بعد أن كانت القطاعات الترابية تدبر و تسير بدون إستراتيجية واضحة و دون الإهتمام الكافي من طرف الفاعلين، و هو مانتج عنه بالتالي ضعف مردودية هذه القطاعات، و ذلك بسبب ضعف الحكامة الجيدة و الإلتقائية في رسم و صياغة السياسات العمومية.
و بالنظر إلى أهمية هذه القطاعات و إرتباطها بالمجتمع و ضمان إستقراره و أمنه، كان لابد من إيجاد طرق مهمة و فعالة لتدبير هذه القطاعات بالنظر لأهميتها الإستراتجية، و لعل الحكامة الجيدة و الإلتقائية و التي هي محور موضوعنا تعد من أهم الطرق الفعالة لتدبير هذه القطاعات.
وحيث أن الحكامة الجيدة، أصبحت مطلوبة اليوم في كل القطاعات العامة و الخاصة على السواء لأجل التسيير الإيجابي و الفعال في الميادين الإدارية و الإقتصادية و الإجتماعية، تحقيقا للتنمية المنشودة على المستويين الوطني و المحلي، و ذلك بالنظر إلى تطوير الأليات المختلفة للرفع من مستوى الأداءات و عقلنة التسيير و ترشيد الإنفاق العمومي لأن الترشيد الجيد في تدبير الشأن العام يعد مؤشرا مهما على مدى تجدر و ترسيخ دولة القانون و المؤسسات. لاسيما و نحن في مرحلة العولمة الإقتصادية، التي تحكمها قواعد التجارة الحرة، و الإنفتاح على دول العالم و التكتلات الإقليمية و الدولية من أجل القوة الإقتصادية و التطور العلمي و التكنولوجي، الكفيلة بتجاوز المنافسة الشرسة تحقيقا للريادة العالمية أو لجعل دول تلك التكتلات في مركز القوة عالميا. فلا مجال للضعيف أو المتخلف عن الركب الحضاري.
لذا فإن المغرب لم يدخر جهدا في هذا المجال، إذ سخر مختلف طاقاته في البرمجة و التخطيط و التنظيم و الممارسة الفاعلة لتحقيق الأهداف المرجوة( حتى يصبح مغربا حديثا متطورا في مختلف مجالاته، و مستجيبا لمتطلبات العصرنة و التقدم مع الحفاظ على هويته و تراثه الثقافي و الإجتماعي).[1]
و انطلاقا من تقرير الخمسينية , و التي تشكل أرضية عمل مرسخة لثقافة جديدة منبثقة عن الميادين المؤسسة للشراكة , الكرامة , الثقة , التضامن , القرب والمشاركة سعيا وراء تحقيق منجزات ملموسة ذات رمزية عالية تختزل الإرادة الحقيقية للمغاربة في محاربة الفقر والإقصاء والتهميش بهدف تحقيق التنمية الشاملة المنشودة , فقد شكل خطاب صاحب الجلالة الملك محمد السادس المؤرخ في 18 ماي 2005 الأساس والمبدأ لظهور مفهوم الالتقائية ببلادنا , والذي يقول فيه نصره الله : ” فإننا نعتبر أن التنمية الفعالة والمستدامة لن تتحقق إلا بسياسات عمومية مندمجة ضمن عملية متماسكة ومشروع شامل , وتعبئة قوية متعددة الجبهات تتكامل فيها الأبعاد السياسية والاجتماعية , والاقتصادية والتربوية والثقافية والبيئية”.
ومن خلال الخطاب السامي يمكن القول , إن المرحلة التي نعيشها اليوم تتطلب أسلوبا جديدا في تدبير القطاعات الترابية , يتمثل في العمل على تحقيق الالتقائية والتنسيق بين البرامج والتدخلات العمومية.[2]
ولا يخفى علينا الفائدة التي يكتسيها هذا التوجه والأهمية الكبيرة التي يحظى بها هذا المفهوم في تطوير العمل الاجتماعي بالبلاد , إذ يمكن من إضفاء الانسجام والتكامل على تدخلات الفاعلين المحليين والمركزيين ومن الرفع من تأثير وفعالية هذه التدخلات , كما يساهم في الحفاظ على استمرارية السياسات العمومية عبر توفير الوسائل اللازمة لتسييرها وصيانتها.
