لقد عمل المغرب و منذ تفشي جائحة كوفيد 19 على إقرارمجموعة من المبادرات الكفيلة بالحد من اثارها الوخيمة التي لم تسلم منها جل دول العالم ، والتي أثرت على السيرورة العادية للحياة الاقتصادية والاجتماعية بها، و لعل من بين الفئات التي تأثرت بشكل مباشر وكبير بهاته الجائحة نجد الفئة النشيطة في القطاع الخاص او القطاع الحر المستقل و كذلك الغير المهيكل – باستثناء الانشطة الحيوية التي لها صلة بالمعيش اليومي- ، والتي فرض اعلان حالة الطوارئ استمرار العمل فيها بشكل طبيعي. هاته الفئة التي بين عشية وضحاها وجدت مكوناتها نفسها في شبه عطالة عن العمل ، نتج عنها فقدان احد المبادئ التي يقوم عليها نظام الشغل في العالم وهو الاجر مقابل العمل ، هذا الامر الذي لا محال في فقدانه اضطراب في مجاراة الحياة المعيشية بالشكل التي كانت عليه بما فيه من التزامات ومن حقوق .
وإن من بين المبادرات التي سنها المغرب في هذا الصدد لتفادي حدة هذا الاضطراب و آثارها الجانبية على هاته الفئة، نجد مبادرة تأجيل سداد القروض التي تبنتها لجنة اليقظة باتفاق مع المجموعة المهنية لبنوك المغرب، والتي اتسمت بغموض وسوء تنزيل كبيرين في بداية تفعيلها و أجرأتها و ما خلفته من جدل حول شروط ومضامين الاستفادة منها ، قبل ان يتم التدخل من طرف لجنة اليقظة قبل أيام والحسم في ذلك .
هاته المبادرة التي قبل ان تجد أساسها في القانون الوضعي من خلال ما يعرف تشريعا بمهلة الميسرة او المهلة الاسترحامية او الامهال القضائي ، فإن ديننا الحنيف قد سبق و ان وضع لبناتها و اوصى بها من خلال واجب استحضار الرأفة اخلاقيا بالمدين الذي وجد نفسه في مركز يصعب عليه معه الوفاء بدينه في الاجل المتفق عليه، وفقا لقوله عز وجل “…و إن كان ذو عسرة فنظرة الى ميسرة ” .
ولما كان الاتفاق السالف الذكر بخصوص مسألة تأجيل القروض تم وفق شروط معينة قد حدد للاستفادة منها كحيز زمني مدة ثلاثة اشهر، فإنه ثمة هناك فئات عدة ستواجه صعوبات كبيرة لمدة أطول من هذا الاجل ولما بعد رفع حالة الطوارئ بغية عودة انشطتها للشكل الطبيعي الذي كانت عليه من قبل، الامر الذي سيستمر معه لا محالة تعثر دوران عجلتها لما بعد جائحة كورونا ، وفي هذا الصدد وبالرجوع الى القانون 31.08 القاضي بتحديد تدابير لحماية المستهلك ، و الذي سنه المغرب قبل سنوات مضت في سبيل تحقيق حماية حقيقة للمستهلك حتى لا يبقى الحلقة الاضعف في المعاملات، نجد انه ينص في المادة 149 منه على انه ” بالرغم من احكام الفقرة الثانية من الفصل 243 من الظهير الشريف الصادر في 9 رمضان بمثابة قانون الالتزامات والعقود يمكن ولاسيما في حالة الفصل عن العمل او حالة اجتماعية غير متوقعة ان يوقف تنفيذ التزامات المدين بأمر من رئيس المحكمة المختصة ويمكن أن لا تترتب عليها فائدة طيلة مدة المهلة القضائية ” .
هذه الإمكانية المخولة للمستهلك بمقتضى هذا التدخل التشريعي الذي بسنه حاول المشرع المغربي تحقيق الانصاف الذي يتوخاه القانون في حد ذاته ، حيث سمح بالتدخل لرسم حدود لما يعرف بمبدأ سلطان الارادة الذي يستمد شرعيته من القانون تجسيدا لقاعدة “العقد شريعة المتعاقدين ” ، من خلال فتح الباب للقضاء بأن يتدخل لتعديل بنود هذا العقد ولو بصفة مؤقتة و في نطاق ضيق من خلال توقيف مدة سريانها بين طرفي هاته الرابطة التعاقدية لمدة معينة وبشروط محددة، ليبقى التساؤل المهم والمطروح في هذا الصدد هل يمكن القول ان جائحة كوفيد 19 سيتسع صدر المادة 149 من قانون 31.08 لتشملها برحمتها ؟ من خلال تصنيفها ضمن زمرة ” الحالة الاجتماعية غير المتوقعة” التي تحدث عنها المشرع المغربي في إطار هذه المادة، وكيف واكب العمل القضائي هذه المكنة عموما في إطار تطبيقه لمقتضيات المادة 149 ؟
هذا من سنحاول تسليط الضوء عليه من خلال زاوية عملية سنتجنب فيها الخوض في مجموعة من القواعد النظرية.
