تمهيـــــــــــــــــــــد:
إذا كان القانون الجنائي هو قانون العقاب والتجريم فإن قانون المسطرة الجنائية هو قانون الشرعية والتكريم، فقواعده تسعى إلى تحقيق عدالة تصان فيها حقوق الأفراد وحرياتهم عن طريق تقرير جملة من الضمانات التي تؤمن حقوق الدفاع وترعاها، وعلى رأسها الدفوع الشكلية الي نظمها المشرع واعترف للافرادبحق التمسك بها لضمان حسن سير المسطرة في إطار الأعراف بوجود نوع من الرقابة الأجتماعية على حسن سير العدالة ككل ومدى مراعاة الإجراءات القانونية التي يوجب القانون اتباعها والسير على هداها، حتى تسترد القاعدة القانونية الشكلية بعضا من الاحترام الفعلي والحقيقي الذي ثبت غير ما مرة أنها لا تحظى به قضائيا أو في أحسن الأحوال تفتقده إلى درجة الحنين ولا تستعيده إلا نادرا، وهذا ما يدفعنا إلى التساؤل حول واقع الدفوع الشكلية في الميدان الزجري هل تؤدي دورها التشريعي أم أنها تعاني من أزمة قانونية حادة ؟ وإذا كانت هناك أزمة فما هي مظاهرها وأسبابها ؟ وكيف السبيل إلى إيجاد بديل عنها ؟
أولا : التشخيص العام للأزمة :
إن كل ممارس ومتتبع للعمل القضائي يسهل عليه دون شك أن يلاحظ في الوقت الراهن الأزمة القانونية التي أصبحت تعيشها الدفوع الشكلية في المجال الزجري حتى أصبح البعض يشكك بإلحاح في جدوى التنصيص التشريعي على طائفة من الدفوع الشكلية ما دام أن فعاليتها التطبيقية تكاد لا تراها العين المجردة ولا تلمسها اليد المقيدة، فالمحاضر التي ينجزها ضباط الشرطة القضائية لا يطولها البطلان، وإجراءات الاعتقال والتفتيش والمتابعة منزهة عن الخطأ والنسيان، وبالتالي فالدفوع الشكلية لم يعد لها أي معني بل هي زائدة قانونية يجب العمل على إستئصالها حتی يستريح الجسم القضائي من صداعها، بينما يرى البعض الآخر أن الدفوع الشكلية هي نوع من الترف المسطري الذي لا يضر الاستغناء عنه، ويلتقط التبريرات من هنا وهناك للدفاع عن التجاوز المعيب لهذه الدفوع، وإن كنا نرى في إطار تصور فكري لا يخلو من موضوعية أن التقريب بین مسافات أقصى التبرير وأقصى التدمير، يمر عبر الاعتراف الهادئ بأن الخروقات القانونية الشكلية موجودة، و لا تكون في الغالب مقصودة ولكن رتقها لا يكون بالتستر عليها ولا بتبريرها وإنما يحصل عن طريق التصريح ببطلان الإجراءات المترتبة عنها، للحمل على احترامها فيما يستقبل من مساطر، والواقع أن أزمة الدفوع الشكلية لها تمظهرات وتحليات عديدة كما أن لها مسببات ودوافع كثيرة، نعرض للبعض منها فيما يلي :
1- مظاهر الأزمة :
يمكن تلخيص أهمها في النقط التالية :
أ- ظاهر ضم الدفوع الشكلية إلى الجوهر:
تكاد تكون ظاهرة تأجيل البت في الدفوع الشكلية المثارة إلى حين البت في الجوهر ظاهرة عامة على مستوى العمل القضائي المغربي، وتشكل مظهرا بارزا من مظاهر الأزمة، وفي نفس الوقت تشكل وسيلة لبقة يلجأ إليها بعض القضاة في إطار فن حسن ” التخلص ” وكثيرا ما يتم تبرير ذلك بكون قانون المسطرة الجنائية لا يلزم المحكمة الفصل في الدفوع الشكلية أولا وقبل مواصلة مناقشة القضية، وإذا كان هناك من يسمح لنفسه بأن يدافع عن صحة هذا الطرح فيكفينا أن نؤكد على عدم صحته لأنه يشوه الغاية التي من أجلها سن المشرع وسائل الدفاع، ومن المعلوم أن فعالية الدفع الشكلي ترتبط بفوريته وإجرائيته وتأجيل البت فيه يمثل اغتيالا ضمنيا لهاته الفعالية.
