لقد تراوح مفهوم الحكامة بين جانب موضوعي جديد أو متجدد يسعى طرح قضايا معاصرة قد يكون لها ارتباط بتاريخية هذا المفهوم وتحول دلالته بين الأدبيات القديمة والجديدة. حيث ارتبط مفهوم الحكامةGouvernance) ( بالمنظمات الدولية الكبرى. وخاصة بالبنك الدولي الذي سيتبناه سنة 1989 في تقارير حول سبل وطرق تحقيق التنمية ومحاربة الفساد في دول إفريقيا والشرق الأوسط، وبعد ذلك سيتوالى تداول هذا المفهوم من قبل المؤسسات والفقهاء والدول والحكومات والباحثين وغيرهم( )
فهناك إجماع على صعوبة تحديد مفهوم الحكامة الجيدة نظرا للبعد التاريخي الذي قدم منه وكذلك لأنه ينتمي إلى حظيرة المصطلحات والمفاهيم ذات البنية والحمولة الاديولوجية، إضافة على ما تطرحه قضية ترجمته على المستوى اللغة العربية من إشكالات لهذا فسنقتصر على المفهوم التالي: “هي مجموع الآليات والوسائل والأسس والمبادئ التي تؤدي وتساعد على حسن تدبير وإدارة الشأن العالمي أو المحلي من خلال مؤسسات وهيئات وأفراد تربطهم علاقات متينة وأخلاقية تساعدهم على بلوغ الغايات التي يصبو إليها أفراد هذا المجتمع العالمي الدولي المحلي قصد تحقيق الأمن والأمان والرفاهية للجميع”( )
أما بالنسبة لمصطلح الأمن”Sécurité” فيعد من أكثر الاصطلاحات استعمالا ويعزى ذلك إلى كونه اصطلاح واسع، يستخدم في العديد من المواقف والمجالات، إبتداء من الإجراءات البسيطة بتأمين المواطنين داخل الدولة ضد الأخطار المحتملة التي تمس المواطنين أنفسهم في سلامتهم وحياتهم وحرياتهم وأموالهم، وإنتهاء بالإجراءات الخاصة بتأمين الدولة نفسها تلك الإجراءات والخطوات والتي يطلق عليها إصطلاح الأمن الوطني، ذلك الاصطلاح الذي يعني المفهوم الأشمل لمعنى الأمن، ويقصد به أمن الدولة داخليا وخارجيا محليا وإقليميا ودوليا ويرتبط هذا المفهوم بفلسفة النظام السياسي، وبمفهوم السيادة والمصلحة العليا للدولة.
واليوم أصبح سؤال معالجة الأمن مصدر قلق بالنسبة للدول والمجتمعات حيث يحتل مكانة محورية في الحياة الإدارية والسياسية ثم في الإعلام والرأي العام( ).
لهذا فلابد من وجود توازن بين احترام الحرية وضمان الأمن من أجل عيش المجتمع في سلام فجميع الحريات لا يمكن حجزها بشرط توفير الأمن، كذلك لا يمكن التضحية بالأمن لغرض الحفاظ على الحرية، إذن فهناك علاقة دياليكتيكية بين الأمن والحرية لأن الحق في الأمن لا يمكن تعريفه دون الرجوع إلى مبدأ حماية الحريات ، فالأمن ليس حقا مستقلا بحيث يمكن أن يتطور دون اعتبار لحقوق وحريات أخرى، وبالتالي من الضروري أن يكون توازن بين الأمن والحرية.
فالأمن هو حاجة إجتماعية ومشروع أساسي لكسب ثقة أي شعب والحق في الأمن هو شرط لا غنى عنه للحرية فلا يمكن أن نكون أحرارا إذا كنا غير أمنين( ).
إن الحديث عن الحكامة الأمنية يندرج ضمن أوراش الإصلاح المؤسساتي التي دشنها المغرب، وتشكل توصيات هيئة الإنصاف والمصالحة مدخلا أساسيا في هذا الباب لكونها تندرج ضمن سياق العدالة الانتقالية بالمغرب وإرتباطها مع مسلسل البناء الديمقراطي وتدعيم مرتكزات دولة الحق والقانون. ومن هذا المنطلق تعتبر الحكامة الأمنية مسؤولية مجتمعية وجزء لا يتجزأ من دمقرطة المجتمع لكون الأمن والإستقرار من شروط ممارسة الحريات والتمتع بالحقوق، وهكذا فيمكن أن نقتصر على تعريف الحكامة الأمنية بأنها: “إعمال مبادئ حقوق الإنسان داخل المنظومة الأمنية وفق سياسة عمومية أمنية، وإيجاد توازن بين الحقوق والحريات والأمن العام للدولة مع إخضاع القرارات الأمنية للرقابة التشريعية أي أن الحكامة الأمنية تتمثل في رفع التنافر بين مبدأي الحرية وحقوق الإنسان والمقاربة الأمنية وذلك بغية ترشيد القرار الأمني بالمغرب وإخضاعه للرقابة القبلية والبعدية للمؤسسة التشريعية”( ).
