مقدّمة: الإشكالية وحدود اللعبة المؤسّسية
في 28 يونيو/حزيران 2024 قضت المحكمة العليا الأمريكية، بغالبية 6-3، بإسقاط مبدأ Chevron deference الذي حكم علاقة القضاء بالوكالات الإدارية منذ 1984. المعيار الذي كان يلزم القاضي بقبول تفسير الوكالة لنصٍّ تشريعي مُبهم ما دام “معقولًا”، أُزيح لصالح قاعدة مغايرة: على القاضي أن يمارس حُكمهُ المستقل في تفسير القانون، ولا يَدين بالولاء لتفسير الوكالة لمجرّد وجود غموض في النص. القضية الرئيسية Loper Bright Enterprises v. Raimondo ومعها القضية التوأم Relentless مثّلتا لحظة انعطاف قد تعيد رسم خرائط التقاضي والتنظيم الإداري في قطاعات البيئة، والصحة، والمال، والاتصالات وغيرها. الإشكالية التي يطرحها هذا التحوّل هي: كيف سيوازن النظام الأمريكي بين خبرة الوكالات وولاية القضاء في فضّ التأويلات القانونية، دون أن ينزلق إلى فوضى لائحية أو “قَضْوَنَة” مفرطة للسياسات العامة؟
أولًا: ماذا كان يعني «تشِفرون»… وماذا بقي منه؟
منذ حكم Chevron v. NRDC (1984) اعتمدت المحاكم الاتحادية اختبارًا ثنائي الخطوات: (1) إن كان الكونغرس قد حسم المسألة بنصٍّ واضح، التزم القاضي به. (2) أمّا إن بدا النصّ مُبهَمًا، ت defer المحكمة إلى تفسير الوكالة متى كان “معقولًا”. وقد برّر ذلك بكون الوكالات أقدر فنيًا على ملء الفراغات التشريعية في نطاق صلاحياتها. إسقاط «تشِفرون» في 2024 يقطع مع هذه القرينة المنهجية لصالح الوكالة، لكنه لا يلغي واقع أن المحاكم لطالما أعطت وزنًا “إقناعيًا” لخبرة الإدارة وفق معيار Skidmore الأقدم (1944)، أي وزنٌ يتدرج بحسب متانة التعليل، واتساق الممارسة، وخبرة الجهة الإدارية. بعبارة أخرى: سقطت حُجّية الإلزام، وبقيت حُجّية الإقناع.
ثانيًا: منطق «لوبر برايت»: العودة إلى نصّ الـAPA واستقلال القاضي
كتبت الأغلبية، بقلم رئيس المحكمة جون روبرتس، أنّ قانون الإجراءات الإدارية (APA)، في مادته 706، يُلزم المحاكم بأن “تبتّ في جميع مسائل القانون” وتُعمل تفسيرها المستقل، ولا تجيز لها أن تُفوِّض هذا الدور للوكالات لمُجرّد أن النص “غامض”. ومع ذلك، تُقرّ المحكمة بأن القاضي يستطيع “الاستنارة” بقراءات الوكالات باعتبارها خبرات متخصّصة، لكن على سبيل الإقناع لا الإلزام. والأهم أن المحكمة شدّدت على أن إسقاط «تشِفرون» لا يهزّ بالأثر الرجعي أحكامًا سابقة قضت بشرعية تصرّفات إدارية تحت عباءة «تشِفرون»؛ فهي تظل محمية بمبدأ السوابق التشريعية (statutory stare decisis)، ما يبدّد هاجس انهيارٍ فوريّ لمنظومات قائمة. هكذا، أُبطِل المنهج ولم تُبطَل النتائج الماضية لمجرّد أنها استندت إليه.
على هذا الأساس، تتولّى المحاكم من الآن فصاعدًا تفسير النصوص de novo، مع مراعاة درجتين: (أ) وزن إقناعي وفق Skidmore، و(ب) الاعتراف بأن بعض القوانين تفوّض صراحةً مساحة تقدير للوكالات؛ وفي هذه الحال يحترم القضاء حدود التفويض ويراقب تعليل القرار الإداري بموجب معيار “الاعتباطية أو التعسّف” (arbitrary and capricious).
