إن خيار المملكة السير على نهج اللامركزية الإدارية و اللاتمركز أنتج أكثر من مستوى للتخطيط و التدبير، فأضحى معه شرط التنسيق حتميا حتى لاتهدر الجهود في الزمان و المكان، خاصة إذا ما استحضرنا الإختصاصات التي ستمنح للجهات في أفق التقسيم الجهوي الجديد و الإصلاحات الدستورية الأخيرة و إقرار الجهوية المتقدمة.
الفقرة الأولى: الجهوية المتقدمة كإطار ملائم لتدعيم مستويات التنسيق و الإندماج بين البنيات الإدارية.
لقد شكل مسلسل الإصلاح الجهوي بالمغرب هاجسا للسلطات العمومية، انجلى هذا الهاجس بالإعتراف بالجهة في دستور 1992 كجماعة ترابية تتمتع بالشخصية المعنوية (الإستقلال المالي والإداري)، وتدعم هذا الهاجس من خلال دستور 1996 الذي أكد على هذه المكانة، وفي ظله صدر القانون 47.96 المنظم للجهات سنة 1997.
لقد عرفت هذه المرحلة بداية لتنامي التفكير في تبني الجهوية بالمغرب القائمة على التدرج في منح الإختصاصات، حيث أكد جلالة الملك الحسن الثاني طيب الله ثراه في كلمة ألقاها أمام البرلمان بتاريخ 5 نونبر 1996 على أنه”: إذا وافقنا على كل شيء منذ البداية سيكون من الصعب التراجع عن القرارات المتخذة وإسترجاع ما تم منحه…، فإذا تبين بعد سنة أنه من المستحب توسيع إختصاصات الجهة، ستواكب النصوص هذه الإختصاصات كلما كانت الحاجة ماسة لذلك. ”
وفي بداية عهد العاهل المغربي محمد السادس نصره الله عرفت البلاد سلسلة من الإصلاحات القانونية والمؤسساتية دشنت بتبني المفهوم الجديد للسلطة في الخطاب الملكي ل12 أكتوبر 1999، والذي إنتقل من المفهوم التقليدي للسلطة القائم على القوة والترهيب إلى مفهوم الإقناع والحوار والقرب و”…فضيلة التشاور وإتاحة فرصة المساهمة والاندماج للمواطنين كافة بدون أي إعتبار أو تمييز وبما توفر لهم ظروف الحياة السعيدة”، مؤكدا جلالته في مجال تدعيم مكانة الجهة على أن “: الجهة التي كرسها دستور مملكتنا تعتبر حلقة أساسية في دعم الديمقراطية المحلية ، ومجالا خصبا للتنمية الإقتصادية والإجتماعية، وفضاءا فسيحا للتفكير والتخطيط في إطار واسع لمستقبل أفضل في تعاون وإنسجام مع الوحدات الترابية الأخرى، بإعتبارها أداة توحيد وعنصر إلتحام…”.
إن هذا المفهوم الجديد للسلطة جاء لكي تحقق الجهة وباقي الوحدات الترابية المركزية الاهداف المتوخاة منها،و التي لابد أن يواكبها تدعيم مسلسل عدم التركيز الإداري، وهو الصورة الإيجابية للمركزية القائمة على تفويض هذه الأخيرة لبعض الإختصاصات للمصالح الخارجية التابعة لها، لكن هذا التدعيم لا ينبغي أن يقتصر على هذا التفويض، بل يقضي بنقل إختصاصات الإدارة المركزية إلى مندوبيها المحليين (المصالح الخارجية للوزارات على المستوى المحلي).
كما شكلت الجهوية الموسعة في خطب جلالة الملك محمد السادس مرجعية شبه دائمة، لعل أبرز خطاب في هذا المجال هو خطاب 6 نونبر 2008 ، والذي يعد مرجعية أساسية لتبني مشروع الجهوية المتقدمة بالمغرب، فقد حدد تصورا عاما حول هذا المشروع، إذ يؤكد صاحب الجلالة في هذا الخطاب على ما يلي “: لذلك قررنا بعون الله فتح صفحة جديدة في نهج الإصلاحات المتواصلة الشاملة التي نقودها بإطلاق مسار جهوية متقدمة ومتدرجة، تشمل كل مناطق المملكة، وفي مقدمتها جهة الصحراء المغربية. “، وقد حدد هذا الخطاب أيضا مجموعة من المبادئ التوجيهية للجهوية، وهي مبادئ الوحدة والتضامن والتوازن، و التي تستهدف بشكل خاص القرب من حاجيات المواطن وهمومه.
