مقــدمــة:
شهد العالم خلال العقدين الأخيرين ثورة معرفية غير مسبوقة، قادها الذكاء الاصطناعي بوصفه إحدى أهم الأدوات التقنية التي استطاعت أن تغير وجه الاقتصاد والسياسة والقانون. وإذا كانت القطاعات الإنتاجية والصناعية والمالية قد استفادت باكراً من تطبيقات الذكاء الاصطناعي، فإن المجال القانوني ظل إلى وقت قريب متردداً في توظيف هذه التكنولوجيا لما يثيره من إشكالات تتعلق بالمشروعية، والشرعية، والقدرة على الإحاطة بجميع أبعاد الظاهرة القانونية. غير أنّ الإمارات العربية المتحدة اتخذت خطوة غير مسبوقة في هذا المجال عبر إنشاء “مكتب الذكاء التنظيمي”، وهو مؤسسة حكومية تهدف إلى إدماج الذكاء الاصطناعي في عملية صياغة القوانين، مما يجعل هذه التقنية شريكاً تشريعياً فاعلاً يساهم في تسريع العملية القانونية بنسبة تصل إلى سبعين في المائة.
إن هذه المبادرة لا تقتصر على بعدها الإداري أو الإجرائي، بل تمثل ثورة حقيقية في مفهوم العلاقة بين القانون والتكنولوجيا. فهي محاولة لتجاوز الأطر التقليدية التي اعتادت أن تجعل من التشريع نشاطاً بشرياً خالصاً يستند إلى المداولات السياسية والبرلمانية، نحو فضاء جديد تصبح فيه الخوارزميات شريكاً في تحديد الصياغة الأمثل للنصوص القانونية، ورصد التناقضات، وتحليل الآثار المتوقعة للتشريعات قبل إصدارها. هذا التحول يطرح أسئلة جوهرية حول حدود دور الإنسان في إنتاج القاعدة القانونية، ومدى قدرة الذكاء الاصطناعي على استيعاب القيم الأخلاقية والاجتماعية التي يقوم عليها النظام القانوني.
لقد جاء الإعلان الإماراتي عن هذه الخطوة في سياق إستراتيجية أوسع تسعى إلى جعل الدولة رائدة في التحول الرقمي والحوكمة المستقبلية. فمنذ إطلاق “استراتيجية الإمارات للذكاء الاصطناعي 2031″، وضعت القيادة الإماراتية هدفاً واضحاً يتمثل في استخدام الذكاء الاصطناعي في جميع القطاعات الحكومية والحيوية، بما في ذلك التعليم، والصحة، والاقتصاد، والأمن، والعدالة. ولم يكن غريباً أن يشمل هذا التوجه مجال التشريع الذي يعد الركيزة الأساسية لأي نظام سياسي وقانوني.
إن إدماج الذكاء الاصطناعي في صياغة القوانين يحمل في طياته عدة فوائد عملية. فمن الناحية الزمنية، يساهم في تسريع عملية إعداد النصوص القانونية التي كانت تستغرق شهوراً وربما سنوات، وذلك من خلال تحليل آلاف الصفحات من القوانين السابقة، والاجتهادات القضائية، والممارسات الدولية، في وقت وجيز. ومن الناحية التقنية، يساعد على تقليل الأخطاء والتناقضات التشريعية التي قد تنشأ نتيجة العمل البشري المحدود، إذ تستطيع الخوارزميات اكتشاف الثغرات أو التكرار أو التضارب بين النصوص المقترحة والنصوص النافذة. ومن الناحية الاقتصادية، يوفّر على الدولة موارد ضخمة كانت تنفق في لجان الصياغة، والمراجعة، والاستشارات القانونية.
لكن، ورغم هذه الإيجابيات، فإن التجربة الإماراتية تثير أيضاً مجموعة من التحديات الفكرية والقانونية العميقة. فالقاعدة القانونية ليست مجرد بناء لغوي أو تقني يمكن للخوارزميات التعامل معه كما لو كان معادلة رياضية، بل هي نتاج تفاعل معقد بين السياسة والأخلاق والثقافة والاقتصاد. لذلك يُطرح السؤال: هل يستطيع الذكاء الاصطناعي أن يدرك هذه الأبعاد غير المادية للقانون؟ وهل يمكن الاعتماد عليه في تقدير المصلحة العامة، أو في موازنة الحقوق والحريات، أو في استحضار القيم الاجتماعية والدينية التي يقوم عليها المجتمع؟
إن القانون، في جوهره، ليس مجرد نصوص مكتوبة، وإنما هو تجسيد لإرادة المجتمع وتطلعاته. وبالتالي، فإن إدخال الذكاء الاصطناعي في عملية التشريع يجب ألا يؤدي إلى تجريد الإنسان من دوره المحوري بوصفه صانع القاعدة ومتلقيها في آن واحد. فالذكاء الاصطناعي يمكن أن يكون مساعداً فعالاً للمشرّع، لكنه لا يستطيع أن يحل محله في التعبير عن الإرادة الشعبية أو في تمثيل القيم العليا للأمة.
