إعتبر كثير من المهتمين واغلبية رجال القانون أن محاكمة أحد الوزراء من طرف المجلس الأعلى حدث بارز على الساحة القانونية المغربية، ليس فقط لكونه لأول مرة يحاكم وزير امام المجلس الأعلى في المغرب، ولكن نظرا للملابسات التي حفت هذه المحاكمة.
وفي اوساط مهتمة أخرى اعتبرت محاكمة احد الوزراء من طرف المجلس الأعلى منعقدا بجميع غرفه، وعدم تمكن دفاع المشتكى من تقديم مطالبه وشرح وجهة نظر موكله بنفس الطريقة التي قام بها دفاع المتهم، نقول اعتبرت أن هذه المحاكمة تحمل في طياتها بعض المتناقضات التي لا يستطيع غير رجل القانون فهمها.
وقد ارتايت ان ابحث موضوع الامتياز القضائي، بشكل موجز في انتظار قیام احد رجال القانون باصدار مؤلف كامل في هذا الموضوع، فما هو اذن الامتياز القضائي؟
يقصد بالامتياز القضائي منح طائفة من موظفي الدولة مسطرة خاصة في المتابعة والمحاكمة عند ارتكابهم لجناية أو جنحة أثناء مزاولة وظيفتهم، وقد عبر قانون المسطرة الجنائية المغربي عن هذا الامتياز بمصطلح الاختصاص الاستثنائي، أو قواعد الاختصاص الاستثنائية.
وللامتياز القضائي طرق :
الطريق الأول : المحكمة العليا :
نص الدستور المغربي الحالي في الفصل السادس والثمانين نص على ما يلي «اعضاء الحكومة مسؤولون جنائيا عما يرتكبون من جنایات وجنح اثناء ممارستهم لمهامهم».
وقد كان الدستور المغربي الأول الصادر سنة 1962 يسمي هذه المحكمة :
المحكمة العليا للعدل.
وهكذا نص دستور 1962 في فصوله من 88 الى 92 على إحداث محكمة عليا للعدل تختص بمحاكمة اعضاء الحكومة جنائيا عما يرتكبونه من جنايات وجنح اثناء ممارستهم لمهامهم.
كما نص على ان اعضاء هذه المحكمة ينتخبهم البرلمان (المجلسان انذاك) من بين اعضائه.
كما نص على أن رئيس المحكمة العليا للعدل يعين بمرسوم ملكي.
واخيرا نص على أن عدد اعضاء المحكمة العليا للعدل وكيفية تعيينهم، والمسطرة المتبعة في ذلك ستنظم بمقتضى قانون تنظيمي.
ويلاحظ أن دستور 1970 عبر عن هذه المؤسسة بالمحكمة العليا فقط، دون اضافة كلمة العدل الواردة في دستور 1962، وانه جعل انتخاب اعضاء المحكمة العليا بالاقتراع السري وباغلبية ثلثي أعضاء مجلس النواب بعد أن لم يعد هناك إلا مجلس واحد، كما جعل تعيين الرئيس يتم بمقتضى ظهير شريف.
وعند صدور دستور 1972 استقر الأمر على تسمية هذه المؤسسة بالمحكمة العليا وعلى جميع المقتضيات الاخرى دون تغيير، وهي نفس المقتضيات التي ظلت قائمة عند صدور دستور 1992 المعدل.
وقد صدرت القوانين التنظيمية المذكورة أثر كل دستور، وهكذا صدر بتاريخ 1963/11/9 ظهير شريف بمثابة قانون تنظيمي للمحكمة العليا للعدل، ثم صدر بتاريخ 70/10/1 ظهير شريف بمثابة قانون تنظيمي للمحكمة العليا للعدل ثم صدر بتاريخ 1977/10/8 ظهير شريف بمثابة قانون تنظيمي للمحكمة العليا للعدل وهو المعمول به حاليا.
وتنص هذه الظهائر مع بعض الاختلافات على أن المحكمة العليا تتكون من رئيس وقضاة ينتخبهم مجلس النواب وتستعين بلجنة للتحقيق ونيابة عامة.
