في ظل التحولات المتسارعة التي يعرفها العالم، يشهد النظام القانوني الدولي مجموعة من الاتجاهات الجديدة التي تعكس حجم التحديات التقنية والاجتماعية والبيئية التي تواجه المجتمعات الحديثة. وقد حمل شهر يوليو من سنة 2025 مؤشرات قوية على انبعاث مشهد قانوني عالمي متجدد، من خلال مجموعة من الأحكام القضائية والتشريعات الجديدة التي تم الإعلان عنها في كبرى الدول والهيئات الدولية، والتي سيكون لها بالغ الأثر على فهمنا لمفاهيم الخصوصية، السيادة، الذكاء الاصطناعي، العدالة الاجتماعية، والبيئة.
بداية من الولايات المتحدة، حيث أصدرت المحكمة العليا قرارًا تاريخيًا يقضي بعدم شرعية الحظر الفيدرالي على تقنية التعرف على الوجوه. هذا القرار لم يلغِ التقنية ولكنه أعاد تنظيم استخدامها، حيث أقر بأن الأمر يجب أن يُترك للولايات الأمريكية كلٌ على حدة. بهذا الحكم، يتم تقويض تدخل الحكومة الفيدرالية في فرض حظر شامل، ليصبح لكل ولاية حرية وضع السياسات المناسبة بشأن التقنية. القرار جاء في سياق جدل واسع حول خصوصية الأفراد مقابل الأمن العام، إذ يرى المدافعون عن الحقوق المدنية أن التقنية تنطوي على مخاطر جسيمة تتعلق بتحديد الهوية بشكل خاطئ، خاصة ضد فئات الأقليات، بينما يرى مؤيدو التقنية أنها ضرورية في مكافحة الجرائم وحماية الأمن الوطني.
في الهند، شهد النظام القانوني تطورًا لافتًا من خلال حكم قضائي بارز يُعد من أكثر الأحكام تقدمية في تاريخ البلاد، إذ قضت المحكمة بالسماح للأزواج من نفس الجنس بالتمتع ببعض الحقوق المرتبطة بالعلاقات الزوجية، مثل التأمين الصحي والتقاعد، رغم أن الزواج المثلي لا يزال غير معترف به قانونيًا بشكل رسمي. هذا القرار يُعتبر خطوة أولى نحو المساواة، ويعكس تحولًا تدريجيًا في المنظومة القضائية الهندية نحو تعزيز الحقوق الفردية والمساواة أمام القانون. وقد لقي الحكم ترحيبًا واسعًا من طرف المنظمات الحقوقية المحلية والدولية، باعتباره انتصارًا لفكرة الحريات المدنية ضد القيود الاجتماعية والثقافية.
أما في الاتحاد الأوروبي، فقد دخل حيز التنفيذ قانون جديد يُعرف باسم قانون المحاسبة والمساءلة على الذكاء الاصطناعي، وهو أحد التشريعات الأكثر جرأة على المستوى العالمي في هذا المجال. بموجب هذا القانون، تلتزم الشركات التي تُطور أو تستخدم أنظمة الذكاء الاصطناعي بالإفصاح الكامل عن كيفية تدريب الأنظمة، ومصادر البيانات، ومآل اتخاذ القرار داخل الأنظمة الذكية. كما يفرض القانون غرامات تصل إلى 40 مليون يورو في حالة الإخلال بالتزامات الشفافية والمساءلة. ويهدف التشريع إلى ضمان التوازن بين الابتكار التكنولوجي وحماية الأفراد من القرارات المؤتمتة التي قد تفتقر إلى الإنصاف أو تتضمن تحيزات خفية. وقد لاقى هذا القانون دعمًا كبيرًا من جهات حماية المستهلك، في حين عبّرت بعض الشركات الناشئة عن قلقها من الآثار الاقتصادية المحتملة للامتثال الصارم لمقتضيات القانون.