اولا لابد من التذكير انه بالرجوع لنص المادة 149 من قانون 31.08 التي اناطت بمؤسسة رئيس المحكمة مهمة البث في هذا الطلب ، يمكن القول ان الملاحظة الاساسية التي تثار في هذا الصدد هي عدم تحديد واضع هذا النص الجهة المختصة نوعيا للبث فيه و انما تم الاكتفاء فقط بذكر “المحكمة المختصة”، هذا الامر الذي لم يكن من محض الصدفة او السهو- ولو ان كان من الافضل الحسم فيه يموجب القانون 31.08 على غرار الاختصاص المكاني – ، وذلك على اعتبار ان المشرع المغربي في إطار القواعد العامة الاساسية المتعلقة بالاختصاص قد منح للأشخاص الخاضعين للقانون المدني الحق بين مقاضاة التاجر امام المحكمة المدنية او المحكمة التجارية، وانه طبقا للمادة 5 من القانون المحدث للمحاكم التجارية، يعلق أمر جر الطرف المدني للتقاضي امام المحكمة التجارية على شرط وجود اتفاق مسبق بخصوص ذلك، و في هذا الصدد جاء في حكم صادر عن المحكمة التجارية بالبيضاء ” مادام ان المدعى عليه يعتبر تاجرا فإن المدعين باعتبارهم خاضعين للقانون المدني لهم الاختيار بين مقاضاته امام للمحكمة المدنية او امام المحكمة التجارية، ومادام قد رفعوا الدعوى امام هذه المحكمة فقد مارسوا حق الخيار الممنوح لهم قانونا ” ، كما انه و حتى على فرض التنصيص في اتفاق مسبق على هذا الشرط بين الطرفين فإنه باختيار الطرف المدني لمقاضاة التاجر أمام المحكمة التجارية تنازل عن الشرط الاتفاقي، ولا يمكن الدفع من جهة التاجر بعدم احقية المحكمة التجارية للبث في النزاع مادامت هي محكمته الأصلية ، ورد في هذا الصدد في حكم للمحكمة التجارية بالبيضاء “اذا كان غير التاجر لا يقاضي امام المحكمة التجارية الا بمقتضى اتفاق مع التاجر فإنه مقاضاته هو للتاجر امام المحكمة التجارية يعتبر تنازلا عن الشرط الاتفاقي ولا يمكن للتاجر ان يدفع بعدم اختصاص المحكمة التجارية لأنها محكمته الاصلية التي يتقاضى امامها التجار “.
أما فيما يتعلق بالاختصاص المكاني للتقاضي فإن المادة 202 من قانون 31.08 قد نصت على انه ” في حالة النزاع بين المورد والمستهلك ورغم وجود اي شرط مخالف، فإن المحكمة المختصة هي محكمة موطن او محل اقامة المستهلك او محكمة المحل الذي وقع فيه الفعل المتسبب في الضرر باختيار هذا الأخير”
اذن من خلال ما سبق يمكن القول ان لطالب الامهال القضائي الحق في اللجوء للمحكمة المدنية او التجارية بحسب محل اختياره.
ولما كان رئيس هذه المحكمة هو المختص للبث في هذا الطلب فإنه ثمة ملاحظات عدة يمكن اثارتها بهذا الخصوص، اهمها هي طبيعة تدخل رئيس المحكمة للبث في هذا الطلب ، بحيث اذا كان الاصل طبقا للقواعد العامة في الفصل 148 و 149 من قانون المسطرة المدنية يعد رئيس المحكمة مختص للبث في مجموعة من الطلبات بصفته الولائية او بصفته قاضيا للمستعجلات، فإن من جهة اخرى و بالرجوع الى بعض القوانين الخاصة نجدها قد منحته اختصاصات اخرى بصفته التي يمكن تسمية تدخله فيها بمحكمة الرئيس ان صح القول، وليس فقط رئيس المحكمة ،بحيث يبث في طلبات في الاصل هي من صميم اختصاص قضاء وقاضي الموضوع، الا ان المشرع منح صلاحية البث فيها لرئيس المحكمة، وبالتالي اصبحنا أمام ما يصفه الآن بعض الفقه بالقضاء الاستعجالي الموضوعي .
