كانت جائحة كوفيد-19 بمثابة اختبار كبير لأنظمة الصحة العالمية، حيث كشفت عن ثغرات جوهرية في كيفية التعامل مع الأزمات الصحية على مستوى دولي. وقد أثرت الجائحة ليس فقط على الصحة العامة، بل أيضًا على الاقتصاد العالمي وسلاسل التوريد الدولية، مما أدى إلى انكشاف أوجه القصور في الإطار القانوني الحالي للصحة العالمية، بما في ذلك اللوائح الصحية الدولية (IHR) التي اعتمدتها منظمة الصحة العالمية.
جاءت استجابة المجتمع الدولي لهذه الأزمة في شكل مبادرات إصلاحية متعددة، قادتها بشكل أساسي منظمة الصحة العالمية (WHO) والدول الأعضاء. انطلقت هذه الجهود في نوفمبر 2021 ومايو 2022، حيث تم التركيز على إصلاح اللوائح الصحية الدولية (IHR) واعتماد اتفاقية جديدة للتعامل مع الأوبئة. كان الهدف من هذه الإصلاحات تعزيز القدرة على الوقاية من الأوبئة، وتحسين مستوى الاستعداد والاستجابة لها، مع ضمان تحقيق العدالة والتضامن بين الدول.
خلفية الإصلاحات
تُعتبر اللوائح الصحية الدولية (IHR) أداة قانونية ملزمة للدول الأعضاء في منظمة الصحة العالمية، تهدف إلى منع ومكافحة انتشار الأمراض على المستوى الدولي. تم تبنيها لأول مرة في عام 1951 وتم تحديثها في عام 2005 بعد أزمة متلازمة الالتهاب التنفسي الحاد (سارس). ومع ذلك، برزت خلال جائحة كوفيد-19 عدة تحديات أظهرت قصور اللوائح في التصدي الفعال للأزمات الصحية الكبرى، مثل عدم كفاية تبادل المعلومات بين الدول وغياب آليات تعاونية لتوزيع المنتجات الصحية بشكل عادل.
أوجه القصور الرئيسية التي كشفت عنها الجائحة:
• عدم الامتثال للالتزامات الدولية: في المراحل المبكرة من الجائحة، لم تتمكن العديد من الدول من الالتزام بالمتطلبات المتعلقة بالإبلاغ الفوري عن انتشار الفيروس وتبادل المعلومات الصحية الحيوية.
• قيود غير متناسبة على السفر والتجارة: فرضت العديد من الدول قيودًا صارمة على السفر الدولي والتجارة، والتي كانت في كثير من الأحيان غير مبررة من الناحية الصحية وأدت إلى تعطيل الاقتصاد العالمي.
• احتكار المنتجات الصحية: احتكرت الدول الغنية اللقاحات والمعدات الطبية الأساسية، مما أدى إلى تفاقم الفجوة الصحية بين الدول المتقدمة والنامية.
الإصلاحات المقترحة والمفاوضات المعقدة
تعديل اللوائح الصحية الدولية (IHR): بعد أن شهد العالم هذه التحديات، قررت الدول الأعضاء في منظمة الصحة العالمية البدء في عملية إصلاح اللوائح الصحية الدولية في عام 2022. ركزت هذه الإصلاحات على إدخال تعديلات تقنية مستهدفة لتعزيز إطار القانون الحالي.
كان الهدف منها هو تحسين الاستجابة الدولية للأزمات الصحية المستقبلية، مع إضفاء مزيد من العدالة على آليات الوصول إلى الموارد الصحية.
في يونيو 2024، وافقت جمعية الصحة العالمية بالإجماع على عدة تعديلات مهمة تشمل:
1. إدخال مفهوم “حالة الطوارئ الوبائية”: يتيح هذا المفهوم الجديد لمنظمة الصحة العالمية إعلان حالة طوارئ خاصة تتطلب استجابة دولية منسقة. هذه الحالة تتيح اتخاذ إجراءات سريعة وعادلة لمواجهة الأوبئة المتفشية.
2. إنشاء “سلطة وطنية للوائح الصحية الدولية”: يجب على كل دولة عضو تعيين هيئة خاصة لتنفيذ اللوائح الصحية الدولية وضمان التنسيق الفعال بين الجهات المعنية.
