إن المدخل إلى دراسة أي علم من العلوم، إنما يهدف عادة إلى التعريف بهذا العلم وإعطاء المعلومات الأولية عنه وبيان خصائصه التي تميزه عن باقي العلوم الأخرى وشرح مبادئه العامة وأفكاره الرئيسية بصورة تمهد لدراسة ذلك العلم نفسه فيما بعد. ولا شك أن المجتمع الذي تخلو ربوعه من ظلال القانون سيكون بمثابة غابة يأكل القوي فيها الضعيف فتتعثر مسيرة الحياة، ويطغى الاضطراب وعدم التوازن فيها. وعلى العكس من ذلك يكون الأمر في المجتمع الذي يعيش تحت ظلال القانون حيث ترى التوازن بادياً فيه، إذ أن تشبع فكر أبناء ذلك المجتمع بمبادئ القانون أضفى عليه صفة الاستقرار تلك، فالإيمان بضرورة وجود القانون وحتمية الامتثال لقواعده دليل على رقي فكر المجتمع وهذا هو شأن دراستنا “لمدخل القانون”، الذي لا يعدو أن يكون دراسة تمهيدية وشرح المبادئ العامة المشتركة في العلوم القانونية لتسهل لنا نحن طلاب العلم معرفة القانون وفهمه وتساعدنا على استيعاب أبحاثنا التي تلقى علينا في مشوارنا الدراسي…ولتحقيق ذلك تطرقنا في بحثنا هذا على تبيان ماهية القانون بدراستنا للقسم الأول من أقسام القانون ألا وهو التعريف بالقانون وبيان خصائصه…حيث أستهل البحث بتحديد مفهوم القانون ثم تطرقنا إلى خصائص القاعدة القانونية خالصين إلى التمييز بين القواعد القانونية وغيرها من القواعد الاجتماعية الأخرى…فتلك أسس و مبادئ لابد من التطرق لها في دراستنا لهذا الموضوع بغية إيضاح الأحكام والمبادئ العامة التي تستند إليها القوانين بكافة فروعها … فالقانون بكل فرع من فروعه يحفظ ويحمي حقوقا متعددة للأفراد والدولة وهو يرمي إلى تنظيم المجتمع تنظيما من شأنه
العمل على تحقيق الخير العام للأفراد وكافة المصلحة العامة للمجتمع ويعمل على صيانة الحريات للأفراد ومصالحها الخاصة، فالقانون أمر لابد منه، ولا يتسنى لمجتمـــع من المجتمعات مهما كانـــت درجة ثقافته أن يتملص نهائيا من وضع قواعد يمكنه من خلالها تسيير أموره. بناءاً على ما تقدم من حتمية وجود القانون في المجتمعات نعرف أن هناك أسباباً لنشأة القانون، ولنــــا
أن نتساءل لماذا بات وجود القانون ضرورة حتمية في المجتمع البشري؟..
المبحث الأول: تحديد مفهوم القانون
المطلب الأول: أصل كلمة قانون
إن كلمة “قانون” كلمة معربة يرجع أصلها إلى اللغة اليونانية فهي مأخوذة من الكلمة اليونانية Kanun ومعناها العصا المستقيمة أي النظام أو المبدأ أو الاستقامة في القواعد القانونية، وقد انتقلت هذه الكلمة إلى عدة لغات الفرنسية Droit والإيطالية Diricto واللاتينية Directus والإنجليزية Law، مما سبق يتضح لنا أن كلمة القانون تستخدم كمعيار لقياس مدى احترام الفرد لما تأمر به القاعدة أو تنهاه عنه أو انحراف عن ذلك فإن هو سار وفقا لمقتضاه كان سلوكه مستقيما وإن هو تمرد عنها منحنيا غير مستقيم.