وبالرجوع الى بعض ما افرزه الواقع العملي في إطار تطبيقه لمقتضيات هذه المادة وبثه في الطلبات الواردة بخصوصها، نجد على انه و ان كان هناك شبه اجماع على اعتبار حالة الفصل من العمل التي تحدث عنها نص المادة بشكل صريح تعد مبررا يخول لطالب الامهال توقيف أداء اقساط قرضه لمدة محددة ، و هذا يستشف من خلال العديد من الاوامر الصادرة بهذا الخصوص، منها ما جاء في امر رئيس المحكمة الابتدائية بالرباط ” … وحيث ان الطالب ادلى من جهة ثانية بنسخة من مقال اجتماعي مقدم امام قسم نزاعات الشغل يتجلى بتفحص ظاهره تعرضه للفصل من قبل مشغله، الامر الذي تكون معه اسباب الطلب قائمة”، الا ان هذا الامر يبقى بطبيعة الحال رهين بإثبات طالب الامهال القضائي فقدانه لهذا العمل بطريقة لا ارادية كذلك، وليست بمحض اختياره كما هو حال الاستقالة من العمل التي يتقدم بها الأجير، جاء بهذا الخصوص في امر لرئيس المحكمة الابتدائية بسلا ” … و حيث ان الثابت من وثائق الملف ان الطالب لم يفصل من عمله و انما تقدم باستقالته الامر الذي تكون معه اسباب الطلب غير قائمة ” ، هذا بالإضافة الى ان يكون هذا الفصل لم يتم بشكل اتفاقي مع المشغل، كأن يتم باللجوء الى مسطرة التحكيم التي انتهت بحصوله على تعويضات من طرف المشغل، او تم ذلك عن طريق مسطرة الصلح امام مفتش الشغل طبقا لمقتضيات الفصل 41 من مدونة الشغل ، جاء بهذا الخصوص في امر لرئيس المحكمة الابتدائية بتمارة “وحيث انه بالرجوع الى الوثائق المدلى بها من طرف طالب الامهال ، يتبين ان فقدان العمل حصل بمقتضى اتفاق صلح مبرم امام مفتش الشغل على تعويض من طرف مشغله ، الامر الذي يكون معه الطلب غير مبرر “.
اذن فالملاحظة الاساسية التي يمكن إبدائها في هذا الصدد بالاطلاع على العمل القضائي في إطار تطبيقه لهذه المادة، هي ان قبول طلب الامهال في هذه الحالة يبقى رهين بوجود حالة فصل من العمل ينتظر من خلال البث في النزاع القائم بخصوصها امام المحكمة الاجتماعية الحصول على تعويضات مالية تمكن طالب الامهال من اداء اقساط قرضه، وهذا الامر في نظرنا ليس مبرر في حد ذاته مادام ان دعوى نزاع الشغل لايمكن أن تنتهي دوما بالحكم لصالح الاجير بتعويضات عن فصله من العمل بعد اعتبار الطرد تعسفيا، وانما يبقى ذاك خاضع للسلطة التقديرية للقضاء بحسب ظروف كل واقعة الفصل من العمل .
و هذا لا يمنع من القول ان هناك بعض الاوامر القضائية ذهبت الى اعتبار الفصل عن العمل الذي تعرض له طالب الامهال ولو توفرت الشروط السالفة الذكر لا يعد مبررا لطلبه ، على اعتبار ان القسط الشهري الذي التزم به مع المقرض منذ ابرام عقد القرض تتجاوز قيمة أجرة طالب الامهال الشهرية في عمله قبل ان يتم فصله، وبالتالي يبقى طلبه غير مؤسس مما تم رفضه .
