تمهید
الحرية حق فطري لكل إنسان لأنه يخرج إلى الوجود حرا طليقا بلا قيود ولا أصفاد ولهذا عملت كل الأديان السماوية والشرائع الوضعية على احترام هذا الحق وإحاطته بما يلزم من الضمانات خوفا من انتهاك حرمته والاعتداء على قدسيته، وتبقى الشريعة الإسلامية نبراسا في هذا المجال، بحيث سبقت القانون الوضعي كما المواثيق الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان.
لكن استعمال هذا الحق يجب أن لا يتعدى الحد المعقول، فيبلغ بصاحبه درجة التعسف وإلحاق الأذى بالغير فردا كان أو جماعة تحت طائلة تجريده من حريته وذلك باعتقاله.
الاعتقال إذن نفي الحالة فطرية يولد الناس عليها، وهو لذلك إجراء خطير جعل القانون يهتم بتحديد آلياته وضوابطه بهدف تمكينه من إطار يستمد منه مشروعيته.
وهكذا نص الدستور المغربي في فصله العاشر على تحريم الاعتقال والعقاب بدون نص قانوني، بينما عمل القانون الجنائي على من عقوبات رادعة تطال كل مسؤول تسول له نفسه اعتقال شخص بطريقة تحكمية، كما تطال أيضا كل من يقوم باحتجاز شخص وحبسه دون أمر من السلطة المختصة.
ومن جهته، فقد أوجد قانون المسطرة الجنائية مجموعة من القانونية الكفيلة برسم حدود إجراء الاعتقال ويبقى الفصل 74 من ق.م.ج الأداة القانونية التي تخول لوكيل الملك صلاحية إيداع المتهم بالسجن وإحالته على المحكمة للنظر في نازلته وهو في حالة اعتقال كما يبقى هذا الفصل أيضا أساسا قانونيا يلجأ إليه دفاع المتهم المعتقل لإثارة الدفع المتعلق برفع هذه الحالة قبل مناقشة القضية في جوهرها.
فهل بإمكان المحكمة أن تستجيب لهذا الدفع ؟ وهل من سند ترتكز عليه لتعليل قرارها أم أن المسألة غير متاحة لها قانونا ليبقى من حقها فقط الحكم بتمتيع المتهم بالسراح المؤقت بعد مناقشة القضية في جوهرها ؟.
ويقينا منا بما للموضوع من أهمية بالغة، لاسيما من الناحية العملية لتعلقه بحق مقدس كما لا يخفى على عاقل، فإننا نعترف سلفا بما قد يعتري الدراسة من تقصير في مقاربة هذه الإشكالية بما تستحقه من الحدس وبعد النظر، ونعتبر هذه الكلمة مجرد دعوة متواضعة لإذكاء النقاش حول المسألة لما فيها من دواعي الخير لاسيما مع تنامي الحديث عن حقوق الإنسان عموما وحقوق المتهم خصوصا.
وإذ نؤمن حازمين بإمكانية رفع حالة الاعتقال من طرف المحكمة قبل مناقشة القضية في جوهرها، فإننا سنحاول قدر الإمكان تبرير هذا الطرح ما هو متاح من قواعد قانونية في ظل قانون المسطرة الجنائية الحالي وكذا من عمل قضائي (مبحث (ثالث بعدما تتعرض لوجهة نظر من يقول باستحالة ذلك على المحكمة (مبحث ثاني) لكن قبل ذلك يبدو من المفيد أن تخصص مبحثا أولا للحديث عن طبيعة هذا الدفع.
المبحث الأول: طبيعة الدفع المثار في إطار المادة 74 من ق.م.ج.
قبل التطرق لهذه الطبيعة يجدر بنا أن نستعرض نص الفصل 74 المذكور بصيغته الحالية:
“إذا تعلق الأمر بالتلبس بجنحة معاقب عليها بالحبس، أو إذا لم تتوفر في مرتكبها ضمانات كافية للحضور، فإنه يمكن لوكيل الملك أو نائبه أن يصدر أمرا بإبداعه المتهم بالسجن بعد إشعاره بأن من حقه تنصيب محام عنه حالا لاستنطاقه عن هويته والأفعال المنسوبة إليه كما يمكن أن يقدمه للمحكمة حرا بعد تقديم كفالة مالية أو كفالة شخصية…”
فاستنادا إلى هذه المقتضيات تتخذ النيابة العامة قرار الاعتقال في حق المتهم كما تعلل قرارها هذا أيضا تأسيسا على نفس المقتضيات كأن تقول مثلا: قررنا إحالة المتهم على جلسة كذا في حالة اعتقال نظرا:
1. لانعدام ضمانات كافية للحضور.
2. أو اعتبارا لحالة التلبس.
3. أو اعتبارا لخطورة الأفعال.
