امتدت الوثيقة الدستورية على مجموعة من المكتسبات النوعية التي تعزز التحولات الديمقراطية، خصوصا ما يتعلق ب؛ (الحضور المؤسساتي الوازن، الانتقالات المفاهيمية النوعية، المبادئ الدستورية التي تتأسس على فلسفة جديدة، الآليات الدستورية الضامنة لمختلف هذه المكتسبات…)، وتعتبر آلية الدفع بعدم دستورية القانون من بين أبرز هذه الآلية نظرا لحداثتها وكذا لفعاليتها.
لأول مرة تجد آلية الدفع بعدم دستورية القانون مكانا لها داخل الوثيقة الدستورية لعام 2011 في الباب الثامن الخاص بالمحكمة الدستورية، الذي يمتد من الفصل 129 إلى حدود الفصل 134، غير أن جميع هذه الفصول لم تستحضر في لغة مضمونها آلية الدفع بعدم دستورية القانون ماعدا الفصل 133، الذي نص على أنه؛ ” تختص المحكمة الدستورية بالنظر في كل دفع متعلق بعدم دستورية قانون، أثير أثناء النظر في قضية، وذلك إذا دفع أحد الأطراف بأن القانون، الذي سيطبق في النزاع، يمس بالحقوق وبالحريات التي يضمنها الدستور. يحدد قانون تنظيمي شروط وإجراءات تطبيق هذا الفصل”.
رغم أن هذه الآلية استحضرت في فصل واحد من خلال دستور 2011، غير أن المهم في الأمر هو ارتباطها بحماية الحقوق والحريات الأساسية كآلية تمنع أي مس بهما ، وهذا ماجاء به الفصل 133 بلغة واضحة لاتقبل أي تأويل. وتؤكد المادة الأولى من مشروع القانون التنظيمي 86.15 على هذه الارتباط الوثيق بين آلية الدفع وحماية الحقوق والحريات الأساسية من خلال نصها على أنه؛ ”تطبيقا لأحكام الفقرة الثانية من الفصل 133 من الدستور، يحدد هذا القانون التنظيمي شروط و إجراءات الدفع بعدم دستورية قانون ساري المفعول، يراد تطبيقه بشأن دعوى معروضة على المحكمة، يدفع أحد أطرافها أنه يمس بحق من الحقوق أو حرية من الحريات التي يضمنها الدستور”.
إذن يتضح أن الغاية من دسترة هذه الآلية هو حمايتها للحقوق والحريات الأساسية كما هو معمول بها في مختلف الدول الرائدة في العدالة الدستورية، غير أن النقطة التي يجب الوقوف عليها هو أن هذه الآلية جزء من المحكمة الدستورية وبالتالي التساؤلات التي نريد طرحها من خلال هذا الموضوع لها ارتباط بالعلاقة بين الآلية الدستورية (الفصل 133) والمؤسسة الدستورية (الباب الثامن) التي تتمحور حول؛ الفصل 129 الذي يعد افتتاحيا للباب الثامن، بحيث نجد أن عدد الكلمات في هذا الفصل لا تتجاوز الثلاث ” تُحدث محكمة دستورية”، وبالتالي هل كان من الأفضل أن ترفق هذه الكلمات بأهمية المؤسسة أو دورها في تحصين المكتسبات الدستورية بصيغة ” تُحدث محكمة دستورية لحماية الحقوق والحريات الأساسية” أو ” تُحدث محكمة دستورية لضمان تفعيل واستمرارية المكتسبات الدستورية”، إلى غير ذلك من الصياغ التجويدية والمعبرة عن قيمة ومكانة هذه المؤسسة؟
تمتد هذه التساؤلات المحورية إلى الفصل 132 كذلك بحيث نجد أن الفقرة الأولى من هذا الفصل تنص على أنه؛ ” تمارس المحكمة الدستورية الاختصاصات المسندة إليها بفصول الدستور، وبأحكام القوانين التنظيمية، وتبت بالإضافة إلى ذلك في صحة انتخاب أعضاء البرلمان وعمليات الاستفتاء”، نجد داخل هذه الفقرة (واو العطف) والمعطوف عليه هنا هو؛ صحة انتخاب أعضاء البرلمان وعمليات الاستفتاء، إذن التساؤل المطروح؛ لماذا لم يتم العطف هنا على حماية الحقوق والحريات الأساسية، وتم ربط هذه العطف بجزء من هذه الحقوق والحريات الأساسية الذي له علاقة بما هو سياسي وفقط؟
