القانون 03.23 للمسطرة الجنائية: المقتضيات الجديدة والأثر العملي

نحو عدالة ناجعة تحترم الضمانات: قراءة تحليلية في القانون رقم 03.23 المعدِّل لقانون المسطرة الجنائية

عالـم القانون7 أكتوبر 2025
لافتة قانونية بعنوان “CRIMINAL PROCEDURE REFORM” تُبرز سيدة العدالة ومطرقة قاضٍ وكتابًا يحمل 03.23 على خلفية حمراء تتضمن خريطة المغرب وأعمدة محكمة ورموزًا رقمية.

مقدّمة: إشكالية التوازن بين الفاعلية الإجرائية وضمانات المحاكمة العادلة

بعد أكثر من عقدين على دخول القانون رقم 22.01 حيّز التنفيذ، تبنّى المغرب القانون رقم 03.23 لتغيير وتتميم قواعد المسطرة الجنائية. وقد نُشر النص في الجريدة الرسمية عدد 7437 بتاريخ 8 شتنبر 2025، على أن يسري بعد ثلاثة أشهر من تاريخ النشر، أي ابتداءً من 8 دجنبر 2025، وفق ما أكدته بيانات رسمية وتقارير صحفية موثوقة. هذا التحيين التشريعي وُصف بأنه “محطة مفصلية” في مسار إصلاح العدالة، لكنه أثار أيضاً نقاشاً محتدماً حول بعض مقتضياته الحساسة، خصوصاً ما يتصل بتجريم الفساد ودور المجتمع المدني في تحريك الدعوى العمومية. الإشكالية المركزية التي يعالجها هذا المقال هي: كيف يوفِّق القانون 03.23 بين مطلب تسريع وفعالية الإجراءات الجنائية من جهة، وضرورة صون الحقوق والحريات وضمانات المحاكمة العادلة من جهة أخرى؟

أولاً: سياق الإصلاح ومجاله—من الحاجة إلى التحيين إلى تنزيله الزمن

 

جاءت المراجعة بعد تراكم ملاحظات فاعلين مؤسساتيين ومهنيين وحقوقيين بخصوص بطء المساطر، وطول الآجال، والحاجة إلى إدماج أدوات رقمية وتدابير بديلة عن الاعتقال الاحتياطي. وعلى مستوى الشكل، حُسمت مشروعية الإصلاح بإتمام المسار التشريعي ونشر القانون في 8 شتنبر 2025، مع تقرير مهلة ثلاثة أشهر قبل نفاذه الفعلي، وهو ما يمنح المهن القضائية والإدارة القضائية فترةً لملاءمة الممارسات والأنظمة المعلوماتية الداخلية. وقد أكدت وزارة العدل ووسائل إعلام وطنية هذه المُعطيات، بما فيها رقم وعدد الجريدة الرسمية وآجال النفاذ.

من جهة الخلفية، تضع مصادقة 03.23 حدّاً لفراغٍ امتد طويلاً في ورش تحديث العدالة الجنائية، إذ إن النسخة السابقة (22.01) تعود إلى بداية الألفية. الصحافة الوطنية وصفت اللحظة بـ“التاريخية”، لكنها نبهت في الوقت نفسه إلى طبيعة الجدل العمومي الذي صاحب بعض المقتضيات، وهو ما يعكس حساسية التوازن بين النجاعة وحماية الحقوق في الدولة الدستورية الحديثة.

ثانياً: أهم المقتضيات الجديدة—توسيع الضمانات وبناء مساطر أكثر عقلانية

 

1) تعزيز حقوق المشتبه فيهم أثناء البحث والحراسة النظرية

يرسّخ القانون إلزامية إخبار المشتبه فيه بحقوقه فور تقييد حريته، بما في ذلك حقه في الاتصال بمحامٍ وإشعار قريبٍ له وطلب مترجم عند الاقتضاء. كما يقطع مع أي تأويل يُساوي الصمت بالاعتراف، انسجاماً مع المعايير المقارنة. هذه الضمانات، وإن كانت مطلوبة منذ سنوات، تتحول الآن إلى قواعد إجرائية صريحة قابلة للقياس والمساءلة.