كلمة قانون: يطلق مصطلح القانون على كل قاعدة ثابتة تفيد استمرار أمر معين وفقا لنظام ثابت فهو يستخدم للإشارة إلى العلاقة التي تحكم الظواهر الطبيعية أو للإشارة إلى العلاقة التي تحكم قواعد السلوك فيقال مثلا قانون الجاذبية وقانون الغليان وقانون العرض والطلب إلا أنه في مجال العلوم الاجتماعية وبصفة خاصة في مجال الدراسات القانونية ينصرف اصطلاح القانون
بصفة عامة إلى مجموعة القواعد التي تطبق على الأشخاص في علاقاتهم الاجتماعية ويفرض عليهم احترامها ومراعاتها في سلوكهم بغية تحقيق النظام في المجتمع. ويمكن تعريف القانون بمعناه الواسع ثم تعريفه بمعناه الضيق…
المطلب الثاني: القانون بمعناه الواسع و بمعناه الضيق القانون
بمعناه الواسع: مجموعة القواعد العامة المجردة التي تهدف إلى تنظيم سلوك الأفراد داخل المجتمع، والمقترنة بجزاء توقعه السلطة العامة جبرا على من يخالفها. وهذا التعريف يشمل معه أيضا القواعد المعمول بها في المجتمع حتى لو كانت من قبيل العرف أو الدين أو الفقه أو القضاء.
القانون بمعناه الضيق: هو مجموعة القواعد الملزمة التي تصدرها السلطة التشريعية لتنظيم علاقات الأفراد ببعضهم أو علاقاتهم بالدولة في أحد مجالات الحياة الاجتماعية.
المبحث الثاني :خصائص القاعدة القانونية
القاعدة القانونية تعتبر الخلية الأساسية التي يتألف منها القانون بمعناه العام. وهي خطاب موجه إلى الأشخاص في صيغة عامة له قوة الإلزام.
المطلب الأول: القانون مجموعة من القواعد الاجتماعية.
القانون ظاهرة اجتماعية فلا قانون بلا مجتمع إذ هو تلك المجموعة من القواعد السلوكية التي تنشأ لتنظيم سلوك الأفراد داخل المجتمع ليفض ما قد ينشأ بينهم من تضارب ويحل ما عسى أن يثور بينهم من خلافات بحيث أنه إذا لم يوجد مجتمع فلا تقوم الحاجة إلى القانون، ويستوي أن يكون مصدر هذه القواعد هو التشريع أو مصدر قانوني نعترف به. وهذا القانون الموجه إلى الأشخاص إما أن يتضمن أمرا لهم بالقيام بفعل معين، أو نهيا عن القيام به، أو مجرد إباحة هذا الفعل دون أمر به أو نهي عنه. وفى إطار المجتمع الإنساني فإن المقصود بالمجتمع هنا ليس هو مجرد اجتماع عدد من الأشخاص لقضاء حاجة ما كالاستمتاع
بمنظر طبيعي، أو مشاهدة عرض معين، ولكن المقصود بالمجتمع الذي على قدر معين من الاستقرار أي المجتمع السياسي المنظم الذي يخضع أفراده لسيادة سلطة عامة تملك عليهم حق الجبر والقهر حتى ولو لم يتخذ هذا التنظيم السياسي شكل الدولة بمعناها الحديث. كما أن القانون لا يهتم بسلوك الإنسان إلا فيما يتصل بتنظيم العلاقات بين الأفراد داخل المجتمع أي السلوك المتصل
بالجماعة دون غيره من أنواع السلوك الأخرى التي ليست لها ذات الصفة.
المطلب الثاني: القاعدة القانونية عامة ومجردة
وتعني أنه يجب أن تكون موجهة للعامة بصفاتهم لا بذاتهم، وإذا كان الغرض منه هو تنظيم الوقائع فإنه يجب أن ينظمها لا بعينها ولكن بشروطها وأوصافها. ومعنى ذلك أن القاعدة القانونية يجب أن لا تخص شخصا معينا بالذات أو تتعلق بحادثة معينة، بل يجب أن تكون قابلة للتطبيق على كل من يمكن أن تتوافر فيهم الصفات والشروط التي تنص عليها. ولا يخل بعمومية القاعدة القانونية أن توجد قواعد تخاطب فئات معينة من الناس كالتجار أو المحامين أو الأطباء أو المهندسين أو الصحفيين. لأن هذه القوانين قابلة لأن تنطبق على فرد في المجتمع إذا توافرت فيه الصفة التي حددتها كشرط لتوجيه الخطاب، كما أنها
تخاطب أفراد هذه الفئات بصفاتهم لا بذاتهم.
