مقدمة:
أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي فضاءً عاماً واسعاً يتفاعل فيه الأفراد والمجموعات بحرية غير مسبوقة. وقد واكب هذا التطور تحديات قانونية وأخلاقية عميقة، لا سيما فيما يتعلق بخطابات الكراهية، العنصرية، والتحريض على العنف. في هذا السياق، اتخذت المحكمة العليا في البرازيل بتاريخ 26 يونيو 2025 قراراً مفصلياً، قضى بتحميل شركات التكنولوجيا مثل Google وMeta وTikTok مسؤولية مباشرة عن إزالة المحتوى المحرض دون الحاجة إلى أوامر قضائية مسبقة، بالإضافة إلى إلزامها بتقديم تقارير سنوية حول جهودها في هذا الصدد. يهدف هذا المقال إلى تحليل هذا القرار من زاوية قانونية، وتسليط الضوء على مدى اتساقه مع المبادئ الدستورية، والقواعد الدولية لحقوق الإنسان، وموقعه ضمن التوجه العالمي لتنظيم الفضاء الرقمي.
أولاً: الأساس القانوني للقرار البرازيلي
يستند القرار الصادر عن المحكمة العليا البرازيلية إلى مبادئ دستورية راسخة، أبرزها احترام الكرامة الإنسانية، المساواة، وحرية التعبير. فبينما تؤكد المادة الخامسة من الدستور البرازيلي على حرية التعبير والرأي، فإنها أيضاً تحظر بشكل صريح أي شكل من أشكال العنصرية والتمييز. من هنا، جاء الحكم كتأويل متوازن بين حرية التعبير وواجب الدولة في حماية الأفراد من خطابات الكراهية التي قد تفضي إلى أفعال عنيفة أو تمييزية.
كما يستند القرار إلى القانون الإطاري المعروف بـ”القانون المدني للإنترنت” (Marco Civil da Internet)، والذي يُعد من أوائل النصوص القانونية التي نظمت استخدام الإنترنت بالبرازيل منذ 2014، ويضمن حقوق المستخدمين في الخصوصية والتعبير، ولكنه يشير كذلك إلى مسؤولية مقدمي الخدمة عن المحتوى عند الإخطار الرسمي بوجود مخالفة. القرار الجديد يذهب أبعد من ذلك، بإلزام الشركات بإزالة المحتوى المحرض دون انتظار الإخطار أو أمر قضائي، في حال كان ذلك المحتوى واضحاً ومتعارضاً مع المبادئ الدستورية.
ثانياً: أبعاد المسؤولية القانونية المفروضة على الشركات
يمثل قرار المحكمة تحوّلاً جذرياً في طبيعة المسؤولية القانونية التي تتحملها منصات التواصل الاجتماعي. فبدلاً من الوضع التقليدي الذي يقصر دور هذه المنصات على كونها “وسطاء تقنيين” لا يتحملون مسؤولية عن المحتوى المنشور من طرف المستخدمين، فإن القرار يُقر بمسؤولية مباشرة، أي أن الشركة تصبح طرفاً فعالاً في ضبط المحتوى المسموح والممنوع.
هذا التوجه يجد ما يدعمه في القانون المقارن؛ إذ سبقت بعض الدول الأوروبية، مثل ألمانيا وفرنسا، إلى إصدار قوانين تُحمّل منصات التواصل مسؤولية قانونية عن عدم إزالة المحتوى غير المشروع خلال آجال زمنية محددة. غير أن قرار المحكمة البرازيلية يتسم بخصوصية لكونه صادراً عن أعلى هيئة قضائية في البلاد، وليس فقط عن السلطة التشريعية، مما يعطيه بعداً دستورياً ويفرض التزاماً فورياً لا ينتظر صدور قانون جديد.