2) ترشيد الاعتقال الاحتياطي وتوسيع البدائل

يُشدد النص الجديد على حصر الاعتقال الاحتياطي في الحالات الضرورية التي لا تكفي فيها تدابير أقل قسوة لضمان حسن سير العدالة أو حماية النظام العام. ويستلزم كل قرارٍ بالوضع رهن الاعتقال تعليلاً مكتوباً. كما يُفتح الباب أمام التدابير البديلة كالمراقبة الإلكترونية ووساطات معينة في الجنح المناسبة، بما يخفف الضغط على المؤسسات السجنية ويعالج كلفة الاعتقال على الأفراد والمجتمع.

3) حقوق الضحايا والولوج إلى المعلوم

يُقوّي 03.23 موقع الضحية في المسطرة عبر تمكينها من التتبع المعلوماتي لملفها، واعتماد مواكبة اجتماعية وقانونية، مع آليات خاصة بضحايا العنف، خصوصاً النساء والأطفال. كما تحدّثت التقارير عن إنشاء مرصد وطني للجريمة لتجميع المعطيات ودعم القرار الجنائي العمومي بالأدلة. هذه المقاربة القائمة على “البيّنة” قد تُحسّن جودة السياسات الجنائية إذا طُبِّقت بانتظام وشفافية.

4) عقلنة الآجال وتحديث الإدارة القضائية

على الرغم من أن النصّ المفصّل يتوزع على مواد تقنية لا يسعها هذا المقال، فإن توجّه الإصلاح واضح: تنميط الآجال الإجرائية، وتيسير التبليغ، واعتماد مساطر إلكترونية حيثما أمكن، بما يقلّص الاحتكاك غير الضروري ويحد من فرص التعسف أو الأخطاء الإدارية. التحدي هنا سيتركز على جاهزية المحاكم، وتوحيد الممارسات بين الدوائر، وتأهيل الموارد البشرية. (تشير البيانات الرسمية والإعلامية إلى هذه الوجهة العامة حتى مع اختلاف التفاصيل بين نطاقات الجرائم وغُرف القضاء المختصة).

 

ثالثاً: نقاطٌ خلافية في صلب الجدل—بين توحيد الدعوى العمومية ودور المجتمع المدني

 

لم يمرّ الإصلاح دون انتقاداتٍ محدّدة، أبرزها ما يُتداول حول المادة 3 والمادة 7 بحسب قراءات صحفية وحقوقية:

المادة 3 (في ضوء التغطيات الصحفية): يُفهم منها أن تحريك المتابعات في جرائم الفساد والجرائم المالية يُحصر لدى النيابة العامة بناءً على تقارير هيئات رسمية (كأجهزة الافتحاص والرقابة)، وهو ما يعني عملياً تقليص أثر الشكايات المباشرة والبلاغات القادمة من عموم المواطنين أو الجمعيات كمنطلقٍ مستقل للدعوى. يُدافع أنصار هذا التوجه بأنه يضمن وحدة السياسة الجنائية ويحول دون “التسييس” أو الدعاوى الكيدية، بينما يخشى منتقدوه من “تضييق قنوات الإبلاغ” وخلق عنق زجاجة مؤسسي قد يُبطِّئ الاستجابة.

المادة 7 (وفق قراءات إعلامية): يُشترط لِـ تَنصيب الجمعيات طرفاً مدنياً أن تكون مُعترَفاً بها ذات منفعة عامة وأن تتوفر على إذن مسبق—وهو ما تعتبره بعض المذكرات الحقوقية قيداً قد يُفرغ حق التقاضي الجمعياتي من محتواه، خاصةً في قضايا المال العام. في المقابل، ترى وزارة العدل—بحسب تصريحات منقولة—أن ضبط الأهلية المدنية للجمعيات في المساطر الجنائية يحول دون الإفراط في التقاضي ويحمي حسن سير العدالة.

