أزمة الكراء والعقار في المغرب: بين غلاء السكن وتعقيد المساطر القانونية

العقار والكراء في المغرب: إشكالات الواقع ورهانات الإصلاح

عالـم القانونساعة واحدة ago
النص البديل (Alt Text): صورة لعمارات سكنية حديثة مع عقد كراء ومفاتيح وميزان عدالة ومطرقة قاضٍ تحمل عنوان Moroccan Housing Law.

مقدمــــــــــــــــة

 

بات موضوع العقار والكراء من أكثر القضايا حساسية في المغرب، خصوصاً في المدن الكبرى حيث تتقاطع ندرة العرض مع ارتفاع السومة الكرائية وتجمّد الأجور أو ضعفها. فالمواطن البسيط يجد نفسه بين مطرقة غلاء اقتناء السكن وصعوبة الحصول على قرض، وسندان قلة الشقق المعروضة للكراء وارتفاع أسعارها. وفي المقابل، لا يخلو وضع الملاك من مخاوف حقيقية مرتبطة بعدم أداء الوجيبة الكرائية، أو إتلاف المحل، أو صعوبة الإفراغ.
إلى جانب ذلك، تطرح مساطر التحفيظ العقاري والتعرضات والرسوم العقارية إشكالات عملية معقّدة، كما تشكل الشفعة والقسمة والاستيلاء على الملك العمومي مجالات خصبة للنزاعات أمام المحاكم. ورغم وجود ترسانة قانونية مهمة، مثل القانون رقم 67.12 المتعلق بكراء المحلات السكنية والمهنية، والقانون رقم 49.16 المتعلق بكراء المحلات التجارية، والقانون رقم 14.07 المعدّل لظهير التحفيظ العقاري، فإن الواقع اليومي يكشف عن فجوة بين النص والتطبيق.
انطلاقاً من هذا السياق، يحاول هذا المقال تسليط الضوء على أهم ملامح الإشكال العقاري والكرائي في المغرب، من خلال خمسة محاور أساسية، قبل ختمه بجملة من الملاحظات والاقتراحات العملية.

المحور الأول: أزمة السكن وارتفاع السومة الكرائية في المدن الكبرى

تتميز المدن الكبرى مثل الدار البيضاء، الرباط، طنجة، مراكش وأكادير بضغط سكاني واقتصادي قوي؛ فهي تجذب الاستثمارات وفرص الشغل، لكنها في الوقت نفسه تستقطب أعداداً هائلة من الباحثين عن السكن. هذا الضغط يؤدي تلقائياً إلى ارتفاع أسعار البيع والكراء، خاصة في ظل محدودية العرض في الفئات المتوسطة والشعبية.
من جهة أخرى، لم يعد الكراء في هذه المدن مجرّد علاقة بسيطة بين مالك ومكتري، بل أصبح معادلة معقّدة تتداخل فيها:
• كلفة اقتناء الشقة أو بنائها بالنسبة للمكري (قروض بنكية، ضرائب، مصاريف إصلاح وصيانة).
• ضعف أو ثبات الأجور بالنسبة للمكتري، خصوصاً ذوي الدخل المحدود أو غير القار.
• تكاليف إضافية مرتبطة بالسكن المشترك، مثل واجبات السكان، خدمة الحارس، مصاريف المصعد والنظافة…
في هذا السياق، تتحوّل الشقق القليلة ذات الثمن “المقبول” إلى موضوع تنافس حاد، ما يدفع أحياناً لبعض الممارسات غير السليمة: كراء بدون عقد مكتوب، اشتراط مبالغ كبيرة كضمان، فرض شروط تعسفية، أو العكس؛ مكتري يرفض أداء الوجيبة في وقتها أو يسيء استعمال المحل. وهنا تظهر أهمية الإطار القانوني المنظم لعقود الكراء.

المحور الثاني: الإطار القانوني للكراء بين النص والواقع

ينظم المشرع المغربي علاقتي الكراء السكني والمهني بمقتضى القانون رقم 67.12 المتعلق بتنظيم العلاقات التعاقدية بين المكري والمكتري للمحلات المعدة للسكنى أو للاستعمال المهني، بينما ينظم القانون رقم 49.16 كراء المحلات المعدة للاستعمال التجاري أو الصناعي أو الحرفي.