وتعد الجهوية نوعا متطورا من اللامركزية الإدارية وأبرز آليات تجسيد الحكم المحلي وتفعيل مبدأ المشاركة المباشرة للمواطنين في تدبير شؤون إقليمهم الترابي، وقد تدعم توجه المغرب في تبني هذا الإصلاح الإداري بتعيين جلالة الملك للهيئة الإستشارية للجهوية في خطاب 3 يناير 2010، وذلك من أجل قيامها بوضع تصور عام ينتقل من اللامركزية التقليدية إلى لامركزية عصرية تتبوأ فيها الجهة مكانة الصدارة، وجعلت اللجنة من الخطابات الملكية على العموم التي تطرقت للجهوية وخطاب 3 يناير 2010 على وجه أخص- لأنه الخطاب الذي منح التصور الدقيق إلى حد ما للجهوية بالمغرب- منطلقا للبحث والمشاورات التي أجرتها مع مختلف أطياف المجتمع ليعبروا عن طموحاتهم وآمالهم في الجهوية بالمغرب وأوجه القصور التي تعانيها الجهة، فقدمت تقاريرها الموضوعاتية لجلالة الملك، وقامت بنشرها أيضا ليطلع عليها العموم، ومن أبرز مقترحاتها في مجال التقسيم الجهوي هو تبني مقترح 12 جهة بدل 16 جهة حاليا، ومنح السلطة التنفيذية لرؤساء المجالس الجهوية، وأيضا اقتراح إحداث صندوق التأهيل الإجتماعي للجهات والرفع من الموارد المرصودة من طرف الدولة للجهة…
وإعتبارا لتوجيهات جلالة الملك للحكومة في خطاب 20 غشت 2010 بشأن وضع ميثاق للاتمركز الإداري، فقد قدمت اللجنة في تقريرها مقترحات في هذا المجال، وذلك على إعتبار أن اللاتركيز الإداري يعد الدعامة الضرورية لكل سياسة تستهدف إنجاح تجربة اللامركزية، كما يشكل إصلاح عدم التركيز الإداري أو المصالح الخارجية للوزارات، وكلها مفاهيم تطلق على ممثلي الادارة المركزية على المستوى الترابي وعلى رأسهم رجال السلطة (الوالي-العامل-الباشا…) نجاحا لمفهوم الإلتقائية بين اللامركزية واللاتركيز ومختلف الفاعلين الغير الحكوميين على المستوى الترابي .
إن هذا الإهتمام المتدرج للجهوية بالمغرب تأكد مع تبني دستور جديد للبلاد، والذي تضمن مجموعة من الدعامات القانونية والمؤسساتية المدعمة لدولة الحق والقانون، والتي جاءت كصيرورة للاصلاحات والمشاريع الضخمة التي تبناها المغرب منذ تولي جلالة الملك الحكم، بالرغم من وجود إتجاه يربط تبني هذا الدستور بأحداث “الربيع العربي” أو “الربيع الديمقراطي” وضغط الشعوب على حكامها لتقديم إصلاحات ومحاربة للفساد بمختلف مظاهره وتجلياته، لكنهم لن يستطيعوا ربط مستجدات اللامركزية الجهوية التي تبناها المشرع الدستوري في دستور 2011 بتلك الأحداث التي ساهمت في الإنتقال الديمقراطي للعديد من الأنظمة العربية، وذلك بالنظر إلى المسار الذي قطعته تلك الإصلاحات منذ عهد جلالة الملك الحسن الثاني طيب الله ثراه إلى الآن، وهو المسار الذي رسمنا معالمه بإختصار دقيق يركز على أهم المحطات التي مر منها الإصلاح الجهوي منذ الإعتراف بالجهة كجماعة ترابية.
إن من أهم المستجدات والإصلاحات التي تضمنها الدستور الحالي هو تدعيم مكانة اللامركزية الجهوية، ويتضح ذلك من خلال الفصل الأول منه في فقرته الرابعة، والتي تنص على أن: ” التنظيم الترابي للمملكة تنظيم لامركزي، يقوم على الجهوية المتقدمة”، وهي دلالة قوية على مستوى البناء الدستوري من خلال النص على الجهوية المتقدمة من أول فصل، وهذا يبرهن على جدية تبني السلطات العمومية للجهوية المتقدمة من حيث الإختصاصات الممنوحة للجهة، وبمقومات وبمبادئ تراعي الخصوصية المحلية وتنفتح على التجارب المقارنة، كما تتدعم هذه الرغبة من خلال عنونة الباب التاسع بالجهات والجماعات الترابية الأخرى، والذي من خلاله أصبح مجلس الجهة ينتخب بالإقتراع العام المباشر (الفصل 135 الفقرة الثانية)، وهو ما سيخلق جوا من الديمقراطية التداولية من خلال الإستشعار بأهمية المواطنين، وبالتالي السعي لتحسين سبل إستفادتهم من الخدمة العمومية وإلى البحث عن كيفية إدماجهم في تنمية ترابهم المحلي.