ثالثًا: تداعيات عملية—من قاعات المحاكم إلى مكاتب المشرّعين
1) موجة تقاضٍ وتحوّل في موازين الربح والخسارة:
تشير تحليلات الكونغرس (CRS) إلى أن غياب «تشِفرون» قد يُنقص معدّل نجاح الوكالات أمام محاكم الاستئناف حين تكون المسألة مسألة تفسير قانوني، إذ ستنتقل المراجعة إلى نمط استقلالي أقوى؛ لكن Skidmore واعتراف المحاكم بتفويضات صريحة يمكن أن يخفّفا من أثر هذا التبدّل. باختصار: التغيير سيظهر أوضح في الدرجات الدنيا، لا في المحكمة العليا التي كادت أن “تتناسَى” «تشِفرون» خلال السنوات الأخيرة.
2) ورشة تشريعية محتملة:
قد يدفع الحكم الكونغرس إلى تضييق هوامش الغموض في القوانين أو إلى التنصيص الصريح على التفويض: متى، وكيف، وإلى أي مدى تُخوَّل الوكالة تأويل مصطلح أو وضع قاعدة. بل إنّ بعض المقترحات تتحدّث عن تقنين قاعدة Loper نفسها أو سنّ صيغةٍ تُعيد نوعًا من «تشِفرون» محدودة بشروط. كل ذلك يقلّل تسليم المشرّع بترك فجوات مقصودة للخبرة الإدارية.
3) حوكمة داخلية للوكالات:
تتوقّع الدراسات أن تصوغ الوكالات مذكّراتها وقواعدها بلغة تفسيرية أقرب إلى منهج المحاكم: تعليل أوفى بالنصّ، بيان أوضح لمصدر التفويض، ورسم صلة محكمة بين الوقائع والنصّ. والنتيجة المرجوّة: قابليّة أعلى للصمود القضائي حتى مع انحسار مظلّة تشِفرون
4) القطاعات الأكثر عرضة للتقلب:
يُحاجِج القاضي غورساتش في موافقته بأن من آثار «تشِفرون» القديمة تذبذب القواعد بين الإدارات المتعاقبة—ومن أشهر الأمثلة تقلبات تنظيم حياد الشبكة؛ ويرى أن إسقاط «تشِفرون» قد يثبت المعنى القانوني ويُقلِّل “التأرجح” التنظيمي غير المرتكز على تعديل تشريعي. لكن منتقدين يرون العكس: تعدّد دوائر قضائية وقراءات متباينة قد يُكثِّف التباين القضائي بدل توحيده إداريًا. كلا الوجهين محتملان، وسنرى أيهما يرجح عمليًا في الملفات التقنية والبيئية والصحية.
5) لا التباس مع «Kisor/Auer»:
القرار لا يتناول Auer deference (التي تخصّ تفسير الوكالة للائحةٍ هي وضعتها)، والتي قيّدتها المحكمة في Kisor v. Wilkie (2019) دون أن تُلغِيها. لكن منطق الاحتراز من التفويضات الضمنية وتعظيم دور القاضي قد يشجّع محامين على اختبار حدود Kisor أيضًا حيثما أمكن.
رابعًا: ميزان القوى المؤسّسي—بين “حُكم القانون” و”خبرة الإدارة”
في العمق، Loper Bright ليس مجرّد تعديل تقني لقواعد المراجعة القضائية، بل هو خيارات دستورية حول من “يقول ما هو القانون” حين تسكت النصوص أو توجز. الأغلبية استدعت ماربوري والفدرالي رقم 78 لتؤكّد أنّ “تفسير القوانين” هو المقام القضائي المحض، وأن الـAPA كرّس ذلك. في المقابل، تصف القاضية كاغن (في dissent لافت) ما جرى بأنه “صدمة كبرى للنظام القانوني” تُخرج مسائل تقنية شديدة التعقيد من يد خبرة الوكالات إلى سلطة قُضاة متفرقين، وتُعرّض انتظام السياسات للتشظّي. هذان المنظوران سيقودان النقاش الأكاديمي والعملي في السنوات القادمة: هل يعزّز الحكم اليقين القانوني ويضبط امتداد “الدولة الإدارية”، أم يفتح الباب لتسييس القضاء وتحويله إلى صانع سياسةٍ مُضمَر؟
خامسًا: كيف يقرأ الباحث والممارس هذه اللحظة؟
1) للباحث القانوني العام:
هذه فرصة لإعادة تفكيك سؤال التفويض التشريعي: متى يكون الغموض دليلًا على تَركِ مساحة تقدير للإدارة، ومتى يكون على القاضي أن يملأ الفراغ بمنهج التفسير النصّي أو البنيوي أو التاريخي؟ هنا تُصبح نماذج التفويض الصريح، ومفاتيح التعليل الإداري، وحدود مراجعة الوقائع والقانون موضوعات مركزية للأطروحات والدراسات
2) للمحامي الإداري والتقاضي الإستراتيجي:
ينبغي إعادة هندسة المرافعات:
• التركيز على نصّ التفويض: أين يقول القانون صراحة إن للوكالة سلطة تعريف/تحديد/استكمال معيار؟
• الاحتشاد بدفقٍ من السوابق القضائية خارج «تشِفرون» (تاريخيًّا وما بعد 2016) لإقناع المحكمة بأنّ “أفضل قراءة” للنص لصالح موكّلك.