1. الكراء السكني والمهني (القانون 67.12)

يفرض هذا القانون أن يبرم عقد الكراء كتابةً وبمحرر ثابت التاريخ، مع تحديد هوية الأطراف، ووصف المحل، والسومة الكرائية، ومدة العقد، وكيفية الأداء. ويُلزم المكري بتسليم المحل في حالة صالحة للاستعمال، كما يُلزم المكتري بالحفاظ عليه وأداء الوجيبة في آجالها. كما يضع القانون مساطر خاصة للإفراغ، ولا يترك الأمر فقط لإرادة المكري، بل يربطه بأسباب محددة، وبإجراءات قضائية تضمن نوعاً من التوازن بين الطرفين.
مع ذلك، لا تزال الزيادة في السومة الكرائية ومسطرة الإفراغ من أكثر نقاط التوتّر، حيث يشعر المكري بأن القانون يقيّده في حماية ممتلكه، بينما يخشى المكتري من فقدان سكنه فجأة أو من زيادات غير مبررة. وغالباً ما تزيد الجهل بالقانون وعدم الاستعانة بأهل الخبرة من حدّة النزاعات.

2. الكراء التجاري (القانون 49.16)

أما في المحلات التجارية، فيولي القانون 49.16 عناية خاصة لـالأصل التجاري وحقوق التاجر في الاستقرار والاستثمار. لذلك اشترط في الأصل الكتابة، وحدّد قواعد للزيادة في الكراء، وأخرى للإفراغ مع تعويض للمكتري في حالات معيّنة، حفاظاً على الرأسمال المعنوي للمحل التجاري.
ورغم التطور المهم الذي جاء به هذا القانون مقارنة بالنظام القديم، فإن نزاعات الزيادة في السومة الكرائية، وإثبات وجود أصل تجاري، وشروط التعويض عن الإفراغ لا تزال تشكل مادة غنية أمام المحاكم التجارية.

 

المحور الثالث: التحفيظ العقاري، التعرضات والرسوم العقارية

 

يمثل التحفيظ العقاري العمود الفقري للأمن العقاري في المغرب، نظراً لأنه يفضي إلى إنشاء رسم عقاري نهائي يضمن استقرار الملكية وحجيتها. ويخضع هذا المجال لظهير 12 غشت 1913 كما تم تعديله وتتميمه، ولا سيما بالقانون رقم 14.07 الذي أدخل تعديلات هامة لتسريع المساطر وتعزيز حماية الملاك والمتعرضين.
مع ذلك، لا تخلو مسطرة التحفيظ من صعوبات عملية، أهمها:
• طول الآجال في بعض الملفات، خاصة إذا تعددت التعرضات أو تعقّدت الحدود.
• جهل عدد من الأطراف بضرورة تتبع الإعلانات ونشر مطلب التحفيظ، مما يضاعف النزاعات.
• صعوبة فهم بعض المقتضيات المتعلقة بالقوة الثبوتية للرسم العقاري وحرمة البيانات الواردة فيه.
أما بعد التحفيظ، فإن الرسوم العقارية تحتاج إلى تحيين مستمر، وإلا تحوّلت إلى مصدر نزاع: بيع غير مشهر، إرث غير مقيد، قسمة لم تُسجَّل… وهنا يبرز دور المحافظ العقاري، والمحامي، والموثق، والعدول، في تأطير المعاملات بشكل يضمن انسجام الواقع مع السجلات الرسمية.

