الحجية القضائية لقرارات محكمة النقض

قوة قرارات النقض بين الإلزام والإرشاد

عالـم القانون24 يوليو 2025
صورة لميزان العدالة ومطرقة القاضي مع عنوان "Judicially Binding Precedents" مكتوب في الأعلى.

يقصد بالحجية القضائية لقرارات محكمة النقض قيمة تلك القرارات كسابقة قضائية واجبة الاحترام من قبل محاكم الموضوع.
ولما كانت حجية الأحكام تقتصر على الأطراف، ولا تتعداهم إلى الغير، فإن المحكمة لا تنقيد باجتهاد ،سابق سواء صدر عن نفس هيئة الحكم، أو من طرف هيئة حكم أخرى.
لكن توجد حالة نص عليها القانون المغربي يتعين فيها على المحكمة الالتزام بوجهة نظر محكمة النقض من الناحية القانونية، وهي الحالة المنصوص عليها في الفصل 2/369 من قانون المسطرة المدنية .
إلا أن مثل هذا القضاء لا يعد مصدرا من مصادر القانون، بمعنى أن هذا الالتزام لا يشكل قاعدة قانونية بالمعنى الصحيح، لأنه لا تتوافر فيه الصفات الجوهرية للقاعدة القانونية.
وإذا كانت محكمة الإحالة ملزمة بالتقيد بالنقطة القانونية التي بنت فيها محكمة النقض عندما تقرر نقض القرار المطعون فيه مع الإحالة – المطلب الأول ، فإن التساؤل يثور حول حجية أو قيمة قرارات محكمة النقض الصادرة دون إحالة، وخاصة تلك الصادرة بعدم قبول الطعن بالنقض أو برفضه – المطلب الثاني -.

المطلب الأول:الحجية القضائية لقرار محكمة النقض الصادر بالنقض مع الإحالة

إذا بنت محكمة النقض في نقطة قانونية تعين على محكمة الإحالة التقيد بها طبقا للفقرة الثانية من الفصل 369 من قانون المسطرة المدنية.
وتطبيقا لهذا المقتضى القانوني، فإنه كلما ثبت لمحكمة النقض خرق محكمة الإحالة للنقطة القانونية التي بنت فيها، فإنها تقرر نقض قرارها مع إحالة الملف من جديد على نفس المحكمة، أو محكمة أخرى.
ولما كان يترتب عن النقض والإحالة إعادة طرح التراع من جديد أمام محكمة الإحالة حيث تملك هذه الأخيرة سلطة مناقشته من جديد من حيث الواقع والقانون، فإن التساؤل يثار حول مدى حدود التزام محكمة الإحالة بالنقطة القانونية التي بنت فيها محكمة النقض – الفقرة الأولى – وتوضيح هذه المسألة بشكل دقيق يتطلب التطرق لبعض حالات النقض مع الإحالة الفقرة الثانية -.

الفقرة الأولى: حدود تقيد محكمة الإحالة بالنقطة القانونية.

إذا كان لا يقبل من الأطراف مناقشة النقطة التي حسمتها محكمة النقض أمام محكمة الإحالة، وليس لهذه الأخيرة أية سلطة في عدم إتباعها. فإن ذلك لا يعني منع محكمة الإحالة من البت في باقي جوانب القضية ما دام النقض ينشر الدعوى من جديد أمامها.

وفي هذا الصدد قررت محكمة النقض:

“إن المقصود بما ينص عليه الفصل 369 من قانون المسطرة المدنية من وجوب تقيد محكمة الإحالة بقرار محكمة النقض هو عدم مخالفة النقطة القانونية التي بت فيها، ولا يقصد منه عدم البت في باقي جوانب القضية، ما دام النقض ينشر الدعوى من جديد أمام محكمة الإحالة.
محكمة الإحالة التي أغفلت مناقشة دفوع الطاعنين بعلة التقيد بالنقطة التي بنت فيها محكمة النقض تكون قد عللت قرارها تعليلا يوازي انعدامه”.
ولما كانت الدعوى أمام محكمة الإحالة قد تتسع عما كانت عليه قبل النقض من حيث الطلبات والدفوع والأطراف، فإن تقيد محكمة الإحالة بالنقطة التي بنت فيها محكمة النقض قد يكون أمرا صعبا، لذلك فإن محكمة الإحالة لا تلتزم بقرار النقض بخصوص كل عنصر جديد يقدم
أمامها. وهذا ما دفع بالبعض إلى القول وعن حق بأن التزام المحكمة المحالة إليها القضية بالمسألة القانونية التي فصل فيها قرار محكمة النقض يفترض بقاء نفس الطلب بعناصره الثلاثة”.
وعليه فإن التزام محكمة الإحالة بالنقطة القانونية التي بنت فيها محكمة النقض لا يمنعها من النظر في النقط القانونية والواقعية الأخرى التي لم يسبق المحكمة النقض أن بنت فيها.
غير أن محكمة الإحالة قد تكون في حل من التقيد بتلك النقطة، إذا كان سبب ذلك يعزى إلى أحد أطراف الدعوى. وفي هذا الصدد جاء في قرار المحكمة النقض:
“لما كانت محكمة الإحالة قد استدركت الخلل الذي نقض من أجله القرار السابق وهو إجراء بحث بعين المكان، فأمرت بإجرائه دون تنفيذه بخطأ من الطاعن الذي لم يؤد مصاريف الإجراء رغم إشعاره بذلك، فإن المحكمة المذكورة كانت على حق عندما اعتبرته قد تخلى عن طلبه، وبالتالي أصبحت في حل من التقيد بالنقطة التي بثت فيها محكمة النقض.
غير أن هذا القيد لا يلزم محكمة الإحالة فيما يعرض عليها من قضايا أخرى، ولو كانت مماثلة لتلك التي بتت فيها، كما لا يلزم قانونا المحاكم الأخرى.
ويبدو أن القيد أعلاه لا يقتصر على محكمة الإحالة، وإنما يتعداها ليشمل محكمة النقض عند الطعن بالنقض في قرار محكمة الإحالة، لأنه لا يجوز لها العدول عن قرارها السابق.

الفقرة الثانية: مجال تقيد محكمة الإحالة بالنقطة القانونية.

لتوضيح القيد المنصوص عليه في الفصل 2/369 من قانون المسطرة المدنية، نورد بعض حالات النقض مع الإحالة للوقوف على ما إذا كنا بصدد نقطة قانونية بنت فيها محكمة النقض أم لا.

أولا: النقض بسبب عدم كفاية الأسباب الواقعية.

إذا قررت محكمة النقض نقض القرار المطعون فيه بالنقض بسبب عدم كفاية الأسباب الواقعية، فإن قرارها هذا لا يحسم أية نقطة قانونية، لأنها لم تتمكن من مراقبة تطبيق محكمة الموضوع للقانون، وإن كانت ستوضح فيه العناصر التي أغفلها تعليل قرار المحكمة المنقوض ويكون على محكمة الإحالة تناولها حتى لا يتعرض قرارها هي الأخرى للنقض
وقد كرست محكمة النقض هذا التوجه معتبرة أن محكمة الإحالة التي لم تجر بحثا بخصوص واقعة تسليم البضاعة واستبعدت الإشهاد المحتج به المجرد إدلاء المطلوبة بإشهادات مقابلة وهو ما لا يعتبر سببا مقبولا لاستبعاده، تكون قد حادث عن النقطة القانونية التي سبق البت فيها من طرف محكمة النقض وخرقت الفصل 369 من قانون المسطرة المدنية.
كما أن محكمة الإحالة غير ملزمة بقرار محكمة النقض فيما يتعلق بالنقطة القانونية، لأنه ليس همة نقطة قانونية حتى تلتزم بها، وكل ما عليها هو أن تقوم بتعليل قرارها تعليلا كافيا، وبحث المسائل التي عابت محكمة النقض على المحكمة المنقوض قرارها عدم التطرق إليها، حتى تتمكن من بسط رقابتها . ويجوز لها بعد ذلك أن تتبنى نفس الحكم الذي انتهى إليه القرار المنقوض دون أن يعتبر ذلك مخالفة لقرار النقض.
وفي هذا الصدد قررت محكمة النقض أن محل إعمال القاعدة المنصوص عليها في الفقرة الثانية أعلاه، هو أن تكون قد بنت بالفعل في نقطة قانونية أي لا يخالطها واقع.

2- النقض بسبب بطلان الحكم لعيب ذاتي في الحكم أو لعيب مسطري.

