مقدمة
في سبتمبر 2023، شرع المغرب في إصلاح قانوني طال انتظاره، حيث أمر الملك محمد السادس بمراجعة شاملة لمدونة الأسرة، والتي أثارت اهتمامًا واسعًا في الأوساط القانونية والسياسية والمدنية بالمملكة. تأتي هذه المبادرة بعد عشرين عامًا من اعتماد المدونة عام 2004، حيث أسفر التطبيق العملي عن تحديات متزايدة وظهرت حاجة ماسة لإعادة النظر في بعض أحكامها، خاصة في ضوء التغيرات الاجتماعية والتوجهات الفكرية التي مر بها المجتمع المغربي. ورغم أن المدونة كانت تُعتبر تحولاً جوهريًا عند اعتمادها، إلا أن التحديات التي واجهتها عكست قصورًا منهجيًا لا يمكن تجاهله.
السياق التاريخي والتطورات القانونية في مدونة الأسرة
تعود جذور مدونة الأسرة الحالية إلى عام 1958، عندما بدأ المغرب المستقل في صياغة إطار قانوني يستند إلى الشريعة الإسلامية والعادات المحلية. كانت هذه المدونة التي وضعها الملك محمد الخامس بمثابة توليفة بين القيم الإسلامية والأعراف الاجتماعية، بيد أن نتائجها عززت هيمنة الذكور في غالبية شؤون الأسرة، مما كرّس العديد من التحيزات ضد المرأة في القضايا العائلية.
وفي تسعينيات القرن الماضي، ازداد زخم المطالب المجتمعية نحو إصلاحات شاملة في قانون الأسرة، حيث دعت منظمات حقوق المرأة وجمعيات المجتمع المدني إلى تعديل المدونة لتتماشى مع التغيرات الاجتماعية وحقوق الإنسان. ومع استجابة الملك الحسن الثاني عبر تشكيل لجنة في 1992، كانت التعديلات التي أدخلت عام 1993 بمثابة خطوة أولية، لكنها لم تكن كافية لتلبية الطموحات الإصلاحية المنشودة.
بداية الألفية الجديدة: انطلاق عهد جديد في قانون الأسرة
ومع تولي الملك محمد السادس للعرش، بدأت موجة جديدة من الإصلاحات القانونية في إطار ما يُعرف بإصلاح 2003، حيث سعت التعديلات حينها إلى تعزيز حقوق المرأة وتحقيق المساواة بين الجنسين ضمن الإطار الإسلامي. وقد تميزت هذه التعديلات بتوازن حذر بين حماية الهوية الإسلامية للمملكة والالتزام بحقوق الإنسان. ومع ذلك، ظهرت صعوبات عملية في تطبيق بعض أحكام المدونة نتيجة لصياغتها الغامضة، مما أدى إلى تفسيرات قضائية متفاوتة وتطبيقات غير متسقة في قضايا الطلاق، الحضانة، ونفقة الأطفال.
2022 – 2023: تعزيز الإصلاحات وتحديات التطبيق
في 2022، أكد الملك محمد السادس على ضرورة مراجعة قانون الأسرة، وتكليف البيروقراطيين القضائيين بقيادة هذه المهمة. وأشار الملك إلى أهمية الحفاظ على الهوية الدينية والثقافية للمغرب خلال عملية الإصلاح، مما يعكس موقفه الحاسم كأمير المؤمنين وحامي الدين، مؤكدًا أن أي تعديلات يجب أن تحظى بموافقته الشخصية قبل عرضها على البرلمان. ومع هذا، برزت تحديات جديدة وسط انقسامات سياسية داخلية حول طبيعة الإصلاحات وحدودها.