ثالثاً: التوازن بين حرية التعبير ومكافحة خطاب الكراهية
يشكّل التوازن بين حرية التعبير من جهة، ومكافحة خطاب الكراهية من جهة أخرى، التحدي الأكبر في هذا النوع من التنظيمات. فلا يمكن اعتبار كل تعبير غير مريح أو جدلي خطاب كراهية، كما أن الإقرار بمسؤولية الشركات عن المحتوى قد يدفعها إلى إزالة مفرطة (over-removal) خشية العقوبات، مما يمس بحرية التعبير.
غير أن المحكمة حاولت معالجة هذا الإشكال بتحديد معيار المحتوى “الواضح والمخالف للمبادئ الدستورية”، وهو ما يتطلب من الشركات تطوير أنظمة تحليل ذكية تراعي السياق والدلالة قبل اتخاذ قرار الحذف. كما أن قرار المحكمة لم يمنع الطعن القضائي في قرارات الإزالة، مما يمنح المستخدم وسيلة مراجعة فعالة في حال وقع تجاوز أو رقابة غير مبررة.
رابعاً: التزامات الشفافية والإفصاح
أحد الجوانب المهمة في القرار هو إلزام شركات التكنولوجيا بنشر تقارير سنوية توضح فيها كيف تعاملت مع المحتوى المحرض، وعدد الشكايات، وطرق المعالجة، والآليات التقنية المعتمدة. يمثل هذا الإجراء خطوة مهمة نحو بناء ثقة الجمهور، وتوفير مادة خام مهمة للباحثين والمشرعين لتقييم نجاعة هذه السياسات.
كما أن التزام الشفافية هو أحد المبادئ الأساسية التي دعت إليها المبادرات الدولية مثل مبادرة سان فرانسيسكو للمساءلة الرقمية، والتي تؤكد على ضرورة أن تكون الشركات الرقمية مسؤولة أمام الجمهور وليس فقط أمام المساهمين أو الحكومات.
خامساً: الأثر القانوني والسياسي للقرار على الصعيد الدولي
لا يمكن فهم القرار البرازيلي في عزلة عن السياق الدولي المتغير، حيث تتجه العديد من الدول إلى سن قوانين تنظم الفضاء الرقمي وتحمّل المنصات الإلكترونية مسؤوليات جديدة. القرار البرازيلي قد يشكّل مرجعية قانونية أو فقهية في دول أمريكا اللاتينية وأفريقيا حيث ما زالت الإشكالات نفسها مطروحة، مع غياب إطار قانوني واضح.
كما أن القرار يُرسل رسالة قوية إلى شركات التكنولوجيا العالمية مفادها أن زمن الإفلات من المساءلة قد انتهى، وأن عليها التكيّف مع أنظمة قانونية وطنية تحمي القيم المجتمعية ولا تكتفي بالمعايير الأميركية الليبرالية التي اعتادت عليها.
خاتمة:
يمثل قرار المحكمة العليا البرازيلية محطة مفصلية في مسار تنظيم المحتوى الرقمي، حيث يؤسس لمرحلة جديدة تُحمّل فيها شركات التكنولوجيا مسؤولية قانونية مباشرة عن مكافحة المحتوى المحرض على الكراهية والعنصرية. وبينما يثير القرار تحديات تتعلق بحرية التعبير، فإنه يُعدّ خطوة جريئة نحو بيئة رقمية أكثر أماناً وعدلاً. وإذا ما تم تنفيذه ضمن آليات شفافة وتشاركية، فإنه قد يشكل نموذجاً يُحتذى به دولياً.
إن التحول نحو مسؤولية قانونية نشطة للشركات الرقمية لم يعد خياراً، بل ضرورة قانونية وأخلاقية تقتضيها موازين الحقوق والحريات في العصر الرقمي. والقرار البرازيلي لا يُعد فقط تطوراً قانونياً داخلياً، بل مؤشراً على اتجاه عالمي نحو عدالة رقمية أكثر صرامة ومساءلة