إذا قررت محكمة النقض نقض القرار المطعون فيه بالنقض بسبب عيب ذاتي، كعدم صحة تشكيل المحكمة، تخلف أحد بياناته عيب في المداولة ، 15 فإن على محكمة الإحالة تدارك هذا العيب وإتمام ما أغفله القرار المنقوض من بيانات أو استيفاء الشكليات التي يلزم اتباعها في إصدار الأحكام، مثل النطق به في جلسة علنية متبعة في ذلك قرار محكمة النقض، ولها بعد ذلك كامل الحرية في أن تتبنى نفس الحل الذي انتهى إليه القرار المنقوض أو حلا مغايرا.
وإذا قررت محكمة النقض نقض القرار بسبب بطلان الإجراءات التي صدر على أساسها، فإن محكمة الإحالة تلتزم بعدم اعتماد الإجراء الذي قررت محكمة النقض بطلانه. فإذا قررت مثلا بطلان تقرير الخبير لعدم احترامه مقتضيات الفصل 63 من قانون المسطرة المدنية، فلا يجوز المحكمة الإحالة أن تقيم حكمها من جديد على نفس التقرير، لأنه باطل، وفي ذلك مخالفة للنقطة القانونية التي بنت فيها محكمة النقض، وإنما بإمكانها أن تأمر بإجراء خبرة جديدة إذا كانت لازمة لإصدار قرارها.

-3- النقض بسبب خرق القانون الداخلي.

إذا قررت محكمة النقض نقض القرار المطعون فيه لأنه خالف القانون، أو أخطأ في تطبيقه أو في تأويله، فإنها تكون قد بنت في نقطة قانونية يتعين على محكمة الإحالة الالتزام بها. وهذا ما أكدته محكمة النقض في أحد قراراتها معتبرة أنه: “ليس المحكمة الإحالة أن تعلو أو تروغ على النقطة القانونية التي بنت فيها محكمة النقض إثباتا أو نفيا والمحكمة لما راغت عن قرار محكمة النقض المنوه عنه قبله وقضت بما جرى به منطوق قرارها بعلة أن الشفعة استحقت في إطار القانون القديم المتعلق بظهير 12 يونيو 1915، وأن ما أدي فعليا هو مجموع المبلغ المودع من طرف الجهة طالبة الشفعة ورتبت على ذلك أن شروط الأخذ بالشفعة قد تحققت كاملة دون أن تتعرض للنقطة التي بتت فيها محكمة النقض باعتبارها قيدا على فهمها وتأويلها وتوجيها لنظرها، تكون قد خرقت مقتضيات الفصل 369 من قانون المسطرة المدنية وعللت قرارها تعليلا فاسدا.
ويذهب جانب من الفقه الفرنسي وعن حق”، إلى أنه في حالة النقض الخرق القانون، فإن محكمة الإحالة ملزمة بالحكم على نحو مخالف لما حكم به الحكم المنقوض على الأقل إذا تم التمسك بذات العناصر الواقعية.

المطلب الثاني:الحجية القضائية لقرارات محكمة النقض الصادرة بعدم قبول الطعن أو برفضه

يعتبر الطعن بالنقض من طرق الطعن غير العادية، التي لا يقبل توجيهها ضد جميع الأحكام أو القرارات، وإنما في مواجهة تلك التي تتوفر فيها العديد من الشروط والتي لا يسوغ أيضا لأي كان أن يقدمها أو تقدم ضده، وإنما لا بد أن تتوفر في طالب النقض، والمطلوب فيه عدة شروط وسائل الطعن بالنقض، وإنما تقتصر على مراقبة شكليات وإجراءات رفع الطعن بالنقض ، وقد تقرر عدم قبول الطعن عند الإخلال بها. وفي هذه الحالة، فإن محكمة النقض تبقي القرار المطعون فيه على الرغم مما قد يشوبه من عيوب قانونية. غير أن ذلك لا يعني أن محكمة النقض تؤيد أو تزكي تعليل القرار المطعون فيه ، أو ما انتهى إليه في منطوقه، وهذا الوضع دفع بالبعض إلى القول بأن القرارات الصادرة عن محكمة النقض برفض الطعن تكون أقل حجية من تلك الصادرة بالنقض.