حزب العدالة والتنمية والإصلاح الأسري: محافظة مستمرة
يعتبر حزب العدالة والتنمية، الذي كان في السابق على رأس الحكومة، من أبرز الأطراف التي تعارض الإصلاحات المقترحة في مدونة الأسرة. بزعامة عبد الإله بنكيران، يطرح الحزب رؤيته المحافظة التي تستند إلى الشريعة الإسلامية، حيث يعارض بشدة أي تغييرات تمس الأدوار التقليدية للمرأة في الأسرة المغربية. ويعدّ الحزب أن أي مساس بأحكام الميراث أو المسؤوليات الأسرية وفق الشريعة الإسلامية يمثل تهديدًا للنسيج الاجتماعي والاستقرار الوطني.
يبرر الحزب هذا الموقف بالاعتماد على نصوص دينية، ويرى في دور الملك كأمير المؤمنين تأكيدًا لضرورة الالتزام بالقيم الإسلامية، خاصة وأنه يعتبر أي انحراف عن هذا المسار بمثابة تهديد لشرعية النظام واستقراره. ويمثل هذا الخطاب المحافظ استجابةً لضغوط قاعدة الحزب التي تعتبر قضية الهوية الدينية للمغرب قضية أساسية.
الاستراتيجيات السياسية لحزب العدالة والتنمية: أهداف وتحديات
يشكّل موقف الحزب من إصلاح قانون الأسرة جزءًا من استراتيجيته لإعادة تعزيز مكانته السياسية. ففي عام 2020، تأثرت مصداقية الحزب بتوقيعه على اتفاق التطبيع مع إسرائيل أثناء قيادته للحكومة، مما أضعف تأييد قاعدته المحافظة التي تشدد على الالتزام بالقيم الإسلامية. يسعى الحزب حاليًا لاستعادة هذا الدعم عبر معارضة الإصلاحات القانونية التي يعتبرها تهديدًا للهوية الدينية التقليدية.
ومن جانب آخر، يشكل ظهور جماعة العدل والإحسان، التي أسسها عبد السلام ياسين، تحديًا إضافيًا للحزب، حيث تمثل الحركة المحافظة قاعدة اجتماعية كبيرة تتقاطع مع مصالح العدالة والتنمية. وعلى الرغم من أن هذه الجماعة ليست طرفًا رسميًا في المشهد السياسي، إلا أن نفوذها وتأثيرها الواسع يلقيان بثقلهما في أي جدل حول القضايا الدينية.
نحو انتخابات 2026: تداعيات إصلاح مدونة الأسرة على المشهد السياسي
مع اقتراب الانتخابات العامة في 2026، يبقى موضوع إصلاح قانون الأسرة محور النقاش السياسي في المغرب. يعكس هذا النقاش انقسامًا مجتمعيًا حادًا بين دعاة التحديث والمطالبين بالحفاظ على التقاليد. ويتوقع أن تلعب القضايا المتعلقة بالعلاقة بين الدين والدولة وأدوار الإسلام في الحكم، دورًا حاسمًا في تشكيل الخطاب الانتخابي والسياسات العامة للأحزاب.
في ظل هذا السياق، من المحتمل أن تتعزز الدعوات للمحافظة على القيم الإسلامية خلال الحملات الانتخابية، حيث ستسعى الأطراف السياسية للاستفادة من المخاوف المجتمعية تجاه التغييرات، بهدف تعزيز الدعم الشعبي وسط توجهات مجتمعية محافظة.
خاتمة
يأتي إصلاح مدونة الأسرة في المغرب في لحظة تاريخية تحيط بها تحديات سياسية ومجتمعية ودينية، مما يعكس توازنًا دقيقًا بين الحاجة إلى تحديث الإطار القانوني والحرص على احترام الهوية الإسلامية. وإذ يبدو أن الطريق نحو الإصلاح محفوف بالتعقيدات، فإن مآلات هذا التحديث ستبقى مرهونة بموازنة المصالح المتنوعة، في إطار يستجيب للتحديات الداخلية والدولية التي تواجه المغرب في العصر الحديث.