ومن الواضح أن الخطاب الملكي لم يكن الوحيد المؤسس لمفهوم الالتقائية , وإنما هناك كذلك الملتقى الحكومي المنعقد بمدينة بني ملال بتاريخ 20 غشت 2006 الذي روج لهذا المفهوم بمختلف مراكز القرار على المستويين المحلي والوطني .
كذلك فقد خلصت أشغال المناظرة الثامنة حول الإلتقائية و التكامل بين المالية العامة و المالية المحلية إلى ضرورة العمل على إصلاح المالية المحلية وأجرأته في إطار من التكامل والانسجام مع إصلاح المالية العامة.
وأكد الخازن العام للمملكة نور الدين بنسودة، في اختتام فعاليات المناظرة، على العلاقة الجوهرية القائمة بين اللامركزية واللاتمركز، وعلى ضرورة إرساء إصلاح اللامركزية والجهوية عبر إصلاحات عميقة للمالية العامة والمالية المحلية، موضحا أن هذه الإصلاحات عليها أن تجعل من الجهات أقطابا حقيقية للتنمية السوسيو-اقتصادية المتضامنة والمتوازنة.
ومن جانبه، أبرز وزير الداخلية محمد حصاد، في مداخلة (تلاها نيابة عنه والي المدير العام للجماعات المحلية عبد اللطيف بنشريفة ) أن المغرب بصدد مباشرة ورش كبير للإصلاحات المؤسساتية، بقيادة الملك محمد السادس، بهدف إتمام مرحلة جديدة من استكمال بناء دولة القانون والمؤسسات الديمقراطية، مؤكدا على أن اللامركزية مسلسل ديناميكي ومتطور تتولد عنه بانتظام الحاجة إلى إعادة التفكير في العلاقات، خاصة المالية منها، بين الدولة والجماعات الترابية.
واعتبرحصاد أن تطور العلاقات بين الدولة والجماعات الترابية لا يزال محكوما بفلسفة قوامها الحذر، من أجل السهر على الحفاظ على مكتسبات المراحل السابقة وكذا الخصوصيات المغربية.[3]
وغيرها من المناظرات التي جاءت بهدف تعزيز العمل بهذا المفهوم ( الإلتقائية) بالنظر لأهميته البالغة في المساعدة على تحقيق الأهداف التنموية المنشودة على مستوى القطاعات الترابية.
و حتى نقرب المهتم أكثر من هذا المفهوم ( الإلتقائية) *و الذي يمكن تعريفه بأنه تقنية تتوخى ربط علاقة بين عدة مراكز لاتخاذ القرار( مصالح خارجية – جماعات محلية – مجتمع مدني …الخ), والتي تتدخل في مجال متقارب أو متطابق في أفق تطوير جودة العمل التنموي المشترك من خلال المشاريع والبرامج المنجزة والمرتقب انجازها على المستويين المحلي والوطني بغية الخروج ببرنامج ومشروع واحد , متكامل ومندمج ومنسجم وذو نتائج ايجابية .
و عليه و من خلال ما سبق فالحكامة الجيدة و الإلتقائية مفهومين يتقاسمان هما مشتركا و هو تحقيق التنمية و خاصة على مستوى تدبير القطاعات الترابية، بالنظر إلى الأهمية البالغة لهذه القطاعات في تحقيق التنمية، و يمكن إعتبار قطاع التعليم من أهم القطاعات على الإطلاق، لأن النجاح في بلورة الحكامة الجيدة و الإلتقائية يقتضي توافر قدر من المعرفة و في هذا السياق يمكن إستحضار ماقاله الكاتب الكبير أمارتيا صن في كتابه التنمية حرية ” إن المشاركة تستلزم توافر المعرفة، و قدرا من المهارات التعليمية، فإن حرمان جماعة ما من فرصة التعليم، إنما يعتبر على النقيض مباشرة للشروط الأساسية لحرية المشاركة[4]، و من هنا تتضح لنا أهمية التعليم في تحقيق التنمية على المستوى الوطني و المحلي و إختيارنا لهذا القطاع بالذات راجع للأهمية المحورية و الأساسية التي يحتلها بين جميع القطاعات الأخرى و التحدي الأكبر والرهان الأساسي لبلوغ التنمية الاقتصادية و الاجتماعية المنشودة، على اعتبار أن إصلاح قطاع التربية و التعليم هو بالأساس استثمار في الرأسمال البشري، الذي يشكل الثروة الوطنية الإستراتيجية لمواجهة تحديات العولمة و التنافسية.