2- خصوصيات الحكامة الأمنية في التجربة المغرية
لعل أبرز ما أوصت به هيئة الإنصاف والمصالحة حول ترشيد الحكامة الأمنية ببلادنا المسؤولية الحكومية في مجال الأمن والمراقبة والتحقيق البرلماني في مجال الأمن( )، فاليوم وبدخول المغرب تجربة دستورية جديدة أصبح لزاما أجرأة هذه التوصيات للوصول إلى الحكامة الديمقراطية للأمن التي تستلزم إندماج الأمن في الحكامة الديمقراطية الإجمالية.وتعتبر المسؤولية الحكومية في مجال الأمن من أهم المبادئ الضابطة لترشيد الحكامة الأمنية، إنطلاقا من تفعيل أثار قاعدة الحكومة مسؤولة بشكل تضامني عن العمليات الأمنية وحفظ النظام العام وحماية الديمقراطية وحقوق الإنسان وإلزامها بإخبار الجمهور والبرلمان بأية أحداث إستوجبت تدخل القوة العمومية. وهذا أصبح ممكنا بعد تجاوز دستور 2011 للإشكاليات التي كان يطرحها دستور 1996 في فصله الستون، لكون الحكومة لم تكن فعليا وكليا مسؤولة عن تحديد السياسة العامة للدولة وقيادة تنفيذ هذه السياسة حيث نص الفصل 92 من الدستور الجديد على أن مجلس الحكومة يتداول تحت رئيس الحكومة في السياسات العامة للدولة، والسياسات العمومية، وبالتالي فإن أفضل موطن لصناعة ووضع السياسات الأمنية يبقى هو الحكومة. كما يجب على هذه الأخيرة التواصل وإخبار الرأي العام عن الأوضاع الأمنية لتراب المملكة( ). إلا أن القرار الأمني يبدو أنه خارج عن سلطات الحكومات التي تعاقبت منذ إنتهاء هيئة الإنصاف والمصالحة من تقريرها وحتى الحكومة الحالية فإصلاح القطاع الأمني غالبا ما ينظر له من مقاربة تقنية تقوم على توفير التجهيزات والعتاد والزيادة في نظام الطاقم البشري ويتم تجاهل المقاربة السياسية التي ترتكز على أن الأمن خدمة إجتماعية( ).
وفيما يخص المسؤولية الأمنية للمؤسسة التشريعية لابد و أن تتحقق من خلال تفعيل أداء ودور اللجان البرلمانية للتفاوض حول السياسات الأمنية ,وهذا ما تكرس مع مناقشة لجنة الخارجية والدفاع بمجلس النواب لميزانية الدفاع وهو معطى جديد باعتبار أن هذه الميزانية لم تكن يوما موضع نقاش داخل اللجنة, بالإضافة إلى أن دستور 2011 أناط بالبرلمان مهمة تقييم السياسات العمومية( ). أما توصية الهيئة حول تقوية لجان تقصي الحقائق البرلمانية بالخبرة الأمنية والقانونية مساعدة لها على إعداد تقارير موضوعية ودالة بعيدا عن الاعتبارات السياسية فتحتاج إلى التفعيل والأجرأة لما لها من أهمية موضوعية وسياسية قصد إعطاء مصداقية أكثر لتقارير اللجان النيابية لتقصي الحقائق ومساعدتها في بعض الأمور اللوجيستكية والتقنية التي قد لا تتوفر لدى النخب البرلمانية( ). ونشير في هذا الصدد أن هناك مشروع قانون تنظيمي متعلق باللجان النيابية لتقصي الحقائق يناقش حاليا بالبرلمان.
وكما سبقت الإشارة( )، فإن المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان كان قد عقد اتفاقية شراكة مع وزارة الداخلية، للقيام بتقديم برامج التدريس والتكوين على حقوق الإنسان في مؤسسات التكوين التابعة لوزارة الداخلية.
والجدير بالذر أن الدستور المغربي الجديد إرتقى بالمجلس الأعلى للأمن إلى موقع مؤسسة دستورية تشاورية بشأن الإستراتيجيات الأمنية للبلاد، الذي تنحصر مهمته الأساسية بالتشاور حول استراتيجيات الأمن الداخلي والخارجي للبلاد وتدبير حالات الأزمات، ثم السهر على مأسسة ضوابط الحكامة الأمنية الجيدة( ). وعلى مستوى القيادة منح المشرع الدستوري رئاسة المجلس الأعلى للأمن للملك باعتباره القائد العام للقوات المسلحة الملكية، كما منحه أن يفوض لرئيس الحكومة صلاحية رئاسة إجتماعات المجلس لكن قيد هذا التفويض بضرورة وضع جدول أعمال محدد. ومنح الدستور لأول مرة في تاريخ المغرب فرصة للمدنيين للمساهمة في تدبير الشأن الأمني بالمغرب من خلال وضع سياسات عمومية أمنية تتوخى ترسيخ مبادئ الحكامة الأمنية الجديدة ويضم المجلس في تركيبته:
– رئيس الحكومة.