ب- ظاهرة عدم الرد على الدفوع الشكلية :
تضاف ظاهرة عدم الرد على الدفوع الشكلية إلى حلقات الأزمة، ومن المعلوم أن الرد أو الجواب الناقص عن وسائل الدفاع يوازي عدم الرد، ففي كثير من الأحوال يرد الدفع الشكلي على صاحبه، ويكون مصيره هو عدم القبول أو الرفض دون تعليل أو تبرير أو اكتفاء بحيثيات مبهمة من قبيل أن الدفع غير جدي أو لا أساس له، فأمثال هذه الردود السلبية الواردة في أحكام القضاء يمكن تفهما وتقبلها بصدر رحب لو صيغت في شكل ردود مقنعة معززة بالأسانيد القانونية مع بیان شافي لدواعي الرفض أو عدم القبول، أما الاقتصار في الجواب عن الدفع الشكلي على تعليل ,عام ومبهم فلن نقول أنه يطعن في كفاءة مصدري الحكم القضائي بقدر ما يكشف عن افتقاد القاضي لفن الإقناع الذي هو جزء من صنعة القضاء ككل، لذلك تجد العديد من القضاة ينجحون في إقناع أنفسهم ولكنهم لا يستطيعون إقناع غیرهم، فتكون أحكامهم مصابة بداء فقدان التعليل وتلقى حتفها في مرحلة النقض.
ج- ظاهرة ندرة إثارة الدفوع الشكلية :
يبدو أن الظاهرة ندرة إثارة الدفوع الشكلية أمام القضاء الزجري على مستوى الممارسة اليومية ارتباطا مباشرا بالظاهرتين السابقي الذكر، إذ أن الدفاع حينما يشعر بتردي قيمة الدفوع الشكلية كوسيلة دفاع من شأنها أن تضمن احتراما دقيقا للشكليات القانونية والمسطرية فإنه يستنكف عن إثارتها حتى أصبح البعض من المحامين يعتقد بصوت مرتفع أن الدفوع الشكلية لا تثار إلا في المحاكمات ذات الطابع السياسي، وألا علاقة لها بالمحاكمات العادية، أما المؤمنون بجدوائيتها فقليل ما هم، لأن الدفوع الشكلية أصبحت في عرف الكثير من المحامين في موقع النادر الذي لا حكم له ولا طائل من ورائه، أما بعض القضاة فلا يرون فيها إلا نوعا من المشاكسة الدفاعية الثقيلة التي يدعون عليها بالهلاك و الزوال…
2 – أسباب الأزمة :
يمكن تلخيص أسباب الأزمة في النقط التالية :
أ- عدم استيعاب فلسفة الدفوع الشكلية :
حينما ينظر إلى الدفوع الشكلية كأداة لعرقلة إجراءات الدعوى العمومية وحينما ينظر إليها كحواجز تشوش على سير المسطرة وتفرمل سرعة الفصل في القضايا وتعيق الرغبة في تصفية الملفات، وتطيل أمد الجلسات… فإن الغرض التشريعي من تقريرها وتسطيرها يصبح هشیما تذروه الرياح، ذلك أن قوام القواعد المسطرية هو إقامة توازن عادل بين حقوق مجتمع تواق إلى الأمن والانضباط والنظام، وحقوق متهم تواق إلى أن يحاكم محاكمة عادلة تكفل له حقوقه في الدفاع كاملة غير منقوصة، ويسود فيها القانون على الجميع، وتحترم فيها إجراءات البحث والتحقيق والمحاكمة، بشكل يضمن حق الاحتجاج على خرقها أو انتهاكها والطعن بكل حرية في عدم نظاميتها، ولا شك أن الأجهزة المكلفة نيابة عن المجتمع بالبحث عن المجرمين واعتقالهم والتحقيق معهم وتقديمهم للمحاكمات تغريها أحيانا الصلاحيات الواسعة والسلطات الضخمة المخولة لها، فتتغافل باجتهاد منها عن بعض الإجراءات التي تبدو لها تافهة أو غير ذات قيمة، رغم أنها حق ثابت من حقوق المتهم التي لا تستقيم المحاكمة العادلة إلا باحترامها، وأحيانا أخرى يأتي الإخلال بالشكليات القانونية عن غير قصد، ففي الحالتين معا يجب توقيع الجزاء القانوني اللازم الإشاعة ثقافة مراعاة تطبيق القانون في كلياته و جزئياته في جوهرياته وشكلياته، حتى لا يبقى نصوصا على ورق وصيحات في نفق.
