مقدمة
منذ إطلاق ورش مراجعة مدونة الأسرة، عاد موضوع الحضانة والولاية على الأبناء إلى صدارة النقاش العمومي والحقوقي في المغرب. فالخلافات الأسرية لم تعد مجرد نزاع بين زوجين، بل أصبحت تمسّ بشكل مباشر حق الطفل في الاستقرار والعطف والرعاية، وحق الأم والأب معًا في الاستمرار في أداء دورهما التربوي حتى بعد الطلاق.
ما يَسمِّيه الإعلام اليوم بـ “مدونة الأسرة الجديدة” هو في الحقيقة مشروع تعديل لمدونة 2004، قُدِّمت خطوطه العريضة في 24 دجنبر 2024، متضمِّنةً مقترحات جوهرية في مجال الحضانة والولاية، من قبيل: جعل الحضانة حقًّا مشتركًا بين الأبوين، الإبقاء على حضانة الأم حتى بعد زواجها، وتقاسم الولاية القانونية على الأبناء بين الأم والأب أثناء الزواج وبعده.
غير أن هذا المشروع – إلى غاية نهاية 2025 – لم يُصادق عليه نهائيًا بعد، وما زال في طور المسطرة التشريعية، مع توقعات بأن يتم البت فيه خلال 2026.
لذلك، فإن الحديث عن “مدونة الأسرة الجديدة” يقتضي التمييز بين:
• النص الحالي (مدونة 2004 وما طرأ عليها من تعديلات)،
• والمستجدّات المقترحة في مشروع الإصلاح.
في هذا المقال سنحاول مقاربة موضوع الحضانة والولاية في ضوء النص القائم، وما تقترحه المراجعة الجديدة، مع قراءة في المسافة بين النص والواقع من زاوية مصلحة الطفل الفضلى.
المحور الأول: الإطار القانوني الحالي للحضانة والولاية في مدونة 2004
مدونة الأسرة لسنة 2004 وضعت تصورًا جديدًا للأسرة يقوم – نظريًا – على الشراكة بين الزوجين في رعاية الأبناء، لكنها في التفصيل أعطت لكلٍّ من الحضانة والولاية بنية قانونية مختلفة.
أولًا: الحضانة (الحضانة المادية والتربوية)
الحضانة في المدونة هي حفظ الولد ورعايته ماديًا ومعنويًا، بما يشمل الإقامة، التغذية، التعليم، والرعاية الصحية.
• أثناء قيام الزوجية، تُعتبر الحضانة عمليًا مسؤولية مشتركة، لكن دور الأم في الرعاية اليومية يكون أقوى بحكم الواقع.
• بعد الطلاق، تُسند الحضانة – بحسب الترتيب – غالبًا إلى الأم أولًا، ثم الأب، ثم الجدة من جهة الأم، ثم قرابة أخرى، مع منح المحكمة سلطة الترجيح بناءً على مصلحة الطفل.
كما تُشترط في الحاضن/الحاضنة جملة من الشروط: الرشد، الأمانة، القدرة على التربية، عدم زواج الأم بغير قريب محرَّم من الطفل (إلا إذا قُدِّر خلاف ذلك)، مع مراعاة رأي الطفل بعد سن معينة.
ثانيًا: الولاية على النفس (التمثيل القانوني للطفل)
المدونة تميز بين:
• الحضانة: من يرعى الطفل ويقيم معه.
• الولاية القانونية: من يمثّل الطفل أمام الإدارات، يوقّع له في المدرسة، يُخرج له جواز السفر، يقرّر في السفر والدراسة… إلخ.
عمليًا، الولاية في الغالب منوطة بالأب، ولا تنتقل للأم إلا في حالات محدودة (وفاة الأب، الغيبة الطويلة، العجز…). وهذا ما جعل كثيرًا من الأمهات الحاضنات “يربّين” الأطفال دون أن تكون لهن سلطة قانونية كاملة في ملفات حيوية كالسفر، التسجيل الدراسي، أو بعض الوثائق الإدارية، الأمر الذي اعتبرته تقارير تحليلية نوعًا من “الفصل” بين الأم وطفلها على مستوى السلطة القانونية، رغم قيامها بالعبء المادي والمعنوي للحضانة.
المحور الثاني: المستجدّات المقترحة في مشروع مراجعة مدونة الأسرة
المقترحات التي قُدِّمت أمام الملك والحكومة والإعلام نهاية 2024 حملت تحولًا مهمًّا في فلسفة الحضانة والولاية، يمكن تلخيصه في ثلاث عناوين كبرى: التشارك، الاستمرارية، وضمان السكن والحماية.