كما أن الدفع المقدم من طرف الدفاع لا يخرج أيضا عن التمسك بانتفاء هذه الحالات، ويبني تبعا لذلك على أن النيابة العامة قامت بخرق المادة 74 لعدم قيام حالة التلبس أو لأن المتهم المعتقل يتوفر على ضمانات كافية للحضور كان يكون مثلا موظفا أو صاحب مهنة حرة يزاولها في مكتب معلوم العنوان أو أن تعليل قرار الاعتقال بعلة خطورة الأفعال هو خرق للمشروعية لأن الفصل 74 إنما تحدث عن حالتين اثنتين ولم يرد فيه ذكر خطورة الأفعال وأن النيابة العامة من حقها تشريع القوانين وإنما هي ملزمة بتطبيقها فقط على النحو الذي ارتضاه المشرع هذه إذن بعض النماذج من الدفوعات التي تثيرها أسرة الدفاع في إطار رسالتها النبيلة الهادفة إلى خدمة العدالة عموما وإلى الدفاع عن حق الحرية على وجه الخصوص.
والواقع أن مسألة تحديد طبيعة هذا الدفع تكتسي أهمية بالغة، ذلك أن معرفة ماهيته كدفع شكلي أو كدفع موضوعي هي وحدها الكفيلة بتحديد الوقت الذي يمكن فيه لصاحب المصلحة أن يثيره: هل قبل مناقشة جوهر القضية أم في مختلف مراحل المحاكمة؟
ذلك أن المادة 323 من قانون المسطرة الجنائية الجديد أشارت إلى أنه: “يجب تحت طائلة السقوط، أن تقدم قبل كل دفاع في جوهر الدعوى، ودفعة واحدة، طلبات الإحالة بسبب عدم الاختصاص – ما لم تكن بسبب نوع الجريمة – وأنواع الدفع المترتبة إما عن بطلان الاستدعاء أو بطلان المسطرة المحراة سابقا، وكذا المسائل المتعين فصلها أوليا …”
وتقترب هذه الصباغة مع صياغة المادة 318 من قانون المسطرة الجنائية القدم التي كانت تنص على أن:
أنواع الدفع المترتبة إما عن بطلان الاستدعاء أو بطلان المسطرة المحراة سابقا وكذا المسائل المتعين فصلها أوليا يجب أن تقدم قبل كل دفاع في جوهر الدعوى وإلا تصبح غير مقبولة لفواة إبالها.”
ولئن كان قانون المسطرة الجنائية الحالي – كما السابق – لم ينص صراحة على اعتبار الدفع الذي نحن بصدده دفعا شكليا، فإنه يمكن إدراجه ضمن العبارة الواردة في الفصل أعلاه المسائل المتعين فصلها (أوليا) كما أن المجلس الأعلى رفع أي لبس بخصوص هذه النقطة حيث قال:
يعتبر: “الدفع بعدم قانونية الاعتقال الاحتياطي… من المسائل التي يتعين فيها الفصل أولا فيجب أن تثار قبل كل دفع في الجوهر وإلا تصبح غير مقبولة لفواة أو المها. ”
وفضلا عن وجوب تقديم الدفع في إبانه كما ذكر، فإنه يتعين أيضا تقديمه بواسطة مستتتحات صحيحة أو في شكل مستنتجات شفوية التمس أصحابها الإشهاد عليها.
بعد أن أيقنا بأن الأمر يتعلق بدفع شكلي حدد القانون لحظة تقديمه، كما خصص جزاء عند تجاوز هذه اللحظة، هناك سؤال آخر يتبادر إلى الذهن وهو:
متى تتصدى المحكمة للجواب على الدفع سلبا أو إيجابا ؟
وهل يتعين عليها أن تبت فيه أيضا قبل مناقشة القضية في جوهرها أم بإمكانها أن ترجى ذلك بعد هذه المناقشة وليس عليها من جناح إلا أن تعلل
قرارها بضم الدفع الشكلي إلى الجوهر ؟
والحقيقة أن جدية التساؤل بشأن هذه النقطة كانت تجد أساسها في ظل قانون المسطرة الجنائية السابق، وذلك لأن المادة 318 الأنف ذكرها لم تكن تحسم بشكل صريح إلى الوقت الذي يجب على المحكمة أن تتصدى فيع للحواب عن هذا الدفع، مكتفية بالقول:
…. وفي حالة رفض الدفع تواصل المحكمة المناقشات….” فظاهر هذه العبارة يفيد أن المحكمة تقوم عقب تقديم الدفع الشكلي بدراسته والرد على جديته استحسانا أو رفضا ثم تواصل مناقشة القضية باستنطاق المتهم فالاستماع إلى الشهود حالة وجودهم إلى غير ذلك من إجراءات التحقيق. لكن، وفي غياب أي جزاء قانوني صريح، فإن المحكمة – كان – بإمكانها أن تقضي بحكم واحد يشمل البت في الموضوع كما الجواب عن الدفع وهو مسلك سار عليه العمل القضائي بحيث أصبح السمة الغالبة في معظم الأحكام القضائية ولم يفت المجلس الأعلى أن يزكي هذا الاتجاه.
