المعارضة البرلمانية بين الخلفية السياسية والمقاربة الدستورية

المعارضة البرلمانية بين الخلفية السياسية والمقاربة الدستورية

عالـم القانون29 سبتمبر 2021
المعارضة البرلمانية بين الخلفية السياسية والمقاربة الدستورية
صالح أزحاف

ارتبط التقييم الكلاسيكي للعمل البرلماني في مختلف التجارب السابقة لمرحلة التحول الديمقراطي بمخرجات الأغلبية فيه،  لكن النضج المؤسساتي –إن صح التعبير- أفرز مرحلة جديدة تقوم على مساهمة الكل ومحاسبة الكل؛ بمعنى أغلبية ومعارضة…

صحيح أن المنطق التقليدي الذي كان يؤطر العلاقة بين الأغلبية والمعارضة ارتبط بثنائية؛ الحكومة تعاقب وتهمش، والمعارضة تفضح وتعرقل، بآليات يغلب عليها طابع العنف اللفظي والجسدي، ممارسة كانت تستقي من الواقع السياسي آنذاك مصدرا لها.

 لكن هل هذا بالفعل ما نسعى له كمجتمعات تبحث عن التوازنات السياسية، عن التدبير المشترك، عن الحكامة المؤسساتية، عن الالتقائية والتعاون؟

في كرونولوجيا الأحداث؛ هناك تعامل طبيعي ومقبول حول قراءة المتغيرات السياسية والقانونية عبر محطات تاريخية، كما هو الشأن في دراسة التطور السلوكي للمعارضة السياسية من مختلف التجارب المقارنة، لهذا نجد أن المعارضة السياسية انتقلت عبر موجات من معارضة تستند على ثقافة راديكالية اعتمدت وسائل أكثر حدة في تفكيك النظام السياسي الحاكم، إلى معارضة سياسية بآليات تستند على الحوار و ثوابت النظام العام، غير أن المعارضة كانت جزء منفصلا وغريبا عن الأغلبية الحاكمة رغم الفضاء المؤسساتي المشترك الذي كان يجمع بينهما، ثم بعدها انتقلت المعارضة السياسية إلى اعتماد فلسفة ومبادئ جديدة تقوم على المساهمة والمشاركة في البناء الحكومي.

إذا كانت المعارضة البرلمانية في السابق تقاس من قوة خطابها السياسي وتجدره، فقد أصبح اليوم ينظر إليها من زاوية السلوك العقلاني من داخل البرلمان، كما أن نوعيتها ومكانتها أصبحت تقاس من تقديمها للبدائل والإجابات السياسية، متجاوزة بذلك السلوك التقليدي المرتكز على الفضح والسعي إلى البحث عن الهفوات السياسية.

إذن في إطار انتشار الفكر الديمقراطي والثقافة التشاركية، لا يمكن أن نتحدث إلا عن معارضة برلمانية مساهمة تقطع مع التخندق من داخل موقع هندسي لقبة البرلمان. معارضة لا تتأسس على ايديولوجية حزبها، ولا على حصيلة الانتخابات (الرقم)، بقدر ما تتأسس على المسؤولية السياسية المشتركة في تدبير وإنجاح المسار التنموي المنتظر، وبالتالي وجود معارضة سياسية ذات قيمة إضافية تساهم داخل البرلمان بإستراتيجية تجمع بين النقد البناء وتقديم اجابات وبدائل، انتصارا بذلك للديمقراطية وتكريسا للحكامة السياسية.

لقد استشعر الدستور المغربي كل هذا، من خلال إعطاء مكانة مهمة للمعارضة من داخل البرلمان، فبقراءة لفصول الدستور سيتضح لنا أن تسمية المعارضة باليسارية أو الاسلامية أو إلى غير ذلك من التسميات النمطية، لا يمكن توظيفها في ضوء التحول الدستوري، ونتحفظ هنا حتى على مصطلح ”المعارضة”، فرغم دستوريته إلا أنه لا ينسجم مع الاختصاصات الجديدة التي أصبح يحظى بها هذا الجهاز الدستوري داخل البرلمان.

إن النقاش الذي كان قبل دستور 2011 حول سؤال العقلنة البرلمانية وتجويد العمل البرلماني، دفع باعتماد اصلاحات دستورية أخذت هذا المعطى بحس دستوري عال، أخضعت البرلمان من خلاله للمأسسة المتقدمة، خصوصا ما يتعلق باعتماد اختصاصات لها بعد تقني أكثر من ماهو سياسي بالنسبة للمعارضة، التي حولتها من أقلية سياسية إلى جهاز دستوري قائم من داخل البرلمان.