وقد سجّل كلٌّ من المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي (CESE) والمجلس الوطني لحقوق الإنسان (CNDH) ملاحظاتٍ واقتراحاتٍ في وثائق رسمية حول مشروع القانون خلال مساره، ما يعكس حركيةً تشاركية في صناعة القرار، ويؤكد أن النقاش المؤسسي حول حدود/ضوابط ممارسة الحق في التقاضي الجمعياتي، ومحاربة الفساد، سيظل مفتوحاً مع دخول القانون حيّز التطبيق.

ولم تقتصر الانتقادات على الداخل؛ فقد نقلت صحافة دولية صورةً نقدية عن بعض المقتضيات وربطتها بسؤال مكافحة الفساد وأدوار المجتمع المدني؛ وهي مقالات تعكس اختلاف زوايا التقييم بحسب المرجعيات والسياقات، من دون أن تكون بديلاً عن القراءة القانونية الدقيقة للنص المنشور.

 

رابعاً: الأثر العملي المنتظر—من النص إلى الممارسة

 

1) على مستوى المحاكم والنيابات العامة

سيُطلب من القضاة وأعضاء النيابة العامة والضابطة القضائية تكييف العمل اليومي مع القواعد الجديدة: صياغة تعليلات أدق لقرارات الاعتقال الاحتياطي، احترام واجب الإخطار وتوثيق الحقوق منذ اللحظة الأولى لتقييد الحرية، والتوسّع في بدائل الاعتقال حين تتوافر شروطها. كما سيُنتظر من رئاسة النيابة العامة تحديث منشوراتها الدورية لتوحيد الفهم وتوجيه الممارسة. هذه النقلة لن تنجح دون تدريبٍ مستمر وإجراءاتٍ معلوماتية تُسهّل التتبع.

2) على مستوى الدفاع والمساعدة القضائية

يعني تأكيد حقوق الإخطار والاتصال بمحامٍ تعزيز الطلب على المساعدة القضائية، خاصةً في الدوائر التي تعاني خصاصاً في المحامين أو بعداً جغرافياً. نجاح هذه الفقرة يتوقف على موازناتٍ عمومية كافية وآليات ترتيب الأولويات، وعلى تعاونٍ عملي بين المحاكم وهيئات المحامين ومؤسسات الرعاية والوساطة الاجتماعية.

 

3) على مستوى ثقة المتقاضين

إن تكريس الحق في الصمت، وتقييد الاعتقال الاحتياطي، وتجويد التبليغات والآجال، من شأنه تحسين ثقة المواطنين في العدالة. لكن الثقة لا تُكتسب بالنصوص فقط؛ هي ثمرة الأداء اليومي والقدرة على احترام المواعيد، وسرعة البتّ، واحترام الكرامة في جميع مراحل المسطرة.

 

4) في مكافحة الفساد والجريمة المالية

توحيد قنوات تحريك الدعوى في قضايا الفساد قد يُنتج انسجاماً في السياسة الجنائية إذا اقترن بفعالية المؤسسات الرقابية وسرعة إحالة التقارير. أمّا إذا ضعف الإحالة أو طال أمدها، فقد تتأثر النجاعة والردع. هنا يبرز دور آليات التقييم الدوري، ونشر معطياتٍ إحصائية شفافة (قد يُسهم فيها المرصد الوطني للجريمة)، بما يسمح بتصحيح الاختلالات في الزمن المؤسسي المناسب.

5) الرقمنة وإدارة التغيير

لا يمكن لمبادئ التبسيط والسرعة أن تتحقق بلا تحول رقمي فعلي (إشعارات إلكترونية، تبادل مذكرات، أرشفة، تتبع رقمي للملفات). النجاح هنا مرهونٌ بموارد تقنية وبشرية وتعاقداتٍ واضحة، وبـ حوكمة بيانات تراعي قانون حماية المعطيات الشخصية، مع استمرار دور CNDP في المواكبة والضبط.