المطلب الثالث: القاعدة القانونية ملزمة.
أي أن القاعدة القانونية يجب أن تتصف بالصبغة الإلزامية ونقصد بذلك أن يكون للقاعدة القانونية مؤيد أو جزاء، بحيث يجبر الأشخاص على إتباعها ويفرض عليهم احترامها ولو بالقوة عند الاقتضاء. ويتميز الجزاء القانوني بأنه مادي ملموس ويتمثل في كافة الوسائل والإجراءات التي تتخذها الدولة، ممثلة في سلطاتها المختلفة لضمان نفاذ المخالفة أصلاً، أو عن طريق معالجة الوضع
الذي أدت إليه المخالفة أو عن طريق ردع من قام بمخالفة القانون وإعادة إصلاحه. وإلزام القاعدة القانونية هو الخاصية التي تميزها عن قواعد الأخلاق والدين. ولهذا نقول بأن القواعد القانونية تكون دائما ملزمة للأشخاص و تبرز خاصية الإلزام في الجزاء الذي يوقع على من يخالف تلك القاعدة القانونية.
المبحث الثالث : التمييز بين القواعد القانونية وغيرها من القواعد الاجتماعية الأخرى……
إذا كان القانون يهدف إلى تنظيم سلوك الأفراد داخل المجتمع فليس هو وحده الذي يهدف إلى ذلك، إذ توجد إلى جواره قواعد أخرى تصبو لتحقيق ذات الهدف أهمها قواعد الدين وقواعد المجاملات وقواعد الأخلاق من ناحية أخرى.
المطلب الأول: القواعد القانونية وقواعد المجاملات والعادات.
تعتبر قواعد المجاملات والعادات والتقاليد مبادئ سلوك يراعيها الناس في علاقاتهم اليومية كتبادل التهاني في المناسبات السعيدة مع الأهل والأصدقاء، ومبادلتهم شعور الحزن والتعزية في المناسبات المؤلمة والكوارث وتبادل التحية عند اللقاء وغير ذلك من العادات المستقرة في ذهن الجماعة. إن هذه القواعد تختلف عن القواعد القانونية من حيث الغاية والجزاء فالغاية من قواعد القانون هي تحقيق المصلحة العامة والحفاظ على كيان المجتمع أما المجاملات فهي علاقات تبادلية لا ترقى إلى تحقيق الخير العام بل تقتصر على تحقيق غايات جانبية يؤدي عدم تحقيقها إلى الانتقاص من المصلحة العامة واضطراب المجتمع. أما من حيث الجزاء فإن الخروج عن قواعد المجاملات يؤدي إلى تدخل السلطة العامة لإجبار الأفراد على احترامها كما هو الشأن بالنسبة
للقواعد القانونية.
المطلب الثاني: القواعد القانونية والأخلاقية.
قواعد الأخلاق هي قواعد سلوكية اجتماعية يعتبرها غالبية الناس قواعد سلوك ملزمة ينبغي على الأفراد احترامها وإلا استحقوا سخط الناس، فهذه القواعد تهدف إلى فعل الخير والوفاء بالعهود وغيرها من المثل العليا في المجتمع، إن هذه القواعد تختلف عن القواعد القانونية من حيث الغاية والجزاء، من حيث الغاية القانون يهدف إلى تحقيق غاية نفعية هي حفظ النظام داخل المجتمع، أما
الأخلاق فهي تهدف إلى تحقيق غاية مثالية لأنها تهدف إلى الارتقاء بالسلوك الإنساني إلى المستوى النموذجي الذي ينبغي أن يكون عليه هذا السلوك، فالقاعدة القانونية تنظم سلوك الأفراد في المجتمع مستهدفة حفظ النظام والاستقرار ومراعية في ذلك ما هو كائن بالفعل، ومتخذة من الشخص العادي نموذجا لها، أما قواعد الأخلاق فتهدف إلى السمو بالإنسان نحو الكمال، لذلك فهي ترسم نموذجا للشخص الكامل على أساس ما يجب أن يكون لا على أساس ما هو كائن بالفعل. أما من حيث الجزاء فالجزاء القانوني جزاء مادي، محسوس توقعه السلطة العامة، أما الجزاء الأخلاقي فجزاء معنوي يتمثل إما في تأنيب الضمير فيوقعه بذلك المرء على نفسه، وإما في سخط الجماعة واحتقارها للمخالف فتوقعه بذلك الجماعة على من يخرج على الناموس الذي وضعته لنفسها.