ويظهر لنا هذا التحول من خلال مجموعة من الحقوق الدستورية المكفولة للمعارضة البرلمانية، خصوصا ما تم تحديده بشكل واضح في الفصل العاشر من الدستور؛ بحيث ضمن للمعارضة البرلمانية مكانة تخولها حقوقا، من شأنها تمكينها من النهوض بمهامها، على الوجه الأكمل في العمل البرلماني والحياة السياسية، خصوصا ما يتعلق بحرية الرأي والتعبير والاجتماع، كما أعطى لها حيزا زمنيا في وسائل الإعلام العمومية يتناسب مع تمثيليتها، بالإضافة إلى الاستفادة من التمويل العمومي وفق مقتضيات القانون.

و من بين الاختصاصات المهمة التي تؤكد هذا التحول النوعي للمعارضة من داخل البرلمان هي المشاركة الفعلية في مسطرة التشريع، لا سيما عن طريق تسجيل مقترحات قوانين بجدول أعمال مجلسي البرلمان، ونسجل هذه المشاركة الفعلية كذلك في مراقبة العمل الحكومي، خصوصا عن طريق ملتمس الرقابة، ومساءلة الحكومة، والأسئلة الشفوية الموجهة للحكومة، واللجان النيابية لتقصي الحقائق، بالإضافة إلى المساهمة في اقتراح المترشحين وفي انتخاب أعضاء المحكمة الدستورية.

كما أن للمعارضة البرلمانية تمثيلية ملائمة في الأنشطة الداخلية لمجلسي البرلمان، وأعطى لها الدستور أيضا الحق في رئاسة اللجنة المكلفة بالتشريع بمجلس النواب، بالإضافة إلى التوفر على وسائل ملائمة للنهوض بمهامها المؤسساتية، والمساهمة الفاعلة في الدبلوماسية البرلمانية، للدفاع عن القضايا العادلة للوطن ومصالحه الحيوية، والمساهمة أيضا في تأطير وتمثيل المواطنات والمواطنين، من خلال الأحزاب المكونة لها، طبقا لأحكام الفصل 7 من هذا الدستور.

بالإضافة إلى ذلك هناك مجموعة من الامتيازات التي منحت دستوريا للمعارضة البرلمانية خصوصا ما يتعلق بالتخفيض من النصاب القانوني للتوقيع على ملتمس الرقابة، و امتد هذا التخفيض أيضا إلى إحالة القوانين المخالفة للدستور على المحكمة الدستورية، وهذا ما يعطي للمعارضة الحق في التصدي لأي قانون لا ينسجم مع المقتضيات الدستورية.

مع الإشارة إلى أن الدستور  لم يبق في حدود منح اختصاصات للمعارضة البرلمانية بل عمل أيضا على توجيه المعارضة نحو الاستثمار المعقلن لاختصاصاتها، من خلال نصه على أنه؛  ”يجب على فرق المعارضة المساهمة في العمل البرلماني بكيفية فعالة وبناءة”. بمعنى أن المشرع في هذه اللحظة كان واعيا بأن مسألة الدسترة غير كافية للقطع مع الاختلالات البنيوية في العمل البرلماني، بل لابد من امتلاك ثقافة دستورية تعبر بالأساس عن النضج والوعي السياسي الذي يؤهل المعارضة عمليا للقيام بوظائفها كجهاز دستوري وليس كحزب سياسي.

بالفعل لقد مر عقد من الزمن على دستور 2011، غير أنه عمليا لم نلمس ذلك الفعل الدستوري للمعارضة البرلمانية، قد يكون ذلك راجع لحداثة الوثيقة الدستورية وهو أمر عاد، وقد يكون بسبب تأثيرات المجتمع السياسي على المعارضة، الذي اكتسب ثقافة سياسية تستند على عرف يستلزم فعل “البلوكاج” والنقد الغير المؤسس للحكومة من أجل كسب رضاها، وهو ما يعني ضرورة التنزيل الفعلي للفصل الدستوري الذي يحث الأحزاب على الارتباط بالمجتمع ودورها التأطيري، لأن الوثيقة الدستورية تعبر عن ثقافة يجب أن يمتلكها الكل.

المصدر أستاذ جامعي
اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق : من شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الإلهية، والابتعاد عن التحريض العنصري والشتائم.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

نستخدم ملفات الكوكيز لنسهل عليك استخدام موقعنا الإلكتروني ونكيف المحتوى والإعلانات وفقا لمتطلباتك واحتياجاتك الخاصة، لتوفير ميزات وسائل التواصل الاجتماعية ولتحليل حركة الزيارات لدينا...التفاصيل

موافق