ب – عدم ضبط مسطرة الدفوع الشكلية :
ما تزال مسطرة الدفوع الشكلية في المجال الزجري غريبة عن تكوين العديد من رجال القانون من محامين وقضاة، لأن تدريسها في كليات الحقوق وندوات التمرين ومعاهد التدريب المهنية لا يتجاوز الإشارة العرضية دون الوصول إلى حد التعمق في إجراءاتها وآثارها القانونية الحاسمة، وهذا ينعكس بصورة مباشرة على مستوى الممارسة القضائية، فتجد الدفاع في كثير من الملفات والقضايا يخلط في مرافعاته بين الدفوع الشكلية و الموضوعية و بينها وبين المسائل العارضة ولا يفرق بين الملتمسات و الطلات من جهة والدفوع من جهة أخرى، بل لأن الدفوع الشكلية يحتفظ بها أحيانا إلى آخر المرافعة أو في أثنائها دون مراعاة الترتيب المسطري الذي يوجب إبداءها قبل الدفاع في الجوهر فيسقط الحق في الاحتجاج بها، وأحيانا يقع التمسك بدفوع غير جدية وغير منتجة، ولا طائل من ورائها كالدفع ببطلان حالة الاعتقال لانعدام حالة التلبس في الجنح استنادا إلى الفصل 76 من قانون المسطرة الجنائية، مع العلم أن نفس الفصل يمنح النيابة العامة صلاحية الاعتقال في غياب حالة التلبس استنادا إلى عدم التوفر على الضمانات الكافية للحضور ( مع تحفظنا الشديد على هذه العبارة الرشيقة جدا )، وفي حالات كثيرة تتم إثارة الدفع الشكلي بصورة غامضة وبجملة ودون توضيح الأساس القانوني ولا الظروف التي انتهك فيها الإجراء كإثارة الدفع ببطلان إجراء الوضع تحت الحراسة دون تبیان متى وكيف وأين…
ج – نصيب الصياغة التشريعية في الأزمة :
إن المتمعن في الصياغة التشريعية لفصول المسطرة الجنائية تتكون لديه قناعة واحدة، تكمن في وجود بلبلة حقيقية تؤثر بشكل أو بآخر على التجاوب القضائي مع إثارة الدفوع الشكلية، فأول ملاحظة يجب الصدع بها هي موقف المشرع المتضارب والتأرجح بين ترتيب الجزاء القانوني على بعض الإخلالات المسطرية وبين السكوت وعدم ترتيب الجزاء القانوني على خروقات أخرى، وحتى في حالة ترتيب الجزاء القانوني تختلف الألفاظ المستعملة فأحيانا يستعمل لفظ البطلان وأحيانا يستعمل لفظ کان لم ينجز ( الفصل 765 من قانون المسطرة الجنائية الذي تم حذفه من المشروع بشكل مؤسف ) وفي حالة التنصيص على البطلان فأحيانا يكون الجزاء هو بطلان الإجراء المطعون فيه وحده ( الفصل 65، الفصل 367 من قانون المسطرة الجنائية ) وأحيانا يشمل البطلان الإجراء المعيب وما يليه من إجراءات ( الفصل 190، الفصل 451 من قانون المسطرة الجنائية ) بل أن الخطاب القانوني السلبي الذي استخدمه المشرع في الفصل 318 من قانون المسطرة الجنائية ( باعتباره السند الرئيسي للدفوع الشكلية ) قد يحمل البعض على القول بوجود توصية تشريعية ضمنية موجهة إلى القضاء برفض الدفوع الشكلية، وإلا فماذا تعني الفقرة الثانية من الفصل المذكور الي جاء فيها : ” و في حالة رفض الدفع تواصل المحكمة المناقشات و يبقى آنذاك حق الطعن محفوظا ليستعمل في آن واحد مع الطعن في الحكم الذي يصدر في جوهر الدعوى. ” فهنا تطرق المشرع إلى حالة الرفض فقط ولم يشر نهائيا إلى حالة قول الدفع الشكلي وما يترتب عنها مسطريا...
ثانيا: البديل التشريعي و القضائي :
إن أهمية الدفوع الشكلية في تحقيق عدالة زجرية متينة وقويمة، وما تعانيه في الوقت الراهن من أزمة قانونية قد تهدد لا قدر الله ” بانقراضها ” من الممارسة القضائية بفعل الإعراض عنها وعدم التجاوب معها، تحتم على كل منشغل بالشأن القضائي أن يبدي وجهة نظره في الحلول التي يمكن التوسل بها من أجل التغلب على مظاهر الأزمة أو على الأقل التخفيف من وقعها وحدتها عبر اللجوء إلى بدائل تقدر الدفوع الشكلية حق قدرها وتبوؤها المقام المحمود التي تستحقه من خلال إقامة توازن ضروري للوصول إلى العدالة في إطار علاقة متكافئة ونزال شريف ونزيه بين المتهم من جهة والمجتمع من جهة أخرى.