المحور الرابع: الشفعة والقسمة ونزاعات الشركاء في الملك

يُعدّ نظام الشفعة من الخصوصيات المهمة في القانون المغربي، إذ يهدف إلى تمكين الشريك في الملك من ضمّ حصة شريكه الذي باع نصيبه للأجنبي، حفاظاً على تماسك الملكية ومنع تفتيت العقار إلى أجزاء صغيرة. غير أن تفعيل هذا الحق في الواقع يثير عدة إشكالات، من قبيل:
• الآجال المحددة لممارسة الشفعة، وكيفية احتسابها.
• تحديد الثمن الواجب أداؤه، خصوصاً إذا توزع بين ثمن حقيقي وآخر صوري.
• تأثير الشفعة على استقرار المعاملات وثقة الغير في التعامل على العقار المشاع.
أما القسمة، سواء كانت رضائية أو قضائية، فتمثل بدورها مجالاً خصباً للنزاعات بين الشركاء، إذ تتداخل الاعتبارات العائلية والاقتصادية مع الإشكالات القانونية والتقنية (قابلية العقار للقسمة، خلق أجزاء غير صالحة للبناء، احترام تصاميم التهيئة…). وفي غياب اتفاق واضح وعادل، تتحول القسمة إلى خصومة طويلة أمام المحاكم، تُجمّد استغلال العقار لسنوات، وتضيع معها فرص مهمة للاستثمار أو السكن.

المحور الخامس: الاستيلاء على الملك العمومي ونزع الملكية للمصلحة العامة

يشكل الملك العمومي فئة خاصة من العقار المخصص للاستعمال الجماعي أو المرفقي (شوارع، حدائق، شواطئ، مجاري مياه…)، ويُفترض فيه أن يخضع لحماية خاصة من طرف الدولة والجماعات الترابية. غير أن الواقع يكشف عن ظاهرة الاستيلاء غير المشروع على الملك العمومي، سواء عبر البناء العشوائي، أو احتلال الأرصفة والفضاءات العامة من طرف بعض التجار والباعة، مما يخلق صراعاً دائماً بين حق الأفراد في العيش الكريم وحق الجماعة في فضاء منظم.
في المقابل، يوجد نوع آخر من التدخل على العقار هو نزع الملكية لأجل المنفعة العامة، المنظم بالقانون رقم 7.81، حيث يجيز المشرع للإدارة أن تنزع ملكية عقار خاص بعد إعلان المنفعة العامة، مقابل تعويض منصف، وفق مسطرة دقيقة تبدأ بمرسوم الإعلان وتنتهي بنقل الملكية والأداء.
الإشكال في هذا المجال لا يتعلق فقط بوجود النص، بل أيضاً بمدى واقعية التعويضات، واحترام الآجال، وتمكين المنزوعة ملكيتهم من الطعن في التقدير، إلى جانب السؤال الأكبر: كيف نوازن بين حماية الحق الدستوري في الملكية وبين حاجات الدولة إلى إنجاز مشاريع البنية التحتية والتنمية؟

خاتمة

يتبيّن من خلال هذه المحاور أن موضوع العقار والكراء والتحفيظ في المغرب ليس مجرد ملف تقني، بل هو قلب معادلة الحق في السكن، والأمن التعاقدي، والاستقرار الاقتصادي والاجتماعي. فغلاء السكن وارتفاع السومة الكرائية في المدن الكبرى، وتعقّد مساطر التحفيظ، وتعدد نزاعات الشفعة والقسمة، وتوتر العلاقة بين الأفراد والإدارة بخصوص الملك العمومي ونزع الملكية… كلها مظاهر تؤثر بشكل مباشر في حياة المواطنين وثقتهم في القانون.
ولمواجهة هذه التحديات، لا يكفي تطوير النصوص القانونية فقط، بل لابد من:
• تعزيز الثقافة القانونية لدى الملاك والمكترين عبر تبسيط النصوص ونشر دلائل عملية.
• تشجيع الصلح والوساطة في منازعات الكراء والملكية بدل اللجوء المباشر إلى القضاء.
• تسريع ورقمنة مساطر التحفيظ وتحيين الرسوم العقارية، مع تعزيز التنسيق بين المحافظات العقارية والجماعات الترابية.
• مراجعة السياسات السكنية والجبائية لتشجيع العرض الكرائي المنظم والميسور، وضمان توازن حقيقي بين حقوق المكري والمكتري.
بهذه المقاربة المتكاملة، يمكن للمنظومة العقارية والكرائية أن تتحول من مصدر توتر ونزاع إلى رافعة حقيقية للتنمية والاستقرار الاجتماعي، بما ينسجم مع طموح المغرب في بناء دولة الحق والقانون وربط المسؤولية بالمحاسبة.

Leave a Comment

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


Comments Rules : من شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الإلهية، والابتعاد عن التحريض العنصري والشتائم.

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

We use cookies to personalize content and ads , to provide social media features and to analyze our traffic...التفاصيل

موافق