصادية متحفظة تُشير إلى أن القطاع قد يحقق مداخيل سنوية كبيرة إذا أمكن احتلال حصة من سوق المستحضرات الطبية ومستحضرات التجميل في أوروبا خلال السنوات المقبلة. لكن المنافسة الدولية، معايير الجودة الأوروبية، ومتطلبات سلسلة التبريد والتتبع، تُشكل تحديات تصعّب على المنتج المغربي منافسة الموردين الأوروبيين أو الأمريكيين إلا بعد استثمارات كبيرة.
وبينما تبدو الفرص التصديرية واعدة، إلا أن الدولة مطالَبة بأن توازن بين فتح القناة التصديرية وتطوير الاقتصاد المحلي بحيث لا يتحوّل مربط الفائدة إلى مستثمرين خارجيين يغتنون من اليد العاملة المحلية دون رفع القيمة المضافة داخل المغرب.

مقاربة مقترحة: كيف نجعل التحوّل قانونيًّا واجتماعيًا مستدامًا؟

من خلال قراءة المشكل في شيفرته الاقتصادية والقانونية، يمكن اقتراح حزمة سياسة متكاملة تساهم في تحجيم السوق السوداء وتعزيز القطاع القانوني:
تبسيط الإجراءات وتفويض محلي: تبسيط شروط الترخيص، وإعطاء صلاحيات أكبر للتعاونيات المحلية لتجهيز الأوراق الإدارية وتلقي المدفوعات، وتقليص أزمنة الموافقة
آليات سعر مرجعية ودعم مؤقت: اعتماد أسعار دنيا أو دعم مالي مرحلي للمحاصيل القانونية يعوّض الفارق مع الأسعار السوداء ويمنح المزارع سيولة كافية أثناء الانتقال
شبكات تمويل وبنية تحتية: إنشاء خطوط ائتمانية ميسّرة لتجهيز مرافق التعبئة والمعالجة المحلية، ودعم بناء معاصر للتصدير يضمن قيمة مضافة في الداخل
حماية اجتماعية وتكوين مهني: برامج إعادة تأهيل مهني وتمويل مشروعات بديلة تُقلّل اعتماد الأسر على مصادر غير قانونية، وتدريب على المواصفات المطلوبة لصناعات الدواء والتجميل.
مراقبة صارمة للسلاسل التصديرية: حماية الجودة والسمعة الدولية عبر نظام تتبّع شفاف وموثوق، مع عقوبات رادعة على التجاوزات التي قد تضر بسوق التصدير

خاتمة: بين الأمل والحذر

التحوّل القانوني لصناعة القنب في المغرب يمثل فرصة تاريخية لإعادة هيكلة اقتصاد مناطقٍ مهمّشة، وتوفير بدائل تنموية لآلاف الأسر. لكن النجاح ليس محسوماً؛ فالسوق السوداء لا تختفي بمجرد سنّ القوانين. يتطلب الأمر بذل عمل متزامن قانوني، اقتصادي، واجتماعي: تبسيط وإصلاح الأنظمة الإدارية، سياسات سعرية عادلة، استثمارات في سلسلة القيمة المحلية، وبرامج اجتماعية لاحتواء المخاطر. إن نجحت هذه المعادلة، فلا شك أن المغرب قادر على بناء قطاع قانوني تنافسي يصبّ في مصلحة الفلاحين والدولة والمستهلكين على حدّ سواء. وإلا، فسيبقى المشهد ثنائيًا: صناعة قانونية مزدهرة على الورق وسوقٌ موازٍ يلتهم المكاسب الفعلية على الأرض

Leave a Comment

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


Comments Rules : من شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الإلهية، والابتعاد عن التحريض العنصري والشتائم.

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

We use cookies to personalize content and ads , to provide social media features and to analyze our traffic...التفاصيل

موافق