وقد إستفاد الدستور الحالي من العمل الذي قامت به اللجنة الإستشارية للجهوية، فتضمن أغلب مقترحاتها في مجال ترقية الجهة، مثل صندوق التأهيل الإجتماعي للجهة وصندوق التضامن بين الجهات المنصوص عليهما في الفصل 142، كما رقى تدبيرها، وهو ما نص عليه الفصل”136 يرتكز التنظيم الجهوي والترابي على مبادئ التدبير الحر، وعلى التعاون والتضامن ويؤمن مشاركة السكان المعنيين في تدبير شؤونهم…”، وغيرها من المقترحات المهمة المضمنة في هذا الباب، والتي يبقى تفعيلها رهين بصدور القوانين التنظيمية المنصوص عليها في الفصل 146 من هذا الدستور.
الفقرة الثانية: مستويات الإلتقائية و الإنسجام على ضوء دستور 2011.
إن نجاح الإلتقائية رهين بتفعيلها بين اللامركزية واللاتركيز ومختلف الفاعلين الغير الحكوميين، على المستوى الترابي، خاصة على مستوى الإستراتجيات و المخططات القطاعية، بالنظر لأهميتها في تحقيق التنمية الإقتصادية و الإجتماعية و الثقافية، من هنا سنخص بالذكر بعض مستويات الإلتقائية التي من شأنها الرقي بمستوى المخططات و البرامج :
أولا: الإلتقائية بين القطاعات الوزارية و المؤسسات و المقاولات العامة
تلعب المؤسسات و المقاولات العمومية دورا مهما في الدينامية الإقتصادية، و تفعيل الإستراتجيات القطاعية و الترابية مما يتطلب تثمين نجاعتها، و تعزيز حكامتها و الرفع من أدائها، علما أن بلادنا تتوفر على 239 مؤسسة عمومية و 42 شركة ذات مساهمة مباشرة للخزينة منها 33 مساهمة ذات أغلبية و 190 شركة مساهمة ذات أغلبية و 244 شركات ذات مساهمة أقلية، إذن و أمام هذا الغنى الكمي و الكيفي فبإمكان إلتقائية تدخلات المؤسسات و المقاولات العمومية و القطاعات الوزارية، أن تساهم في تثمين نجاعة برمجة المشاريع و تسريع و تيرة إنجازها و مردوديتها، و عليه فاستثمارات المؤسسات و المقاولات العمومية ترمي إلى المساهمة في تفعيل الإستراتيجيات القطاعية و إنجاز الأوراش المهيكلة، مما يتطلب تفعيل جيل جديد من الإصلاحات إنسجاما مع متطلبات الدستور الجديد، خاصة تحسين الحكامة مع ترشيد النفقات و ربطها بالنتائج، و تقييم الإنجازات، و السهر على نجاعة المؤسسات و المقاولات العمومية عبر الحرص على توازناتها و التحكم في المخاطر المحتملة و ذلك عبر:
– تعزيز العلاقات بين المؤسسات و المقاولات العمومية و الوزارة الوصية ( الحوار الإستراتيجي-رسالة المهام- تتبع الإنجازات).
– تقوية دور المجالس التداولية في تحديد الأولويات و برامج العمل و المراقبة و تتبع الإنجازات و التأكد من نجاعتها.
– تأهيل تسيير المنشأة و تطوير أنظمتها للمراقبة الداخلية.
إضافة لذلك و من أجل تطوير الأليات الضرورية لتفعيل الإلتقائية وجب:
– تحيين النصوص القانونية و التنظيمية لبعض المؤسسات و المقاولات العمومية: إعادة تحديد مجالات التدخل و تكريس الإنفتاح و الحد من التدخلات.
– تحديث الأليات و المساطر مع الحرص على التوازن بين المسؤولية و المراقبة : تعميم مدونة الصفقات العمومية.