أما عدد القضاة فهم ستة بالإضافة الى الرئيس ويضاف اليهم ثلاثة قضاة مساعدون أما لجنة التحقيق فتتكون من ثلاثة قضاة للمحكمة بالمجلس الأعلى ومن اربعة اعضاء رسميين ينتخبهم مجلس النواب وتضم ثلاثة قضاة مساعدين هم قاضي للمحكمة بالمجلس الأعلى وقاضیان مساعدان ينتخبهما مجلس النواب، على أن يعين رئيسا للجنة التحقيق احد قضاة الحكم بالمجلس الأعلى.
وقد كانت النيابة العامة ممثلة بواسطة قاض من النيابة العامة بمشاركة عضوين ينتخبان من مجلس النواب، وذلك وفق احكام ظهير 1970/10/1 واصبحت حاليا ممثلة بواسطة الوكيل العام لجلالة الملك لدى المجلس الأعلى بمساعدة المحامي العام الأول وعضوين ينتخبهما مجلس النواب.
وينتخب مجلس النواب في الشهر الموالي المستهل مدة كل نيابة، ستة قضاة رسميين للمحكمة وثلاثة قضاة مساعدين واربعة قضاة رئيسيين للجنة التحقيق وعضوين مساعدين وعضوين رسميين يشاركان في مهام النيابة العامة وعضو مساعد، وذلك بالاقتراع السري وبالأغلبية المطلقة للأعضاء الذين يتألف منهم مجلس النواب.
ومن خصوصيات هذه المحكمة، أنها لا تقبل المطالبة بالحق المدني لا أمام لجنة التحقيق ولا أمام المحكمة العليا، وأن احكامها لا تقبل الاستیناف ولا الطعن بالنقض وان الشركاء في الاتهام من غير اعضاء الحكومة يفصل ملفهم ويحال على المحاكم العادية أما بقية الاجراءات وطرق المحاكمة والمداولة فهي عادية باستثناء وجوب بت المحكمة بعد المداولة في مسؤولية المتهم بالتصويت الانفرادي حول كل تهمة على حدة وباوراق سرية وبالأغلبية المطلقة.
وبعد صدور الدستور المراجع والمصادق عليه في استفتاء 13-9-1996 والمحدث للنظام البرلماني بالغرفتين تم التنصيص في بابه الثامن على المحكمة العليا وعلى تأليفها من أعضاء ينتخب نصفهم من بين أعضاء مجلس النواب ونصف الاخر من بين أعضاء مجلس المستشارين ويعين رئيسها بظهير شريف، على أن يصدر قانون تنظيمي يحدد عدد أعضاء هذه المحكمة وكيفية ومسطرة انتخابهم.
وتجدر الاشارة الى أن توجيه الاتهام الى اعضاء الحكومة يجب أن يكون موقعا على الأقل من ربع اعضاء المجلس الذي يقدم اليه أولا، ويناقشه المجلسان بالتتابع ويوافق عليه بأغلبية ثلثي الأعضاء الذين يتألف منهم كل مجلس باستثناء الاعضاء الذين يعهد اليهم بالمشاركة في المتابعة أو التحقيق أو الحكم.
ويلاحظ أن البعض يرى أن على هذه المحكمة أن تبث في الجرائم التي يرتكبها أعضاء الحكومة ولو لم تتعلق بمهامهم، في حين يرى البعض الأخر وجوب البت فقط في الجرائم المرتكبة بمناسبة مزاولة المهام لا تلك التي لا علاقة لها بالمهام ارتكازا على نص الدستور نفسه.
الطريق الثاني : المجلس الأعلى
نظمت قواعد اختصاص المجلس الأعلى في البت في قضايا الامتياز القضائي فصول الباب الثاني من الكتاب الثاني لقانون المسطرة الجنائية وبالضبط الفصول 267 وما بعده …
وهكذا تختص الغرفة الجنائية بالمجلس الأعلى باصدار الأمر بالمتابعة أو بالاحالة على المجلس الأعلى، كل ما تعلق الأمر بمستشار ملكي او عضو من أعضاء الحكومة، أو قاض بالمجلس الأعلى أو عامل اقليم أو رئيس اول لمحكمة استئناف أو وكيل عام بها أو ضابط للشرطة القضائية يباشر وظيفته في مجموع تراب المملكة المغربية ( الفصل 267 والفقرة الثامنة من الفصل 270 من ق.م.ج.)
