حرية التعبير في المغرب بين مقتضيات القانون والملاحقات القضائية

🔹 العنوان البديل: حرية التعبير في المغرب: بين حماية الرأي العام وحدود الملاحقة القانونية

عالـم القانون4 أغسطس 2025
📌 النص البديل (Alt Text): شخص مظلل أمام علم المغرب مع عبارة حرية التعبير باللغة الإنجليزية.

 

المقدمة:

 

تُعد حرية التعبير أحد أعمدة الديمقراطية وركيزة أساسية لبناء مجتمع حداثي متوازن يحترم التعددية والاختلاف. وقد أكد المغرب التزامه بهذا المبدأ من خلال نصوص دستورية ومعاهدات دولية وقّع عليها. غير أن الواقع يُظهر تناقضًا في بعض الأحيان بين المقتضيات القانونية والالتزامات الدولية من جهة، وبين الممارسة القضائية التي تطال العديد من النشطاء والمواطنين بسبب آرائهم التي يعبّرون عنها، خصوصًا عبر مواقع التواصل الاجتماعي، من جهة أخرى.
فقد أصدرت “المنظمة المغربية لحقوق الإنسان” تقريرًا حديثًا يوثق عشرات القضايا التي تعرّض فيها ناشطون وصحفيون ومواطنون لملاحقات قانونية، تصل أحكام بعضها إلى ست سنوات سجنا، بسبب تدوينات أو تعبيرات اعتُبرت “مسيئة” أو “مخالفة للنظام العام”. هذا الواقع يدفع إلى التساؤل حول مدى احترام المغرب لحرية التعبير كما هي مكرسة في الدستور، وحول التوازن الممكن بين حماية النظام العام وصون الحريات الفردية.

 

1. الإطار الدستوري والقانوني لحرية التعبير في المغرب:

ينص الفصل 25 من دستور المملكة المغربية لسنة 2011 على أن “حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها”، وهو تأكيد واضح على الالتزام الدستوري بصيانة هذا الحق. كما نص الفصل 28 على حرية الصحافة وعدم جواز تقييدها بأي شكل من أشكال الرقابة القبلية.
وعلى المستوى الدولي، صادق المغرب على العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية الذي ينص في مادته 19 على أن “لكل إنسان الحق في حرية التعبير، ويشمل هذا الحق حرية التماس مختلف ضروب المعلومات والأفكار وتلقيها ونقلها إلى الآخرين دونما اعتبار للحدود، سواء على شكل مكتوب أو مطبوع أو في قالب فني أو بأية وسيلة أخرى يختارها”.
غير أن هذا الحق ليس مطلقًا، إذ يمكن إخضاعه لبعض القيود التي يجب أن تكون محددة بموجب القانون وأن تكون ضرورية لاحترام حقوق الآخرين أو حماية الأمن القومي أو النظام العام أو الصحة العامة أو الآداب العامة.

2. التحديات المرتبطة بمواقع التواصل الاجتماعي:

أصبحت مواقع التواصل الاجتماعي مجالًا جديدًا للتعبير والنقاش العام، لكنها في الوقت نفسه أضحت مصدرًا لتوترات قانونية وقضائية، نظرًا لصعوبة التمييز أحيانًا بين حرية التعبير من جهة، وخطاب الكراهية أو التحريض أو المس بالمقدسات من جهة أخرى.
وقد بيّنت تقارير حقوقية متطابقة أن السلطات المغربية لجأت في عدد من الحالات إلى متابعة نشطاء وصحفيين بموجب مقتضيات القانون الجنائي بدلًا من قانون الصحافة والنشر، رغم أن الأفعال المنسوبة إليهم تندرج ضمن حرية الرأي.
ومن الأمثلة البارزة على ذلك، متابعة أفراد بتهم “إهانة مؤسسات دستورية” أو “التحريض على التجمهر غير المرخص” أو “نشر أخبار زائفة”، بسبب تدوينات أو منشورات على فيسبوك أو يوتيوب.

3. التأثير على مناخ الحقوق والحريات:

تثير هذه الممارسات القضائية مخاوف متزايدة حول تقلص هامش حرية التعبير في المغرب. إذ أصبحت العديد من الأصوات تخشى التعبير عن آرائها صراحة، بسبب الخوف من التبعات القضائية أو الأمنية، مما ينعكس سلبًا على المشاركة المواطِنة وعلى جودة النقاش العمومي.
وقد عبّرت عدة منظمات دولية، من بينها “هيومن رايتس ووتش” و”العفو الدولية”، عن قلقها إزاء ما وصفته بـ”استخدام القضاء لتكميم الأفواه”، معتبرة أن بعض المتابعات تحمل طابعًا سياسيًا أو انتقاميًا.
كما أن هذه الوضعية تؤثر على صورة المغرب دوليًا، لاسيما في التقارير السنوية حول الحريات العامة والصحفية، حيث سجل المغرب تراجعًا في مؤشرات حرية الإعلام وحرية الإنترنت خلال السنوات الأخيرة.