الصين بدورها أقدمت على خطوة قانونية هامة عبر تفعيل قانون جديد يُلزم بتوطين البيانات. واعتبارًا من 15 يوليو 2025، صار لزامًا على جميع المؤسسات الأجنبية العاملة بالصين تخزين بيانات المواطنين الصينيين داخل الأراضي الصينية، وعدم السماح بنقلها إلى الخارج إلا وفق شروط صارمة للغاية. ويُنظر إلى هذا القانون على أنه امتداد لسياسات السيادة الرقمية التي تنتهجها الصين، والتي تهدف إلى تعزيز التحكم المحلي في البنية المعلوماتية الوطنية، وحماية أمن الدولة من مخاطر التجسس أو الهيمنة الأجنبية. وبالرغم من تبرير الصين لهذا القانون بأنه ضروري لحماية الخصوصية والسيادة، فإن العديد من الشركات العالمية أبدت تحفظاتها بشأن تداعياته على حرية تدفق المعلومات، واعتبرته عائقًا أمام التوسع التجاري في السوق الصيني.
أما على المستوى الدولي، فقد أطلقت منظمة الأمم المتحدة دليلًا قانونيًا موحدًا يهدف إلى مساعدة الهيئات القضائية في التعامل مع القضايا المناخية ذات الطابع العابر للحدود. ويُعد هذا الدليل ثمرة جهود مضنية لسنوات من العمل المشترك بين الخبراء القانونيين والبيئيين والحقوقيين، حيث يُرسي مبادئ واضحة تُمكن المتضررين من الظواهر المناخية من الترافع أمام المحاكم الوطنية والدولية. ويؤسس هذا العمل القانوني لتكريس حق التقاضي في مواجهة الأضرار المناخية، ويُمهّد الطريق نحو تحميل المسؤولية القانونية للدول أو الكيانات التي تتسبب في التلوث البيئي أو تساهم في تفاقم آثار التغير المناخي. ويُنتظر أن يُساهم هذا الدليل في تعزيز العدالة البيئية ويُعيد هيكلة مفهوم المسؤولية المدنية في ضوء المستجدات المناخية.
وأخيرًا، أصدرت المحكمة العليا في كندا قرارًا قضائيًا يُلزم مزودي خدمات VPN بحفظ بيانات الاستخدام مثل عنوان IP وتوقيت الاتصال لمدة لا تقل عن ثلاث سنوات، مع استثناء المحتوى المُتداول من هذا الحفظ. ويأتي هذا القرار في إطار الجهود الرامية لتعزيز قدرات الأجهزة الأمنية على تتبع الأنشطة غير القانونية عبر الشبكات الافتراضية، مع الحفاظ في ذات الوقت على الحد الأدنى من خصوصية المستخدمين. ويُعد هذا القرار تتويجًا لسجال طويل بين السلطات الأمنية ومؤسسات الدفاع عن الحريات الرقمية، حيث حاولت المحكمة إيجاد توازن بين مقتضيات الأمن ومبادئ الخصوصية.
إن مجمل هذه التطورات تُشير إلى أننا أمام مرحلة انتقالية جديدة في التشريع الدولي، حيث أصبحت القضايا المرتبطة بالتكنولوجيا والبيئة والهوية تحظى بأولوية قصوى داخل أجندة المشرّعين والقضاة. وتُبيّن هذه الاتجاهات أن القانون لم يعد ذلك النظام الثابت الذي ينظم العلاقات الكلاسيكية بين الأفراد والدولة، بل صار أداة متجددة تُواكب التطور التقني والاجتماعي، وتُحاول تقديم إجابات قانونية معقولة لقضايا غير مسبوقة.
ومن خلال قراءة هذه التحولات، يتبيّن أن القانون لم يعد مجرد وسيلة لضبط الواقع، بل صار فاعلاً في صياغته وإعادة تشكيل ملامحه. فالتشريعات الجديدة حول الذكاء الاصطناعي تُعيد تعريف علاقة الإنسان بالتقنية، والقوانين المتعلقة بالبيئة تفتح آفاقًا جديدة لمفهوم العدالة، في حين أن الاعتراف الجزئي بحقوق المثليين في بعض الدول يُظهر قابلية النظام القانوني للتطور حتى في أكثر المواضيع حساسية. أما قوانين الخصوصية وحماية البيانات فتعكس صراعًا محتدمًا بين متطلبات السيادة والحرية الاقتصادية، وهي قضايا مرشحة لتكون محورًا لصراعات قانونية حادة في المستقبل القريب.