الفقرة الثانية: الحجية القضائية لقرارات محكمة النقض الصادرة برفض الطعن.

تكتسب قرارات محكمة النقض الصادرة برفض الطعن حجية وقيمة أمام محاكم الموضوع فيما يعرض عليها من قضايا حسب السبب الذي اعتمدته محكمة النقض في إصدار قرارها، وذلك خلافا لقرارات عدم قبول الطعن بالنقض، كما سيتضح من خلال الحالات الآتية:

أولا: رفض الطعن في حالة وقوع إخلالات مسطرية أو شكلية.

إذا قررت محكمة النقض عدم قبول الطعن ، أو رفضه نتيجة وقوع إخلالات مسطرية أو شكلية في رفع الطعن، أو نتيجة عدم قبول وسائل الطعن بالنقض، فإن قرارها هذا يكون مجردا من أية حجية أو قوة قضائية من ناحية قيمة موضوع الوسيلة لعدم فحصها من طرف محكمة النقض.

ثانيا: رفض الطعن في حالة عدم نقصان التعليل

إذا قررت محكمة النقض رفض الطعن بالنقض لعدم نقصان التعليل، لأن القرار المطعون فيه رد على جميع الطلبات والدفوع، فإنها في هذه الحالة لا تنظر إلى صحة التعليل لأن الطعن لم يوجه ضده، وإنما تكتفي بالتحقق من أن القرار المطعون فيه قد أجاب على طلبات أو دفوع الطاعن وقرار محكمة النقض في هذه الحالة لا تتعدى قيمته القضية التي صدر فيها ونفس القول ينطبق
على الحالة التي تقرر فيها محكمة النقض رفض الطعن لأن وسيلته وجهت إلى تعليل زائدة، حيث يكون قرارها هذا منعدم الحجية، لأن التعليل الذي استند عليه القرار المطعون فيه لم يكن محل طعن أمامها

ثالثا: رفض الطعن في حالة تعلق الوسيلة بالواقع

إذا قررت محكمة النقض رفض الطعن لأن وسيلة الطعن تتعلق بمسائل تدخل في إطار الواقع وتتعلق بالسلطة التقديرية لقضاة الموضوع، فإن قرارها هذا له حجية أو قوة أمام محاكم الموضوع لأنه يرسم لهم الحدود التي يمارسون فيها سلطتهم التقديرية.

رابعا: رفض الطعن في حالة صحة التعليل

تظهر قوة وقيمة قرارات محكمة النقض الصادرة بالرفض عندما تقرر صحة تعليل القرار المطعون فيه، لأنه طبق القانون تطبيقا سليما على الوقائع المعروضة والثابتة أمامه، فإن قرارها هذا تكون له قيمة قضائية أمام محاكم الموضوع بخصوص تفسير القاعدة القانونية وتطبيقها.

خامسا: رفض الطعن في حالة استبدال الأسباب

إذا قررت محكمة النقض استبدال الأسباب ورفض الطعن 20، فإن قرارها هذا أيضا يجوز قيمة قضائية لا جدال فيها، لأن السبب الذي اعتمدته محكمة النقض محل السبب الخاطئ يكون سببا قانونيا، ويصبح دعامة للقرار المطعون فيه بالنقض، ويتمتع بالتالي بالحجية، كما أن السبب الذي تعتمده محكمة النقض يعتبر تأكيدا لقاعدة قانونية، وبالتالي تكون له قيمة المبدأ الذي لا جدال 21 فيه ويمكن القول أن احترام الحجية القضائية للقرارات الصادرة عن محكمة النقض من قبل هذه الأخيرة، وذلك بعدم إصدار قرارات متناقضة، ومن قبل محاكم الموضوع بإتباع اجتهاد محكمة النقض في القضايا المماثلة، لمن شأنه أن يحقق الاستقرار والأمن القضائي ويدفع المشرع نحو صياغة ذلك الاجتهاد في شكل نصوص قانونية، ويصبح بذلك اجتهاد محكمة النقض مصدرا من مصادر القانون المغربي.

Source الدكتور محمد لمعمري، دكتور في الحقوق
Leave a Comment

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


Comments Rules : من شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الإلهية، والابتعاد عن التحريض العنصري والشتائم.

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

We use cookies to personalize content and ads , to provide social media features and to analyze our traffic...التفاصيل

موافق