تمهيد
يشكل قانون العقوبات البديلة (قانون 43.22) تحولا عميقا في المنظومة الجنائية المغربية، إذ يأتي استجابة لحاجة ملحة في الواقع القضائي والسجني، الذي يعاني من تراكم الملفات، وارتفاع أعداد المحكومين، وتفاقم الاكتظاظ داخل المؤسسات السجنية. القانون الجديد، الذي يُنتظر دخوله حيز التنفيذ في غشت 2025، لا يُعد فقط أداة تقنية لتخفيف الضغط، بل هو مشروع مجتمعي يروم إرساء عدالة أكثر إنصافًا وإنسانية، قادرة على حماية المجتمع من الجريمة، دون أن تنزع عن الجاني إنسانيته أو تغلق في وجهه أبواب التوبة والإصلاح.
منطلقات الإصلاح العقابي
عبر العقود الماضية، تميز النظام العقابي المغربي بتبنيه للعقوبة السجنية كخيار أساسي، بل شبه حصري، في معالجة الجريمة، حتى في الجنح البسيطة. ومع الوقت، برزت معالم أزمة عميقة، تجسدت في الاكتظاظ المهول داخل السجون، وارتفاع نسب العود، وغياب التأطير الكافي لإعادة الإدماج. هذا الواقع المقلق دفع الدولة، بتوصية من المجلس الأعلى للسلطة القضائية والمندوبية العامة لإدارة السجون، إلى إعادة النظر في وظيفة العقوبة، وفتح النقاش حول بدائل غير سالبة للحرية.
فلسفة العقوبات البديلة
العقوبات البديلة ليست تخفيفًا للعقوبة أو عفوًا مقنعًا، بل هي نمط جديد من التدخل العقابي، يقوم على التوازن بين حماية المجتمع، وإعادة تأهيل الجاني، وتحقيق العدالة للضحية. تقوم هذه الفلسفة على المبادئ التالية:
• فردانية العقوبة: أي أن العقوبة يجب أن تُفصّل حسب شخصية الجاني وظروف ارتكابه للفعل.
• النجاعة الإصلاحية: فبدل الزج بالشخص داخل بيئة سجنية قد تكرس الانحراف، تُفتح أمامه فرصة للمراجعة الذاتية والإصلاح.
• العدالة التصالحية: عبر إشراك الضحية والمجتمع في مسار العدالة، من خلال أشكال من الجبر الرمزي أو العمل التطوعي لصالح المصلحة العامة.
الإطار القانوني لقانون 43.22
أعدت وزارة العدل هذا القانون ضمن سياق مراجعة شاملة للمنظومة الجنائية، وجرى تقديمه لأول مرة سنة 2023، قبل أن تتم المصادقة عليه في 2024، وتقرّر دخوله حيز التنفيذ في غشت 2025. يتكون القانون من عدة مواد تؤطر طبيعة العقوبات البديلة، وشروط تطبيقها، والجهات المختصة بقرار الإحلال، وآليات تتبع التنفيذ.
أهم المقتضيات:
• تحديد طبيعة العقوبات البديلة:
o العمل من أجل المنفعة العامة.
o المراقبة الإلكترونية.
o الإقامة الإجبارية داخل مجال معين.
o الخضوع لبرامج إعادة التأهيل.
• شروط تطبيقها:
o أن تكون الجريمة غير خطيرة (غالبًا الجنح).
o ألا يتجاوز الحكم السالب للحرية سقفًا معينًا (سنة أو سنتين غالبًا).
o أن يُبدي المحكوم عليه استعدادًا صريحًا للامتثال.
• الجهة المقرّرة:
o يمكن أن تصدر العقوبة البديلة بموجب الحكم الابتدائي.
o ويمكن للمحكمة، لاحقًا، أن تستبدل العقوبة الأصلية بأخرى بديلة إذا توفرت الشروط.
دوافع اعتماد العقوبات البديلة
1. التقليل من الاكتظاظ السجني
بلغ عدد السجناء بالمغرب سنة 2024 حوالي 100 ألف سجين، في حين أن الطاقة الاستيعابية لا تتجاوز 60 ألفًا. هذه الهوة تعيق بشكل خطير العمل التأهيلي داخل المؤسسات السجنية، وتؤثر على كرامة السجناء وظروفهم الصحية والنفسية.