– رئيس مجلس النواب ورئيس مجلس المستشارين.
– الرئيس المنتدب للمجلس الأعلى للسلطة القضائية.
– الوزراء المكلفين بالداخلية والخارجية والعدل ، إدارة الدفاع الوطني.
– المسؤولين الأمنيين عن الإدارات الأمنية والضباط السامين بالقوات المسلحة الملكية.
– شخصيات مدنية وعسكرية يعتبر حضورها مفيدا لأشغال المجلس( ).
إلا أنه لم يتم إدراج وزير الاقتصاد والمالية في لائحة الأعضاء الدائمين بالمجلس رغم أن وزارة المالية من أهم الوزارات التي يعتمد عليها تطبيق الخطط الأمنية التي سيضعها المجلس والتي يتطلب تنفيذها إعتمادات مالية لن تستطيع توفيرها إلا هذه الوزارة( ).
وفي هذا السياق، فالمجتمع المدني قد يساهم بطرق شتى في تفعيل الحكامة الأمنية الجيدة من منطلق الديمقراطية التشاركية, حيث يسجل للمجتمع المدني بالمغرب التأثير في السياسات العامة من أجل توفير الشروط القانونية لاحترام حقوق الإنسان, من خلال توفير المعلومات حول الانتهاكات والتجاوزات التي تطال هذه الحقوق وإثارة انتباه السلطات العمومية إلى هذا الواقع، سواء من خلال بيانات أو تقارير موازية، أو من خلال الحوارات المباشرة مع المؤسسات المسؤولة( ).
فقد أصبح اليوم بإمكان المجتمع المدني المساهمة في إعداد قرارات ومشاريع لدى المؤسسات المنتجة والسلطات العمومية( )، وكذلك الحق في تقديم اقتراح ملتمسات في مجال التشريع، وتقديم عرائض إلى السلطات العمومية( ). وبالتالي فيمكنه المشاركة في تدبير القضايا الأمنية.
وفي هذا الإطار سبق لمنظمة العفو الدولية أن حثت السلطات المغربية بإصلاح الأجهزة الأمنية وهيئات تنفيذ القانون حتى يكون بالإمكان ضمان تطابق سياساتها وممارساتها مع أحكام القانون والمعايير الدوليين، بما في ذلك مع “مدونة الأمم المتحدة لقواعد سلوك الموظفين المكلفين بإنفاذ القوانين” و”المبادئ الأساسية بشأن استخدام القوة والأسلحة النارية من جانب الموظفين المكلفين بإنفاذ القوانين”. وكمسألة تكتسي صفة الأولوية ينبغي تبني تعليمات واضحة بشأن استخدام القوة بما في ذلك استعمال الأسلحة النارية، ونشر هذه التعليمات على الملأ، كما ينبغي إقرار إجراءات واضحة لرفع التقارير والتحقيق في حالات الوفاة والإصابة الناجمة عن الاستخدام المفرط للقوة أو الأسلحة النارية من جانب الموظفين المكلفين بتنفيذ القانون( ).
ومن أجل مكافحة الإفلات من العقاب أكدت أنه ينبغي على السلطات المغربية إجراء تحقيقات وافية وغير متحيزة ومستقلة فيما يرد من تقارير عن استخدام الموظفين المكلفين بتنفيذ القانون القوة المفرطة أثناء مظاهرات الاحتجاج المناهضة للحكومة وغيرها من العمليات الأمنية, وتقديم مرتكبي إنتهاكات حقوق الإنسان إلى ساحة العدالة( ).
هذا إضافة إلى تأكيد ” الحبيب بلكوش” رئيس مركز دراسات حقوق الإنسان والديمقراطية. على أن إصلاح القطاع الأمني قضية مجتمعية ذات بعد سياسي تساءل كافة الهيئات والفعاليات، وترتبط في العمق بإرساء دولة القانون وتحقيق التنمية كما يستلزم تحقيق التراكم المعرفي والانخراط المتواصل والطويل النفس( ).
ومن خلال ما سبق يتضح أن التعديلات الدستورية الأخيرة تشكل أرضية ملائمة لتفعيل توصيات هيئة الإنصاف والمصالحة الخاصة بالحكامة الأمنية، مما يطرح رهانا وتحديا جديدا على مرفق الأمن للانخراط في صيرورة الإصلاح، وتنزيل بنود الدستور على أرض الواقع لترسيخ قواعد الحكامة الأمنية.
حول الحكامة الأمنية
عزيز الفاهم