و اذا كانت مسالة الفصل عن العمل التي ذكرها المشرع في إطار المادة 149 من قانون 31.08 لا تطرح اشكالا كبير للتنصيص عليها بشكل صريح ، فإن الاشكال يطرح في غير حالات الفصل عن العمل التي ذكرت فقط على سبيل المثال لا الحصر بحسب ما يظهر من نص المادة، و التي يمكن ادراجها في خانة ما وصفه واضع القانون بالحالة الاجتماعية غير المتوقعة ، ومنها مثلا الحالة التي يكون فيها فقدان طالب الامهال لدخله ليس بسبب الفصل عن العمل ، وانما لسبب اخر يمكن ادراجه في خانة الحالة الاجتماعية التي تحدثت عنها المادة 149 من قانون 31.08، كما هو الامر صاحب القرض الذي يحكم عليه بعقوبة حبسية مثلا يجد نفسه معها وراء القضبان، غير قادر على الاستمرار في الوفاء بالتزامه التعاقدي مع المقرض من خلال اداء اقساط قرضه الشهرية بشكل طبيعي، حيث بالرجوع الى بعض العمل القضائي في تعامله مع هذه الحالة ، فإن منه من اعتبر في هذا الصدد طلب صاحب القرض وزوجته الحصول على امهال قضائي بسب اعتقاله غير مبرر، مادامت اقساط القرض تؤدى بشكل تضامني بين الزوجين كل بحسب نسبته في القرض، و ان استمرار الزوجة في عملها يمكنها معه الاستمرار في أداء مبلغ هذه الاقساط، و في نظرنا هذا توجه غير سليم و بعيد عن قواعد الانصاف التي يتوخى الاجتهاد القضائي تحقيقها باعتباره مصدر تفسيري للقانون ، كما يطرح الامر نفسه في الحالة التي يجد فيها صاحب القرض نفسه امام اعفاء من الاستمرار في وظيفته بشكل طبيعي بسبب عدم قدرته بدنيا على الاستمرار في ذلك العمل مما احيل معه على التقاعد، حيث اعتبر هذه الحالة غير مبررة لطلب الحصول على الامهال القضائي مادام ان هذا الاعفاء لن يترتب عنه بشكل كلي توقف دخل صاحبه طالب الامهال وإنما يمكن ان يستمر معه في اداء التزامه.
ونفس الشيء نجده كذلك على مستوى بعض الاوامر القضائية في تعاملها مع الحالة التي يكون فيها صاحب القرض طالب الامهال في وضعية اجتماعية غير متوقعة، بسبب عودته كمهاجر خارج ارض الوطن الى المغرب بشكل نهائي، دون توفره بعد على موارد مادية كافية للاستمرار في الوفاء بالتزاماته بشكل طبيعي، بحيث اعتبرت هذا الامر لا يعد مبررا لقبول طلب الإمهال القضائي، مادام ليس هناك ما يبرر كون هذا الامر حالة اجتماعية غير متوقعة.
اذن من خلال كل ما سبق ذكره على سبيل المثال لا الحصر، يمكن الخلوص الى ان القضاء في إطار تطبيقه لهذه المادة لم يتعامل مع هاته المكنة التي خولها المشرع للمستهلك بنوع من اليسر في تفسير مضمونها، وإنما ظل ملتزم بتطبيقها في نطاق ضيق لعدة اسباب ابرزها غياب تعريف دقيق لماهية الحالة الاجتماعية الغير المتوقعة وشروطها ، بالرغم ان من وجهة نظرنا هذا الامر لا يطرح اشكالا في بعض الحالات التي يمكن فيها فقط اعمال شروط تحقق نظرية القوة القاهرة حتى يتضح بشكل جلي توفر هذه الحالة الاجتماعية غير المتوقعة من عدمها، كما هو الحال مثلا فيما يخص جائحة كوفيد 19 التي يمكن القول أنها حالة اجتماعية غير متوقعة على مستوى كل جل دول العالم ، وحتى اذا ما أردنا اعمال شروط تحقق القوة القاهرة بخصوصها والمنصوص عليها في الفصلين 268 و 269 من ظهير الالتزامات و العقود ، سنقف فعلا عند توفر شرط عدم توقع هذه الواقعة القانونية التي ترتب عنها هذا الإخلال العقدي اولا، و بالمفهوم الذي وصفه المشرع بها باعتبارها كل امر لا يستطيع الإنسان ان يتوقعه، وخاصة اذا ما استحضرنا ان هاته المعاملات قد تمت حتى قبل ظهور أول حالة اصابة بالفيروس في العالم كي لا نكون امام شبهة في توفر هذا الشرط من عدمه، إضافة الى الشرط الثاني المتعلق بكونها خارجة عن إرادة أطراف هذه الرابطة التعاقدية، بحيث لا أحد ساهم بشكل او بآخر في تحقق وقوعها ولا كانت له إرادة في ذلك، ثم اخيرا الشرط المتعلق بصعوبة تجنب الآثار المترتبة عنها ، والذي لا محالة يبقى الثابت من الاعلان عن حالة الطوارئ بموجب مرسوم بقانون رقم 2.20.292 ، انه لا يمكن مخالفة الاوامر المندرجة في إطار “فعل السلطة ” والتي امرت بها السلطات علی سبيل تنزيل مقتضيات المرسوم، لتجنب الاثار
الإمهال القضائي للقروض البنكية في ضوء الكوفيد-19
الإمهال القضائي للقروض البنكية في ضوء الكوفيد-19
Source
ذ:حريث شعيب