1. الحضانة كحق مشترك بين الأبوين
وفق ما نشرته عدة منابر إعلامية رسمية وشبه رسمية، اتجه المشروع إلى اعتبار:
“الحضانة حقًّا مكتسبًا ومشتركًا بين الأبوين أثناء الزواج، ويمكن أن تبقى مشتركة بعد الطلاق باتفاقهما، مع وضع ضمانات لحماية الطفل من التنقل العشوائي أو الحرمان من أحد الوالدين.”
هذا التصور يقرّ مبدأ “الأبوّة والأمومة المشتركة” (coparentalité)، بدل منطق “الأم حاضنة والأب ولي”، وهو تغيير عميق في الخلفية القانونية والنفسية معًا.
2. الحفاظ على حضانة الأم رغم زواجها
من بين أكثر النقط إثارة للنقاش:
• إلغاء قاعدة سقوط حضانة الأم بمجرد زواجها من غير قريب محرّم للطفل،
• والإبقاء على حضانتها إذا توفرت مصلحة الطفل الفضلى، مع تمكين الأب من دور فعّال في المتابعة والزيارة.
هذا التعديل يستجيب لمطالب حقوقية قديمة ترى أن إسقاط حضانة الأم تلقائيًا بسبب الزواج يعاقب المرأة ويستعمل الطفل كورقة ضغط، بدل تقييم كل حالة على حدة.
3. الولاية القانونية المشتركة بين الأبوين
مشروع الإصلاح يذهب صراحة نحو:
• تقاسم الولاية القانونية على الأبناء بين الأبوين أثناء الزواج وبعد الطلاق،
• مع إسناد حسم الخلاف إلى قاضي شؤون الأسرة عند تعذر الاتفاق
هذا يعني عمليًا، إن تم اعتماده كما هو، أن الأم الحاضنة لن تبقى مضطرة في كل مرة لاستصدار أحكام خاصة للسفر أو التسجيل أو التمثيل القانوني، بل ستكون شريكة أصيلة في الولاية بحكم القانون، تمامًا كالأب.
4. ضمان السكن وحق الطفل في الاستقرار
المشروع يربط بين الحضانة والحق في السكن، من خلال:
• ضمان بيت أو سكن ملائم للطفل بعد الطلاق،
• وإعطاء هذا الحق الأولوية عند ترتيب آثار الطلاق والنفقة.
هذه المقتضيات، إن فُعِّلت، ستخفف كثيرًا من حالات “تشريد” الطفل بين بيوت الأقارب أو الكراء المؤقت، كما يحدث اليوم في كثير من النزاعات.
المحور الثالث: بين النص والواقع… أين يقف الطفل؟
رغم اللغة المتقدمة التي حملتها مدونة 2004، إلا أنّ الواقع كشف عن فجوة كبيرة بين النص والتطبيق:
• أمهات حاضنات لا يحصلن على النفقة في وقتها، أو لا تُنفَّذ الأحكام أصلًا.
• آباء محرومون لسنوات من رؤية أطفالهم بسبب تعقيد مساطر الزيارة أو تعنّت الطرف الآخر.
• أطفال يتنقلون بين المدن دون استقرار مدرسي، أو يعيشون صراع الولاء بين أب وأم متخاصمين.
تقارير وتحليلات حقوقية عديدة أشارت إلى أن المدونة السابقة ركزت أكثر على تمكين المرأة من الطلاق (خصوصًا التطليق للشقاق)، لكنها لم تُواكِب بالقدر نفسه تنظيم مرحلة ما بعد الطلاق، خصوصًا في جانب الحضانة والولاية والنفقة
في الممارسة اليومية داخل المحاكم، يظهر أن:
• النصوص المتعلقة بمصلحة الطفل الفضلى موجودة، لكن تأويلها يختلف من قاضٍ لآخر، ومن مدينة لأخرى، تبعًا للخلفية الثقافية والمحافظة.
• بعض الآباء يستعملون النفقة أو الزيارة كأداة ضغط على الأم، والعكس صحيح؛ فتتحول الحضانة من حق للطفل إلى “جائزة” يتنافس عليها الكبار.
• ضَعف الوساطة الأسرية، وقلة الأطر المتخصصة في علم النفس الاجتماعي داخل المحاكم، يجعل القاضي في مواجهة منفردة مع ملف شديد التعقيد إنسانيًا.