المطلب الثالث: القاعدة القانونية وقواعد الدين.
يقصد بالدين مجوعة الأحكام والأوامر والنواهي التي أقرتها الشرائع السماوية والمنزلة على الأنبياء والرسل قصد تبليغها للناس للعمل بها. وتختلف القواعد القانونية في الدين من حيث الغاية والجزاء فغاية الأحكام الدينية هي أن الدين بالإضافة إلى اهتمامه بتنظيم سلوك الأفراد داخل المجتمع فهو ينظم أيضا علاقة المرء بربه، وعلاقة المرء بنفسه، كما أنه يحاسب الإنسان على نواياه المحضة فإن كانت خيرا كتبت لصاحبها خيراً، وإن كانت شرا أحصيت
عليه شرا مصداقا لقوله صلى الله عليه وسلم “إنما الأعمال بالنيات، ولكل امرئ ما نوى..”، أما غاية القانون نفعية لأن قواعده تهدف إلى تنظيم سلوك الأفراد لتحقيق المساواة والأمن بين أفراد المجتمع. أما من حيث الجزاء فإذا كانت كل من قواعد الدين وقواعد القانون لها جزاء يوقع عند مخالفة أي منهما، إلا أن مضمون هذا الجزاء يختلف في الأولى عن الثانية. فالجزاء
القانوني جزاء دنيوي – مادي – حال توقعه السلطة العامة، أما الجزاء الديني هو جزاء في الآخرة (وقد يصاحبه جزاء دنيوي) مؤجل يوقع.
خـــــــــا تمــــــــــة
مما سبق يتضح لنا أن وجود القانون هو أمر ضروري لا يختلف فيه اثنان من أبناء الجنس البشري، إذ أن وجود القانون أمر يتناسب مع سلوكيات البشر في إدارة حياتهم. بل وجود القانون يتجاوز حدود المجتمعات البشرية ليصل إلى عالم الحيوان، فها هي ممالك الحيوانات بكافة أنواعها تراها قد جبلت وفطرت على الحياة المقننة في حين لم تمتلك تلك الجوهرة الثمينة التي يمكنها من
خلالها السمو والارتقاء ألا وهي جوهرة العقل، فكيف بذلك الكائن الذي قد ألقيت بين يديه هذه الجوهرة فهو لم يكن مفطوراً على حب الحياة المنظمة المقننة فحسب، بل كان بمقتضى تملكه للعقل قادرا على سن القوانين التي تنظم حياته على شكل مجموعة من القواعد العامة التي تنظم سلوك الإنسان في علاقته بغيره من بني البشر، يتجل ذلك في احتياج الإنسان إلى القانون لكونه مدني
بالطبع، أي ميله إلى الحياة الاجتماعية ونفوره من الحياة الفردية يفرض عليه إنشاء علاقات مع الآخرين، ومع تشعب هذه العلاقات واصطدام مصالح البعض بمصالح البعض الآخر، تصبح الحاجة ملحة إلى وسيلة يمكن من خلالها تنظيم هذه العلاقات. إذن فالقانون ضروري في حياة المجتمع مهما كانت ثقافة ذلك المجتمع و سواء كان بدائياً أم متوسطاً أم مثالياً في ثقافته و أخلاقه