و السباق نحو امتلاك الخبرات و العلوم و التقنيات ، باعتبارها النواة الصلبة لتأسيس مجتمع العلم والمعرفة، و المدخل الأساسي للرقي ببلادنا إلى مصاف المجتمعات المتقدمة.
على هذا الأساس، يستوجب من السلطات التربوية مراجعة الإستراتيجيات و المخططات التربوية المعتمدة، وكذا الآليات و الوسائل و المقاربات الإصلاحية، من خلال اعتماد سياسة تربوية متعددة الأبعاد و المستويات تستدعي استحضار كافة العوامل و الأسباب المرتبطة بأزمة النظام التعليمي (العوامل الذاتية و الموضوعية…) . على اعتبار أنه لا يمكن إصلاح المنظومة التربوية بمعزل عن السياق السياسي والاجتماعي و الاقتصادي الراهن، ودون الأخذ بعين الاعتبار بعلاقة وتأثير باقي السياسات القطاعية الأخرى على قطاع التربية و التعليم بإعتماد نهج الالتقائية في التدبير.
وعليه، فإن نجاح الإصلاح التربوي المنشود مرتبط بالأساس، بإعطاء الأولوية للحلول التربوية و البيداغوجية لمعالجة اختلالات المنظومة التربوية عبر استبعاد منطق المعالجة التقنية الصرفة للإشكاليات التربوية، وتجاوز المقاربة الكمية إلى ما هو نوعي، من خلال التركيز على المستهدف الأساسي من الإصلاح (التلميذ/ة ) . و كذا تجديد المحتويات و المضامين و تحديث البرامج و المناهج الدراسية ، ومراجعة المقاربات التدبيرية المعتمدة حاليا في تسيير الشأن التربوي.
ولن يتأتى ذلك، إلا بممارسة الحكامة الجيدة و الإلتقائية في تدبير المنظومة التربوية، عبر ربط المسؤولية بالمحاسبة، والحرص على ترسيخ مبادئ الجودة والشفافية وتكافؤ الفرص في الاستفادة من الخدمات التربوية ؛ وكذا إعمال المقاربة التعاقدية والتدبير بالنتائج من أجل تخليق وشفافية التدبير المالي و المادي.
بالإضافة إلى ضرورة العمل على تثمين العنصر البشري (نساء ورجال التعليم)، عبر إعادة الاعتبار له و تحفيزه ماديا و معنويا . وكذا تفعيل المقاربة التشاركية و إنجاز تعبئة مجتمعية شاملة حول الإصلاح التربوي، عن طريق إعداد وتنفيذ خطة تواصلية محكمة قصد ضمان تعبئة و انخراط ومساهمة كافة الفاعلين و المتدخلين و المعنيين (تلاميذ، أساتذة، إدارة تربوية، مدبرون، مسئولون، أطر تربوية، مفتشون، نقابات، جمعيات المجتمع المدني…) في المجهود الإصلاحي، في أفق إعادة الثقة إلى المدرسة المغربية و إنجاح الإصلاح التربوي المنشود، باعتباره المدخل الأساسي لربح الرهان التنموي لبلادنا.
المراجع المستعملة:
[1] – الصفقات العمومية في المغرب (الأشغال-التوريدات-الخدمات) للدكتورة مليكة الصروخ-أستاذة بجامعة محمد الخامس أكدال- الرباط و عميدة كلية العلوم القانونية و الإقتصادية و الإجتماعية بطنجة (سابقا) ص 7.
[2] – الإلتقائية في الحكامة الجيدة ( المبادرة الوطنية للتنمية البشرية نموذجا)، ص 2.
[3] – في مناظرة بالرباط جمعت مسؤولين حكوميين وفاعلين..الالتقائية والتكامل بين الماليتين المحلية والعمومية .
* – تعريف Le robert: الالتقائية مفهوم تم استعماله في القرن 18 في لغة العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية ويهدف إلى تحقيق التواصل وربط العلاقات وتوحيد الآراء والأفكار.
حسب تعريف Le petit larousse: الالتقائية هي إحداث التقارب فيما بين المناطق والشعوب من اجل تحقيق هدف معين وواحد في الحياة , وكذلك تقارب الأفكار والقوى .
أما حسب تعريف Le grand robert: الالتقائية كالتنسيق الهادف إلى تامين انسجام الأنشطة المختلفة بهاجس تحقيق الفعالية
[4] – التنمية حرية لأمارتيا صن العدد 3 مايو 2004.ص 25.