ويمكن للغرفة الجنائية بناء على ملتمسات الوكيل العام بالمجلس الأعلى تعيين عضو أو أكثر لاجراء التحقيق، ولها أن تصدر امرا قضائيا بعدم المتابعة او بالإحالة على المجلس الأعلى.
وفي حالة صدور الأمر بالاحالة فإن المجلس الأعلى يجتمع بكامل غرفه للبت في القضية ولا يمكن تقديم أية مطالبة بالحق المدني امام المجلس الأعلى.
وهكذا يزول الاستغراب الذي اشرنا اليه في البداية، فالمجلس الأعلى بجميع غرفه هو الذي يبت في حالة متابعة وزير أو أي شخص من المشار اليهم سابقا ولا تمكن المطالبة بالحق المدني امامه.
وهكذا فالمشتكي هنا مجرد شاهد لا صفة له في تناول الكلمة كمطالب بالحق ومن ثم فلا حق له في تنصيب محام ولا حق لهذا الأخير في التكلم أو توجيه الأسئلة أو المشاركة في المناقشة أو تقديم أي مطالب أو شرح وجهة نظره، لأن الأمر يتعلق بمجرد شاهد في القضية لم يرق الى درجة الطرف القانوني الذي هو المطالب بالحق المدني.
وقد تحصل هذه الواقعة ايضا في القضايا العادية عندما لا يقدم المشتكى امام القضاء العادي على اتخاذ الاجراءات الكفيلة باعتباره مطالبا بالحق وفق احكام الفصل 333 من ق.م.ج وما بعده، فيعتبر شاهدا لا حق له في تنصيب محام وليس لهذا الأخير الحق في اخذ الكلمة، وتظهر هذه الصورة في كثير من الأحيان، عند صدور الحكم الابتدائي بالبراءة، فلا يحق للمشتكي استینافه ولا يحق له بسط وجهة نظره امام محكمة الاستيناف.
وقاعدة عدم قبول تقديم المطالب المدنية امام المجلس الأعلى لا تعني انتفاء حق المشتكي في تقديم طلباته امام المحاكم المدنية العادية المختصة اختصاصا مكانيا ونوعيا، فهذا الحق قد يصبح مضمونا في حالة صدور قرار بالادانة يكون هو السبب الأساسي في رفع دعوى التعويض.
الطريق الثالث : محاكم الاستئناف
تبث محاكم الاستيناف في نطاق الامتياز القضائي كلما كان الفعل منسوبا الى قاض بمحاكم الاستئناف او المحاكم الابتدائية أو الى باشا أو قائد ممتاز، او قائد او ضابط للشرطة القضائية أو خليفة للباشا أو خليفة للقائد وذلك سواء تعلق الأمر بعمل أثناء ممارسة الوظيفة او خارجها.
وتختلف طرق المتابعة بينما اذا كان الفاعل قاضيا بمحكمة الاستئناف حيث يرفع الأمر الى الغرفة الجنائية بالمجلس الأعلى من طرف السيد الوكيل العام، وعلى هذه الأخيرة أن تعين محكمة استيناف غير تلك التي يباشر فيها المتابع مهامه.
وإذا كان الفعل منسوبا الى قاض بالمحاكم الابتدائية او الى باشا أو قائد أو قائد ممتاز أو خلفائهم، فإن السيد الوكيل العام بالدائرة التي وقعت فيها المتابعة يرفع الأمر الى السيد الرئيس الأول لمحكمة الاستيناف الذي يعين في حالة ظهور بوادر تستوجب البت مستشارا من خارج الدائرة التي يباشر فيها المتابع عمله، على ان تحال القضية دائما على محكمة استيناف خارج هذه الدائرة كذلك.
وتمتاز هذه الطريقة بامرين أساسيين او لهما انه في حالة المتابعة بجنحة، فان الاحالة تتم على محكمة الاستئناف لا على المحكمة الابتدائية المختصة طبقا للقواعد العادية وثانيهما أنه يمكن المطالبة بالحق المدني امام هيئة الحكم. (الفصول 268 و269 و270).
وإذا كانت قواعد الامتياز القضائي قد أثارت ولا زالت تثير نقاشا حول جدواها القانوني فإنه من اللازم إعادة النظر في كثير من النصوص المنظمة لها وذلك في ظل المراجعة الشاملة لنصوص قانون المسطرة الجنائية.