• عند الدفاع عن قرارٍ إداري، صُغ سردية Skidmore القوية: تعليل دقيق، خبرة متخصصة، انسجام زمني، ومقارنة مع بدائل أقل إقناعًا.
3) للمُنظِّم وصانع القاعدة:
• إبراز سُلّم التعليل: من النص إلى الغاية إلى الوقائع إلى اختيار الأداة التنظيمية، مع بيان حدود التفويض بدقة.
• استباق التقاضي بإعداد سجل إداري غنيّ (Administrative Record) يُظهر أن القرار ليس “اعتباطيًا” بل نتيجة موازنة عقلانية داخل حدود الاختصاص.
• التفكير في آليات تنسيق أفقي بين الوكالات لضمان اتساق التفسيرات حين تتقاطع القوانين القطاعية
4) للبرلماني والمستشار التشريعي:
• استعمال صياغات تحديدية تقلّص غموض المصطلحات الحساسة (مثل: “معيار معقولية قابل للقياس”، “حدود عددية/زمنية”).
• إدراج بنود تفويض صريحة (express delegations) حيث تستلزم السياسة العامة اختيارات تقنية متحرّكة، مع معايير حاكمة وحدود واضحة.
• تقييم جدوى آليات مراجعة دورية أو sunset clauses في المجالات عالية التقلب.
سادسًا: تفاعلات مع دُرُوبٍ قضائية موازية
سقط «تشِفرون» في مشهدٍ شهد أيضًا ترسيخ عقيدة “الأسئلة الكبرى” (Major Questions) التي تُضيّق على قراءات توسّعية للوكالات في القضايا ذات الأثر الاقتصادي/السياسي الجسيم، وتحوّلات أخرى مثل Jarkesy بشأن محاكمات الوكالات. هذا السياق التراكمي يعني أنّ أدوات تحجيم السلطة الإدارية تتعاضد، وأن معارك السنوات المقبلة ستدور حول هندسة التفويض وحِرَفية التعليل الإداري أكثر من أي وقتٍ مضى
خاتمة: نحو “شرعية تفسيرية” جديدة
لا يُختزَل حكم Loper Bright في شعار “الحدّ من الدولة الإدارية” وحده، كما لا يُختزَل في “انتصار القضاء على الخبرة”. إنّه، بالأحرى، إعادة توزيع دقيقة للأدوار: القاضي يفسّر، والوكالة تُقنِع وتُعلِّل داخل تفويضٍ بيّن، والمشرّع يضبط حدود اللعبة. سيقود هذا إلى زيادة الضغط على جودة الصياغة التشريعية، وإلى رفع سقف الحِرَفية في صناعة القرار الإداري، وإلى نقلة في استراتيجيات التقاضي حيث سيحلُّ سؤال “ما هي أفضل قراءة للنص؟” محلّ سؤال “هل قراءة الوكالة معقولة؟”. وبين من يخشى “صدمة” تقوّض انتظام السياسات، ومن يبشّر بـ“يقين قانوني” يحدّ من التقلّبات، تبقى الحقيقة الأوضح أنّنا أمام نظام شرعية تفسيرية جديد سيُختبر تدريجيًا في محاكم الدرجات الدنيا قبل أن يستقر له شكلٌ على مستوى الاتحاد. وما سيُرسّخ الاستقرار ليس الحكم وحده، بل تفاعُل المؤسسات الثلاث—محاكم، ووكالات، ومشرّع—مع مقتضياته، وبالذات كيف سيترجم التفويض والتعليل إلى قرارات تستطيع الصمود أمام عينٍ قضائيةٍ أكثر استقلالًا.