خامساً: قراءة معيارية—المواءمة الدستورية والالتزامات الدولية

 

يتحرك القانون 03.23 ضمن إطار دستور 2011 الذي يُقَعِّد لحقوق الدفاع والمحاكمة العادلة والحق في الولوج إلى المعلومة القضائية. من هذه الزاوية، تُعدّ الضمانات الإجرائية المكثفة خطوةً في الاتجاه الصحيح. لكن اختبار المواءمة سيتركز على نقطتين:

حدود تحريك الدعوى العمومية في قضايا الفساد: يحتاج أيُّ تقييدٍ لمداخل التحريك إلى مرافقةٍ مؤسسية تضمن سرعة التقارير الرسمية واستقلاليتها، كي لا تتحول القاعدة إلى عائقٍ عملي أمام الكشف المبكر.

أهلية الجمعيات للتقاضي: إن اشتراط المنفعة العامة والإذن قد يُسوّغ تنظيماً، لكنه يجب ألا يعصف بروح المشاركة الديمقراطية المنصوص عليها دستورياً. المعايير التطبيقية (ماهيات الإذن، آجاله، معايير منحه أو رفضه) ستحدد ما إذا كان الشرط تقييداً متناسباً أم حاجزاً غير مبرر.

في كلتا الحالتين، يتيح النظام الدستوري إمكانات للرقابة اللاحقة عبر القضاء الدستوري وعبر التقاضي الاستراتيجي كلما ظهر تعارضٌ بين التطبيق العملي والمبادئ الدستورية أو الالتزامات التعاهدية.

خاتمة: من “نصٍّ واعد” إلى “ممارسةٍ مُقنِعة”

 

يقدّم القانون رقم 03.23 سلةً معتبرة من الإصلاحات: توسيع حقوق الدفاع والإخطار، ترشيد الاعتقال الاحتياطي، تعزيز موقع الضحايا، والانفتاح على بدائل عقابية وتدبيرية عقلانية. هذه الإيجابيات تُقابَل بنقاشٍ مشروع حول قنوات تحريك الدعوى في الفساد وأهلية الجمعيات، وهما نقطتان تستحقان تتبعاً دقيقاً عند النفاذ ابتداءً من 8 دجنبر 2025. السؤال الحاسم الذي سيجيب عنه التطبيق هو: هل ستتحول مبادئ النص إلى واقعٍ يوميٍّ يُشعِر المتقاضي أن العدالة أسرع، وأقرب، وأكثر إنصافاً؟ الإجابة تتوقف على ثلاثيةٍ لا غنى عنها: إرادةٌ تنظيمية واضحة، تكوينٌ مستمر للممارسين، وشفافيةٌ إحصائية تمكّن من قياس الأثر وتصحيح المسار.

وبهذا المعنى، لا يُختبر 03.23 ببلاغات الترحيب أو التوجس، بل بمحكّ الأرقام في آجال البتّ، ونِسَب الاعتقال الاحتياطي، وجودة التعليل، ونجاعة مكافحة الفساد. إن وفّى بهذه المؤشرات، فسيكون بالفعل منعطفاً نوعياً في العدالة الجنائية المغربية—وإلا بقي مجرّد وعدٍ تشريعي بانتظار التنفيذ.

 

مراجع مُعتمَدة

 

نشر القانون رقم 03.23 في الجريدة الرسمية عدد 7437 بتاريخ 8/9/2025 (ومن المُعلن أنه يدخل حيز النفاذ بعد 3 أشهر من النشر).

بيان/تصريحات وزارة العدل ووصف الإصلاح بـ“المحطة المفصلية”.

عرضٌ صحفي لأبرز المقتضيات والجدل بخصوص المادتين 3 و7.

آراء مؤسساتية: CESE وCNDH بخصوص مشروع القانون خلال مساره.

تغطيات إعلامية إضافية (بالإنجليزية/الفرنسية/العربية) رصدت تاريخ النشر وآجال النفاذ.

ملاحظة سريعة على الزمن:

اليوم هو 7 أكتوبر 2025 (منطقة الدار البيضاء). بناءً على قاعدة “ثلاثة أشهر بعد النشر”، فإن التطبيق يبدأ في 8 ديسمبر 2025—ما يستدعي من الممارسين التحضير العملي منذ الآن.

Leave a Comment

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


Comments Rules : من شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الإلهية، والابتعاد عن التحريض العنصري والشتائم.

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

We use cookies to personalize content and ads , to provide social media features and to analyze our traffic...التفاصيل

موافق