1- على مستوى العمل التشريعي :
لا بد من طرح بعض الملاحظات التي يجب التفكير في بلورتها تشريعيا خاصة وأن مشروع مدونة قانون المسطرة الجنائية هو الآن في مراحله التشريعية الأخيرة، فلا بد من تبني صياغة قانونية واضحة ودقيقة تنتقى فيها المصطلحات جيدا ويحدد فيها الجزاء القانوني لكل حالة حالة، أو الاكتفاء بالإشارة إلى نص عام يرتب الجزاء عن الإخلالات الشكلية والمسطرية مع ذکر تعداد للفصول المعنية تفاديا لتضارب التأويلات والتفسيرات الذي لن يكون في صالح استقرار العمل القاضي ووحدته، كما أن التنصيص على إلزام المحاكم بالبث في الدفوع الشكلية قبل الفصل في الجوهر يبدو أمرا ملحا لا مفر من اعتماده كما هو الحال بالنسبة للمسائل العارضة طبعا بعد تطعيم المحاكم بالعدد الكافي من القضاة تقديرا للمشقة و تجنبا للعنت الذي يتحمله السادة القضاة حاليا بسبب تراكم الملفات وطول الجلسات، وهي مشقة ستكون مرشحة للاستفحال في حالة الاضطرار إلى الفصل في الدفوع الشكلية أوليا، ومن جهة أخرى يبدو تحويل بعض المبادئ الفقهية والقضائية إلى قواعد تشريعية أمرا مطلوبا كما هو الشأن بالنسبة لمبدأ ” قاضي الدعوى هو قاضي الدفع ” ومبدأ ” لا بطلان بدون ضرر فعلي “.
2 – على مستوى الممارسة القضائية :
نعالج هذه النقطة من خلال محورين :
– واجبات الدفاع : إن تركيزنا على واجبات الدفاع ينبع من حقيقة كون منطلق الدفوع الشكلية هو المحامي، فعلى طريقته ومنهجيته في إثارتها والتمسك بها تتوقف فعالیتها، لذلك يتحتم على الدفاع باعتباره الرقيب الأمين على احترام المسطرة أن يراعي ويحترم شروط تقديم الدفوع الشكلية حتى لا يكون مصيرها الرفض أو عدم القبول، وهي شروط يمكن استخلاصها من استقراء عام لاجتهادات المجلس الأعلى في هذا الخصوص و أهمها :
– أن يكون الدفع تحينا : أي أن يتم إبداؤه قبل أي دفاع في الجوهر كما نبه إلى ذلك الفصل 318 من قانون المسطرة الجنائية وقد سار على ذلك المجلس الأعلى في العديد من قراراته منها القرار عدد 8260 بتاریخ 1987/12/8: “ الدفع بكون الخبير غير مسجل بلائحة الخبراء أو أنه لم يؤد اليمين القانونية يعتبر من الدفوع الشكلية التي يجب إثارتها قبل الدخول في جوهر النزاع وأن عدم ممارسته في الوقت المناسب يسقط الحق في التمسك به.”
– أن يكون الدفع مؤصلا : أي أن يكون مسجلا أو له أصل في أوراق الملف وهذا شرط ضروري أشار إليه المجلس الأعلى في الكثير من قراراته منها القرار عدد 727 بتاریخ 1964/5/11 الذي جاء فيه : ” لا يتحتم على المحاكم أن تجيب على الدفوع الي تتقدم بها الأطراف أثناء المرافعات إلا إذا كانت تلك الدفوع قد عرضت على الشكل المتطلب قانونا أي بواسطة ملتمس مکتوب و أما طلب تسجيله خصيصا في محضر الجلسة. ” وأيضا القرار عدد 8504 بتاريخ 1987/12/10“ المحكمة غير ملزمة بالجواب إلا على ما قدم إليها بواسطة مستنتجات كتابية أو شفاهية التمس الإشهاد عليها.”
– أن يكون الدفع مستمرا : أي أن يتم الإصرار عليه في كل مراحل التقاضي وهو ما أكده المجلس الأعلى في مجموعة من قراراته منها قراره عدد 20451 بتاريخ 1995/12/28
الذي جاء فيه : ” لا تقبل أمام المجلس الأعلى الدفوعات التي لن تثر في المرحلة الاستئنافية “، وقبله قرار عدد 116 بتاريخ1960/11/21: “لا يقبل كوسيلة للنقض الاحتجاج ببطلان إجراءات وقعت أثناء الطور الابتدائي للدعوى الذي انتهى بصدور حکم ان موضوع استئناف صدر عقبه حکم نهائي هو محل طلب النقض دون أن يكون الاحتجاج بهذا البطلان قد وقع في مرحلة الاستئناف.”