4. الموازنة بين الحرية والمسؤولية:

من المؤكد أن حرية التعبير لا تعني الفوضى أو الفلتان، بل يجب أن تمارس في إطار من المسؤولية والاحترام للقانون، دون انتقاص من حقوق الآخرين أو المس بثوابت الأمة. لكن في المقابل، لا ينبغي استخدام هذه المبادئ لتبرير التضييق أو تقييد الفضاء العمومي.
وهنا تبرز أهمية وجود قوانين دقيقة وغير فضفاضة، تتيح للقضاء ممارسة رقابته دون تعسف أو غموض في التأويل. فكلما كانت النصوص القانونية واضحة وموضوعية، كلما سهل على المواطنين فهم الحدود القانونية لتعبيراتهم، وعلى القضاء أن يصدر أحكامًا عادلة ومنصفة.

5. الحاجة إلى إصلاح تشريعي وقضائي:

أصبح من الملحّ اليوم مراجعة عدد من النصوص القانونية ذات الصلة، وعلى رأسها بعض مقتضيات القانون الجنائي التي تُستخدم لمتابعة أشخاص على خلفية تعبيرهم عن آرائهم. كما أن هناك حاجة إلى تفعيل مقتضيات قانون الصحافة والنشر بشكل أوسع، بحيث تُعطى الأولوية له بدلًا من اللجوء إلى القانون الجنائي.
وفي الإطار ذاته، ينبغي تعزيز استقلالية القضاء وضمان حياده التام، حتى لا تتحول المحاكم إلى أدوات لتصفية الحسابات السياسية أو الشخصية.
كما يجب الاستثمار في التكوين المستمر للقضاة ورجال الأمن حول حقوق الإنسان والتزامات المغرب الدولية، حتى يتم تطبيق القانون بروح حقوقية تستحضر التوازن بين حماية النظام العام وصون الحريات.

6. دور المجتمع المدني والإعلام:

يلعب المجتمع المدني دورًا محوريًا في الدفاع عن حرية التعبير، من خلال الترافع والتوثيق والتحسيس، كما يشكل الإعلام الحر والمسؤول قوة ضاغطة تسهم في تنوير الرأي العام ومساءلة السلطة.
ومن الضروري تعزيز التعاون بين منظمات المجتمع المدني والمؤسسات الوطنية، مثل المجلس الوطني لحقوق الإنسان، لضمان فعالية أكبر في رصد الانتهاكات والتصدي لها وفقًا للمساطر القانونية المتاحة.
كما يمكن للجامعات ومراكز البحث أن تساهم في هذا الورش من خلال إنتاج دراسات علمية وتحليلات قانونية تساعد على بلورة سياسات عمومية عادلة ومتوازنة في مجال الحريات.

الخاتمة:

إن حرية التعبير ليست مجرد شعار يُرفع، بل هي ممارسة يومية تحتاج إلى ضمانات قانونية وقضائية حقيقية. ورغم التقدم الذي أحرزه المغرب في هذا المجال على مستوى النصوص الدستورية، إلا أن الممارسة تكشف عن تحديات كبيرة ينبغي مواجهتها بإرادة سياسية واضحة وإصلاحات جريئة وشجاعة.
فلا يمكن الحديث عن ديمقراطية حقيقية دون إعلام حر، وقضاء مستقل، وفضاء عام مفتوح للنقاش والتعبير، بما يتيح للمواطنين أن يعبروا عن آرائهم دون خوف أو تهديد. والمغرب، بما راكمه من تجارب ومؤسسات، مؤهل اليوم أكثر من أي وقت مضى لإحداث نقلة نوعية في هذا المجال، إذا ما توفرت النية الصادقة لذلك.
ومن هنا، فإن الوقت قد حان لتكريس ثقافة الحقوق، لا فقط من خلال الخطاب، بل عبر الممارسة اليومية للمؤسسات، احترامًا للمواطن، وصونًا لكرامته، وضمانًا لحريته في التعبير عن رأيه، مهما كان مخالفًا أو مزعجًا

Leave a Comment

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


Comments Rules : من شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الإلهية، والابتعاد عن التحريض العنصري والشتائم.

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

We use cookies to personalize content and ads , to provide social media features and to analyze our traffic...التفاصيل

موافق