3. تيسير الوصول العادل إلى المنتجات الصحية: تم تعديل اللوائح لتعزيز التزام الدول الأعضاء بتوفير المنتجات الصحية بشكل عادل أثناء حالات الطوارئ الوبائية، مع دور نشط لمنظمة الصحة العالمية في تسهيل هذا التوزيع.
4. التزامات التعاون والمساعدة الدولية: شملت التعديلات تعزيز التزامات الدول المتقدمة بدعم الدول النامية من خلال التمويل والمساعدة الفنية، مع إنشاء آلية مالية لتنسيق الموارد المطلوبة.
مفاوضات اتفاقية الجائحة: في المقابل، كانت مفاوضات اتفاقية الجائحة أكثر تعقيدًا وطموحًا من الناحية السياسية والتشغيلية.
استمرت هذه المفاوضات لمدة عامين، وواجهت تحديات عديدة بسبب الانقسام بين الدول المتقدمة والنامية. ركزت الدول المتقدمة على قضايا “الأمن الصحي” والحد من مخاطر الأوبئة المستقبلية، في حين أولت الدول النامية الأولوية لمخاوف “العدالة الصحية”، بما في ذلك الوصول المتساوي إلى المنتجات الصحية والتمويل العادل.
أبرز القضايا التي تناولتها المفاوضات:
• الوصول العادل إلى المنتجات الصحية: تتضمن الاتفاقية أحكامًا ملزمة لضمان توفير اللقاحات والأدوية في حالات الطوارئ الصحية بطريقة عادلة ومتساوية بين الدول.
• نقل التكنولوجيا والإنتاج المحلي: تم التركيز على الحاجة إلى تعزيز القدرة الإنتاجية المحلية للدول النامية لضمان توافر المنتجات الصحية بشكل دائم ومستدام.
• التمويل: تضمنت الاتفاقية مقترحات لتعزيز التمويل الدولي لمكافحة الأوبئة، وضمان توفير موارد مالية كافية للاستجابة للأزمات الصحية.
التحديات والنتائج
بحلول مايو 2024، لم يتم التوصل إلى اتفاق نهائي بشأن اتفاقية الجائحة، وتم تمديد فترة المفاوضات لمدة عام إضافي. يعود ذلك بشكل أساسي إلى الطبيعة المعقدة للقضايا المطروحة والتباين الواضح بين مصالح الدول المتقدمة والنامية.
فعلى الرغم من وجود توافق حول الحاجة إلى إصلاحات، فإن تنفيذ هذه الإصلاحات يواجه عقبات سياسية وإدارية.
التحديات الرئيسية في مفاوضات اتفاقية الجائحة:
1. الاختلافات السياسية: كانت المواقف الصارمة للدول المتقدمة والنامية أحد أهم العقبات، حيث ركزت الدول الغنية على التدابير الوقائية، بينما طالبت الدول الفقيرة بالمزيد من الدعم المالي واللوجستي.
2. العملية المتسرعة: كانت عملية المفاوضات سريعة جدًا ولم تسمح بمناقشة كافية للقضايا المشتركة، مما أدى إلى تأجيل القرارات الكبرى حتى نهاية المفاوضات.
الخاتمة
تعد الإصلاحات التي تم إدخالها على اللوائح الصحية الدولية خطوة مهمة نحو تحسين الاستجابة العالمية للأزمات الصحية، لكنها لا تزال تمثل بداية فقط. إن نجاح هذه الإصلاحات يعتمد بشكل كبير على التنفيذ الفعلي لها والتزام الدول الأعضاء بالتعاون الدولي. في الوقت نفسه، تبقى المفاوضات بشأن اتفاقية الجائحة الجديدة محورية لمستقبل الصحة العالمية، حيث ستمثل هذه الاتفاقية إطارًا قانونيًا جديدًا لمواجهة الأوبئة بشكل أكثر عدالة واستدامة.
تظل التحديات قائمة، لكن الدروس المستفادة من جائحة كوفيد-19 ستشكل الأساس لبناء نظام صحي عالمي أكثر قوة وعدالة في المستقبل.