مشروع تعديل المدونة جاء – ضمنيًا – اعترافًا رسميًا بمحدودية التجربة السابقة، ومحاولة لتصحيح هذا الخلل عبر إقرار الحضانة والولاية المشتركتين، والاعتراف الصريح بموقع الطفل كـ“مركز ثقل” الإصلاح
المحور الرابع: مصلحة الطفل الفضلى بين الأم والأب – من منطق الصراع إلى منطق التشارك
المبدأ المرجعي في القانون الدولي (اتفاقية حقوق الطفل) وفي الدستور المغربي هو المصلحة الفضلى للطفل. لكن فهم هذا المبدأ في القضايا اليومية ليس أمرًا بسيطًا:
• هل مصلحة الطفل أن يبقى مع الأم لأنها الأقرب عاطفيًا؟
• أم مع الأب إذا كان أكثر استقرارًا ماديًا؟
• أم في صيغة “حضانة مشتركة” تسمح له بعيش علاقة طبيعية مع كليهما؟
مشروع الإصلاح، كما عُرض، يتجه بوضوح إلى تعزيز ثقافة التشارك:
• الحضانة حق مشترك،
• الولاية مسؤولية مشتركة،
• والطفل ليس “ملْكًا” لأحد الوالدين، بل شخص مستقل له حقوقه وكيانه
هذا التوجه، إذا تم اعتماده، يمكن أن يساهم في:
1. تقليل استعمال الأطفال كورقة ضغط في النزاع.
2. تخفيف الشعور بالظلم لدى كثير من الآباء الذين كانوا يشعرون أنهم “مقصيّون” بعد الطلاق.
3. تمكين الأم من ممارسة دورها كاملاً، ليس فقط كحاضنة، بل كـ فاعل قانوني يقرر في مستقبل أبنائها.
لكن في المقابل، يحذر بعض الفاعلين من أن الحضانة المشتركة قد تتحول – إذا لم تُضبط جيدًا – إلى مصدر جديد للنزاع، خصوصًا عندما يكون الصراع بين الزوجين حادًّا، أو عندما يقطن كل منهما في مدينة مختلفة. ولهذا يُشدد المشروع والتقارير المواكبة على ضرورة إبقاء سلطة تقديرية واسعة للقاضي، مع أدوات مساعدة كالتقارير الاجتماعية والنفسية
المحور الخامس: ما الذي نحتاجه لإنجاح الإصلاح؟
حتى لو تم اعتماد “مدونة الأسرة الجديدة” بنصوص أكثر تقدمًا في باب الحضانة والولاية، فإن نجاح الإصلاح لن يكون قانونيًا فقط، بل يحتاج إلى:
1. تكوين موسع للقضاة والمحامين وضباط الحالة المدنية في مفهوم الحضانة والولاية المشتركة، وكيفية تنزيل مبدأ مصلحة الطفل الفضلى في القرارات القضائية اليومية
2. وساطة أسرية مؤسَّسة داخل المحاكم وخارجها، عبر مكاتب متخصصة تضم خبراء في علم النفس وعلم الاجتماع والقانون، تعمل على تهدئة النزاع قبل الوصول إلى أحكام قاسية.
3. دعم اجتماعي واقتصادي للأمهات والآباء معًا
– توفير آليات جدّية لتحصيل النفقة وتنفيذ الأحكام،
– وصناديق دعم للأسر الهشة حتى لا يتحول الفقر إلى سبب رئيسي في التفكك وفقدان الحضانة.
4. ثقافة مجتمعية جديدة ترى في الطلاق نهاية العلاقة الزوجية، لا نهاية الأبوة والأمومة؛
أي أن “أب مطلّق” و“أم مطلّقة” يظلان معًا مسؤولين أمام الله والقانون والمجتمع عن طفلهما.
بدون هذه العناصر، سيظل خطر إعادة إنتاج نفس الفجوة بين النص والواقع قائمًا، حتى لو صيغت أجمل المواد في القانون.
خاتمة
ملف الحضانة والولاية في مدونة الأسرة – بصيغتها الحالية والمقترحة – هو في الجوهر سؤال عن موقع الطفل في مشروع المجتمع المغربي:
هل نراه تابعًا لصراع الراشدين، أم نعامله كذات مستقلة تستحق أن تُبنى قواعد القانون والسياسة العمومية انطلاقًا من احتياجاتها الحقيقية؟
مشروع “مدونة الأسرة الجديدة” حاول أن يخطو خطوة واضحة في اتجاه:
• تثبيت الحضانة كحق مشترك،
• جعل الولاية القانونية مسؤولية متقاسَمة بين الأم والأب،
• وتصحيح بعض مظاهر الظلم التي عانت منها الأمهات الحاضنات والآباء المحرومون والأطفال معًا.
لكن نجاح هذا الورش لن يُقاس فقط بعدد الفصول المعدَّلة، بل بمدى شعور الطفل – بعد سنوات من التطبيق – بأنه قادر على أن يحب أمه وأباه معًا دون خوف، وأن يعيش طفولته في استقرار، وكرامة، وأمان عاطفي وقانوني.