– أن يكون الدفع صريحا و جديا : أي ألا يعبر عنه بطريقة غامضة أو بحملة غير واضحة ثم أن تكون لإثارته فائدة منتجة في الدعوى تفاديا لشغل وقت المحكمة بدفوعات تافهة وغير جدية وهو ما عبر عنه المجلس الأعلى في إحدى قراراته : ” يجب أن يكون الدفع الذي يتعين على المحكمة أن تجيب عنه دفعا جديا وجوهريا “.
– دور القضاء : إن دور الاجتهاد القضائي في حل أزمة الدفوع الشكلية لهو دور عظيم جسيم، فالقاضي هو الملاذ الأخير بالنسبة للضعفاء من المتهمين الذين تنتهك حقوق لهم يكفلها القانون وتهدر ضمانات لهم تؤمنها المسطرة، فمن عدل القاضي أن يعطي لكل ذي حق حقه، وحقوق المتهم عديدة منها أن يحترم خصومه في الدعويين العمومية والمدنية الشكليات المسطرية ويراعونها وإلا فإن له واسع الحرية ومن حقه أن يحتج على أي إخلال مسطري أو خروج عن القانون أو تجاوز لمقتضياته، ومن عدل القضاء ألا يتردد في التصريح ببطلان كل الإخلالات المسطرية التي من شأنها الإخلال بحقوق الدفاع ويكفيه أن يستعمل القياس، فلئن كان المبدأ المعروف في القانون الجنائي كقانون موضوعي هو التفسير الضيق للنصوص الجزائية ومنع القياس فإن ذلك لا يطبق على قانون المسطرة الجنائية كقانون شكلي إذ يجوز فيه التفسير الواسع القواعد المسطرة ما دام ذلك في صالح المتهم ومن شأنه أن يحفظ حقوقه ولو اقتضى الأمر استعمال القياس، ويمكن أن نضرب على ذلك مثلا عملية الفصل 127 من قانون المسطرة الجنائية الذي ينص في فقرته الرابعة ” يتعين على قاضي التحقيق إذا ما طلب منه ذلك أو عاين بنفسه آثارا تبرر ذلك أن يخضع الشخص المذكور إلى فحص يجريه طبيب خبير. ” ونجد الجزاء عن مخالفة هذا المقتضى في الفصل 190 من قانون المسطرة الجنائية “ يجب مراعاة المقتضيات المقررة في الفصول 127 و128… و يترتب عن مخالفتها بطلان الإجراء نفسه وكذا الإجراءات التي تأتي بعده وأمام النيابة العامة نحد الفصل 76 من قانون المسطرة الجنائية يتضمن مقتضی مشابها : ” يتعين على وكيل الملك إذا طلب منه ذلك أو عاين بنفسه آثارا تبرر ذلك أن يخضع الشخص المذكور إلى فحص يجريه طبيب خبير.” ولكن المشرع سکت عن الجزاء القانوني في حالة عدم احترام هذا المقتضى فيكون من باب الإنصاف أن يقرر القاضي المجتهد البطلان قياسا على مقتضيات الفصلين 127 و190 السالفي الذكر لاتحاد العلة.
ومن فرائض القضاء الزجري الإقناع والاقتناع، فلا يكفي أن يقتنع مصدرو الحكم القضائي وحدهم بل عليهم أن يقنعوا جميع أطراف الدعوى بالإجابة الكافية الشافية عن دفوعاتهم وملتمساتهم وهذا ما شدد عليه المجلس الأعلى في قراره عدد 99/1429 بتاريخ 1995/7/6
الذي جاء فيه : ” الجواب عن دفع قدم بصفة قانونية بجواب غير واضح وغير مفصل يعتبر نقصا في التعليل يوجب النقض والإبطال.”
وعلى كل حال فإن المشرع والقاضي والمحامي كل واحد منهم مطالب من جهته بالمساهمة في معالجة أزمة قد تتفاقم وتستفحل إلى الحد التي تزول فيه الدفوع الشكلية من الوجود التشريعي، وتغيب عن الممارسة القضائية وتغادر قاعات المحاكم وأحكام القضاء وتمسي في ليلة من الليالي ذكريات قانونية متداولة ما بين راو ومستمع وما بين حاك وباك.