وإذا نظرنا إلى التجارب العالمية، نجد أن العديد من الدول الكبرى لم تجرؤ بعد على منح الذكاء الاصطناعي دوراً مباشراً في صياغة القوانين. صحيح أن بعض البرلمانات استخدمته في تحليل البيانات أو في إعداد الدراسات المقارنة، إلا أن الإمارات تعد أول دولة تعلن بوضوح عن مشروع يجعل الذكاء الاصطناعي شريكاً تشريعياً. وهذا ما يفسر الاهتمام الإعلامي والأكاديمي الكبير الذي حظيت به التجربة، حيث وُصفت بأنها سابقة عالمية قد تغير مستقبل العلاقة بين القانون والتكنولوجيا.
إن هذه المبادرة، إذا كُتب لها النجاح، ستفتح الباب أمام تحول نوعي في بنية الأنظمة القانونية. فقد يصبح من المعتاد مستقبلاً أن تُعرض مشاريع القوانين أولاً على خوارزميات ذكية لتقوم بتحليلها ورصد آثارها المتوقعة، قبل أن تُحال إلى اللجان البرلمانية أو الهيئات القضائية. بل قد نصل إلى مرحلة يُطرح فيها السؤال حول مدى إمكانية منح الذكاء الاصطناعي “شخصية اعتبارية” قانونية، بحيث يصبح مسؤولاً عن القرارات التشريعية التي يقترحها أو يساهم فيها.
من جانب آخر، فإن لهذه التجربة انعكاسات سياسية لا تقل أهمية عن أبعادها القانونية. فهي تعكس إرادة سياسية إماراتية لتقديم نموذج جديد للحكم الرشيد يعتمد على الابتكار والتجديد المستمر. كما أنها تؤكد سعي الإمارات إلى تعزيز موقعها كدولة رائدة في مجال التكنولوجيا والحوكمة المستقبلية، بما ينسجم مع رؤيتها الإستراتيجية لبناء اقتصاد معرفي متطور. وفي هذا السياق، يمكن القول إن الخطوة الإماراتية تحمل أيضاً رسالة موجهة إلى العالم العربي مفادها أن المنطقة قادرة على أن تكون منتجاً للابتكار القانوني، لا مجرد مستهلك للتجارب الغربية.
مع ذلك، فإن تبني الذكاء الاصطناعي في صياغة التشريعات يفرض على الإمارات، وعلى غيرها من الدول التي قد تحذو حذوها، ضرورة وضع أطر قانونية وأخلاقية دقيقة لضبط عمل هذه التكنولوجيا. فلا بد من ضمان الشفافية في عمل الخوارزميات، وتحديد المسؤولية القانونية عن القرارات التي تتخذ بمساعدتها، وحماية البيانات الشخصية التي قد تُستخدم في التحليل التشريعي، فضلاً عن ضرورة إخضاع هذه التكنولوجيا للرقابة الديمقراطية والمؤسسية.
كما أن هذه التجربة تثير أسئلة تتعلق بالعلاقة بين التشريع الوطني والقانون الدولي. فإذا كان الذكاء الاصطناعي سيشارك في صياغة القوانين الوطنية، فكيف سيتعامل مع الالتزامات الدولية للدولة؟ وهل سيكون قادراً على استيعاب التعقيدات المرتبطة بالقانون الدولي الإنساني، أو بحقوق الإنسان، أو بالمعاهدات الدولية؟ هذه قضايا لا تزال بحاجة إلى نقاش معمق على المستويين النظري والعملي.
إن توظيف الذكاء الاصطناعي في التشريع ليس مجرد تجربة تقنية، بل هو جزء من مسار تاريخي طويل يسعى إلى تجاوز حدود العقل البشري في إنتاج المعرفة والتنظيم الاجتماعي. وإذا كانت الثورة الصناعية الأولى قد نقلت الإنسان من العمل اليدوي إلى العمل الآلي، فإن الثورة الرقمية والذكاء الاصطناعي تنقله اليوم من التفكير الفردي إلى التفكير الجمعي الذي تشارك فيه الآلة. وفي هذا السياق، فإن التجربة الإماراتية تمثل حلقة جديدة في هذا المسار، قد تكون لها تداعيات بعيدة المدى على مستقبل القانون والدولة.
وفي الختام،
يمكن القول إن الإمارات بخطوتها الرائدة في إنشاء “مكتب الذكاء التنظيمي” قد وضعت نفسها في صدارة الدول التي تسعى إلى إعادة تعريف العلاقة بين القانون والتكنولوجيا. ورغم ما تطرحه هذه التجربة من تحديات وأسئلة، فإنها تمثل فرصة تاريخية لإعادة التفكير في طرق إنتاج التشريع وضمان فعاليته ومواكبته للتحولات السريعة التي يشهدها العالم. إن نجاح هذه المبادرة لن يكون له أثر على الإمارات وحدها، بل قد يشكل نموذجاً يُحتذى به في العالم العربي والدولي، ويفتح الباب أمام عصر جديد يصبح فيه الذكاء الاصطناعي جزءاً لا يتجزأ من العملية التشريعية.