نعلم أن مجموعة من القوانين تنظم الحقوق والحريات الأساسية غير أن القوانين التنظيمية فقط التي تحال بشكل إلزامي على المحكمة الدستورية، غير أن القوانين العادية لا يمكن إحالتها إلا من خلال الشرط الدستوري الموضوع في الفقرة الثالثة من الفصل 132 والمتمثل في أنه؛ ”يمكن للملك، وكذا لكل من رئيس الحكومة، أو رئيس مجلس النواب، أو رئيس مجلس المستشارين، أو خُمس أعضاء مجلس النواب، أو أربعين عضوا من أعضاء مجلس المستشارين، أن يحيلوا القوانين، قبل إصدار الأمر بتنفيذها، إلى المحكمة الدستورية، لتبت في مطابقتها للدستور”. هل كان بالإمكان أن تحال القوانين بشكل إلزامي على المحكمة الدستورية شأنها شأن القوانين التنظيمية؟ والأنظمة الداخلية لكل من مجلس النواب ومجلس المستشارين بدون شرط ولاقيد؟
تنص الفقرة الرابعة من الفصل 132 على أنه؛ ” تبت المحكمة الدستورية في الحالات المنصوص عليها في الفقرتين الثانية والثالثة من هذا الفصل، داخل أجل شهر من تاريخ الإحالة. غير أن هذا الأجل يُخفض في حالة الاستعجال إلى ثمانية أيام، بطلب من الحكومة”. لماذا ارتبط شرط الاستعجال بطلب من الحكومة وليس بإرادة المحكمة الدستورية؟
إن هذه الأسئلة لها علاقة بقيمة آلية الدفع بعدم دستورية القانون وحماية الحقوق والحريات الأساسية التي لايمكن أن تتم بذلك الفهم الكلي إلا بإشراك المحكمة الدستورية في تبني غاية الآلية بشكل شمولي. لقد امتدت هذه التساؤلات على مشروع القانون التنظيمية 86.15 المتعلق بتحديد شروط وإجراءات تطبيق الفصل 133 من الدستور، بحيث نجد أن الفقرة الثانية في المادة 9 من مشروع هذا القانون التنظيمي تنص على أنه؛ ” لا يجوز إحالة الدفع بعدم دستورية قانون إلى المحكمة الدستورية إذا تم التنازل عن الدعوى التي أثير بمناسبتها الدفع المذكور”. لماذا تم ربط آلية الدفع هنا بأطراف الدعوى وليس بالنظام العام؟ هل كان من الأفضل أن تستمر آلية الدفع رغم تنازل الأطراف عن الدعوى لأن المس بالحقوق والحريات الأساسية هي مسألة مجتمعية وليست شخصية؟
تنص كذلك المادة 23 من مشروع القانون التنظيمي 86.15 على أنه؛ ” تلتزم مختلف محاكم المملكة وكذا جميع السلطات العامة وجميع الجهات الإدارية بالتفسير الذي تعطيه المحكمة الدستورية للقانون موضوع الدفع، والذي قررت هذه الأخيرة مطابقته للدستور تحت شرط هذا التفسير” هل كان من الأجدر هنا توظيف مصطلح القرار وليس التفسير لتكون الصياغة على النحو الأتي؛ ”تلتزم مختلف محاكم المملكة وكذا جميع السلطات العامة وجميع الجهات الإدارية بالقرار الذي تعطيه المحكمة الدستورية…”، فلغويا لا يمكن الجمع بين الالتزام والتفسير، لأن التفسير يقبل تفسيرا أخر أما القرار فهو يستوجب فعليا الالتزام به إلى حدود تعديله أو تغييره؟
إن استحضارنا لهذه التساؤلات تأتي في ضوء تأثير الفضاء العام في صياغة وإعداد القوانين، وبالتالي لابد من متابعة مرحلة إعادة القراءة لمشروع القانون التنظيمي 86.15، خصوصا المواد التي بثت المحكمة الدستورية في عدم دستوريتها، لمحاولة تكريس الديمقراطية التشاركية ولو بشكل غير مباشر في فلسفة إعداد وصياغة القوانين.