ثانيا: الإلتقائية بين القطاعات الوزارية و الجماعات الترابية على مستوى تدبير الإستراتجيات و المخططات.
من المفترض أن تشكل توصيات المخطط الوطني لإعداد التراب مرجعية و قاعدة أساسية تنبثق منها باقي وثائق إعداد التراب الأدنى، و تدخلات مختلف المدبرين العموميين الساهرين على إعداد السياسات العمومية، حتى تنسجم السياسات التنموية بمختلف مستوياتها على تحقيق هدف واحد و هو التنمية المستدامة و تقوية تنافسية الإقتصاد الوطني و قدرته التنافسية جهويا و محليا.
أ- المخططات الجهوية لإعداد التراب
يمثل إختيار الجهوية خيارا مستقبليا للبلاد، سواء لإعتبارات ديمقراطية أو إقتصادية، فبلادنا التي إنخرطت في هذا النهج، مدعوة لأن توفر لنفسها الوسائل الكفيلة بأن تجعل الجهة تتحول فعليا إلى فضاء للتعبير و التمثيلية السياسيين، فكما هو الشأن بالنسبة للجماعات المحلية فأنه ينبغي أن تتمتع المؤسسة الجهوية وفق للمقتضيات الدستورية الجديدة بتفويت واسع للإختصاصات و الموارد، خاصة في مجال إعداد التراب و التنمية الإقتصادية، لذلك فالمخططات الجهوية لإعداد التراب يجب أن تكون كإطار مرجعي حسب خصوصيات كل جهة لكل الأطراف المعنية بالتدخل في أحد القطاعات أو المجالات التي تشملها، لتضمن التنسيق و التكامل في تدخلاتها، لكن يجب أن يتم إعداد هذه المخططات وفق شروط رئيسية تتمثل في شرط الواقعية و الإجرائية، و يراعى في تحضيرها و صياغتها التوجهات العامة للمخطط الوطني لإعداد التراب، بالمقابل يجب على المغرب أن يحاول جاهدا تقنين التوجهات العامة لسياسة إعداد التراب الموجودة في الميثاق الوطني لإعداد التراب، ببلادنا قطاعيا، و جهويا، و محليا، و بذلك تكون الجهوية المتقدمة محيط مؤهل لقيادة سياسات عمومية منسقة و مندمجة.
ب- المخططات الجماعية للتنمية.
عند إستقرائنا للمقتضيات التنظيمية للجماعات الحضرية و القروية إنطلاقا من أول ميثاق جماعي لسنة 1960 ووصولا إلى اخر تعديل بموجب الميثاق 17-08 الصادر سنة 2008، نلاحظ أن المشرع المغربي تدرج في توسيع إختصاصات المجالس التداولية، ففي البداية كانت تمارس الجماعات إختصاصات ذات طبيعة تسييرية عادية، إلى أن وصلت إلى التدخل الإقتصادي و إعتبار الجماعة بمثابة مقاولة منتجة، لابد أن تتوفر على المقومات التدبيرية الناجعة، و ذلك كان تمهيدا للوصول بالجماعة إلى القدرة على التخطيط و التدبير الإستراتيجي، كشريك حقيقي في مسلسل التنمية، له القدرة على تصور المستقبل، كما عبر على ذلك الملك محمد السادس في خطابه بمناسبة الملتقى الوطني حول الجماعات المحلية بأكادير، يوم 12 دجنير 2006 بقوله” ….و إن طموحنا لكبير في جعل المدن و الجماعات المحلية، تشكل إلى جانب الدولة و القطاع الخاص و المجتمع المدني، شريكا حقيقيا في مسلسل التنمية الشاملة ببلادنا، وقوة إفتراحية، في تفعيل مختلف الإستراتجيات الوطنية….” و هكذا و حسب المادة 36 من اخر ميثاق جماعي لابد من إنجاز مخطط جماعي للتنمية يحدد الأعمال التنموية المقرر إنجازها بتراب الجماعة لمدة 6 سنوات، في أفق تنمية مستدامة ووفق منهج تشاركي يأخذ بعين الإعتبار على الخصوص مقاربة النوع الإجتماعي، ووضع هذا المخطط لابد أن يكون وفق حدود الإختصاصات المنصوص عليها قانونا و يراعي الإستراتيجيات القطاعية و تدخلات الدولة بل أكثر من ذلك فمجموعة من التجهيزات التي تتكلف بإنجازها الجماعات تحقق التكامل مع المخططات القطاعية كالتجهيزات ذات الطبيعة الصناعية و التجارية.