2. خفض معدل العود
تشير الإحصائيات إلى أن نسبة كبيرة من السجناء يعودون لارتكاب الجرائم بعد الإفراج، بسبب انعدام التأهيل والوصم الاجتماعي. العقوبات البديلة تمنح الفرصة للجاني للاندماج تدريجيا، دون انقطاع جذري عن الحياة الأسرية والاجتماعية.
3. تعزيز الطابع التربوي للعقوبة
يُسهم العمل المجتمعي أو البرامج الإصلاحية في ترسيخ القيم المدنية لدى الجاني، وتدريبه على تحمل المسؤولية ومحو الآثار النفسية السلبية الناتجة عن الانحراف.
أمثلة عملية للعقوبات البديلة
• شخص ارتكب عنفًا لفظيًا خفيفًا داخل مكان عمومي: بدل الحكم عليه بشهر سجن، يُلزم بتنظيف الشوارع لمدة 50 ساعة لصالح جماعة ترابية.
• محكوم بحيازة بسيطة لمادة محظورة: يُحال على برنامج توعية لمدة شهرين حول أضرار المخدرات داخل مؤسسة صحية.
• شاب اعتدى على ممتلكات عمومية: يُلزم بالمساهمة في ورش صيانة فضاء ثقافي أو مدرسي.
التحديات المرتقبة
1. تأطير التنفيذ
يطرح تنفيذ العقوبات البديلة إشكالات لوجيستيكية وبشرية، منها ضرورة التعاقد مع جماعات محلية، جمعيات مدنية، أو مصالح عمومية لاحتضان المحكومين، وتأطيرهم خلال مدة العقوبة.
2. التكوين القضائي والإداري
ينبغي تدريب القضاة ووكلاء الملك على تكييف الوقائع مع العقوبات البديلة، وتحسين مهارات كتابة الأحكام وضبط آليات التنفيذ، كما يجب إعداد موظفين مختصين لتتبع التنفيذ ميدانيًا.
3. تقبل المجتمع
يعاني الجاني، حتى وإن أُدين بعقوبة بديلة، من نظرة سلبية مجتمعية. مما يفرض إطلاق حملات تواصلية توضح أن العقوبة البديلة ليست “مكافأة”، بل وسيلة إصلاح وحماية للجميع.
مقارنة دولية
اعتمدت دول مثل فرنسا، كندا، وهولندا أنظمة متقدمة للعقوبات البديلة، وأثبتت فعاليتها في تقليص أعداد السجناء وتعزيز الإدماج. على سبيل المثال، في هولندا، أُغلقت عدة سجون بسبب انخفاض معدلات الإدانة السالبة للحرية، مع توجيه التركيز نحو العمل المجتمعي والعلاج.
الأثر النفسي والاجتماعي
تشير الدراسات إلى أن العقوبة البديلة تُبقي المحكوم عليه على صلة بمحيطه الأسري، وتقلل من فرص انهيار العلاقات العائلية، كما تساهم في تعزيز ثقته بنفسه بدل تحطيمها خلف القضبان. كذلك تُعطي رسالة للضحية أن العدالة ليست انتقامًا، بل ترميمًا للعلاقات داخل المجتمع.
خلاصات واستشراف
يمثل قانون 43.22 خطوة جريئة في اتجاه إصلاح جنائي يضع الإنسان في قلب السياسة العقابية. لن تكون الطريق سهلة، فالأمر يتطلب تعبئة مؤسساتية، وتحولًا ثقافيًا، واستثمارًا في البنيات والموارد البشرية. لكن المغرب، من خلال هذا القانون، يعلن بوضوح أن العقوبة ليست نهاية، بل بداية جديدة.
إننا بحاجة إلى قضاء يُفكّر بالعقل والرحمة معًا، ومجتمع يؤمن بأن كل منحرف هو مشروع مواطن صالح إذا توفرت له الفرصة والاحتضان.