ولا شك أن عدم تقييد محكمة الموضوع بزمن محدد للجواب على الدفع هو شيء إيجابي كفيل يجعلها تتفادى العجلة في إصدار الأحكام، عجلة شأنها خلق هفوات ليست في مصلحة المتهم نفسه معتقلا كان أو مسرحا، فإبقاء هامش من الحرية للمحكمة في الرد على الدفوع المثارة أمامها وقتما وجدت العدة القانونية للقيام بذلك، هو من قبيل مساعدتها على اتخاذ المواقف والقرارات الشجاعة حقا والناضجة عدلا وصدقا ولعل هذا ما توخاه المشرع في قانون المسطرة الجنائية الجديد حينما كرس العمل القضائي المشار إليه آنفا بقاعدة قانونية صريحة من شأنها أن ترفع اللبس وتغني عن النقاش مستقبلا كما تغني أيضا عن تمسك الدفاع أمام المحكمة بضرورة الجواب حالا عن الدفع وعدم ضمه إلى الجوهر: “يتعين على المحكمة البت في هذه الطلبات فورا، ولها بصفة استثنائية تأجيل النظر فيها بقرار معلل إلى حين البت في الجوهر”. هكذا إذن تلاحظ أن المحكمة أصبحت ملزمة في الأصل بالرد على هذا النوع من الدفوع فورا وعقب تقديمه، وأصبح الاستثناء هو تأجيل النظر بضم الجواب على الدفع المذكور إلى جوهر الدعوى وهو استثناء قيد اللجوء إليه بضرورة إصدار قرار معلل ونعتقد أن إلزام المحكمة بإصدار قرار معلل حينما تركي تأجيل النظر في الدفع، من شأنه عرقلة السير السليم للجلسات بالنظر لعدد الملفات التي تكون معرضة من جهة وكذا بالنظر للدفوعات الشكلية المثارة من طرف الدفاع من جهة أخرى ولهذا السبب فنحن نرى أن الصياغة التي تبناها المشروع كانت أفضل لاحتواء جميع الأبعاد التي تتطلبها المحاكمة العادلة من سير عادي للجلسات واحترام الحقوق الدفاع. وهكذا فقد جاءت صياغة هذه الفقرة على الشكل التالي:
“يمكن للمحكمة البت في هذه الطلبات فورا أو تأجيل النظر فيها إلى حين البت في الجوهر”.
ولا بأس من الإشارة إلى أن المشرع في هذا الفصل حاول أن يساير ما كان المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان قد توخاه في مقترحاته هذا الخصوص. بعد هذا العرض المقتضب لطبيعة الدفع برفع حالة الاعتقال، سوف نتعرض لوجهة النظر القائلة بعدم إمكانية رفع حالة الاعتقال من طرف المحكمة في ظل المادة 74 وذلك من خلال المبحث التالي.
المبحث الثاني: الرأي القائل بعدم جواز رفع حالة الاعتقال من طرف المحكمة في إطار المادة 74 من ق.م.ج.
ليس غريبا أن تكثر الدفوعات المثارة من طرف الدفاع هدف رفع حالة الاعتقال، كما أنه ليس غريبا أيضا أن يتركز تعقيب النيابة العامة – لرد تلك الدفوعات – على القول باستحالة المسألة على المحكمة من وجهة نظر قانونية / مسطرية لأن قرار الاعتقال المتخذ في إطار المادة 74 هو من صميم سلطة ملاءمة المتابعة المخولة للنيابة العامة ولا رقابة للمحكمة على هذه السلطة.
والحقيقة أن تعقيبا على هذا النحو، إنما تتوخى من وراءه النيابة العامة السهر قدر الإمكان على التطبيق السليم للقانون، والحفاظ على حرمة القاعدة الجنائية، فلا يمكن لها أن تتناقض مع قرار الإبداع بالسجن الذي سبق لها أن اتخذته لاسيما والقضية لم تناقش بعد في جوهرها وبالتالي لم يستجد فيها حديد من شأنه أن يحملها على تغيير وجهة نظرها السابقة.
وليست النيابة العامة وحدها من تذهب هذا المذهب بل يوجد من يشاطرها هذا الرأي حتى من قضاء الحكم أو من الفقه. ويذهب هؤلاء جميعا إلى القول بأن الخطاب المضمن صلب المادة 74 موجه إلى النيابة العامة وحدها ولا
يتعداها إلى قضاء الحكم:
“إن الفصل 76 يتعلق بسلطة وكيل الملك بالإيداع بالسجن ولا يتعلق بالمحكمة كما أن النيابة العامة باعتبارها طرفا رئيسيا في الدعوى العمومية ملزمة
سواء طلب منها ذلك أو تلقائيا تبرير متابعتها والأساس القانوني الذي اعتمدت عليه للاعتقال إما لتوافر التلبس وإما لانعدام الضمانات الكافية للحضور، في حين أن المحكمة باعتبارها هيئة فصل وحكم بين طرفي الدعوى العمومية – النيابة العامة والمتهم – فإنه لا يمكن لها أن تتقمص صفتها للرد على دفع شكلي تكون النيابة العامة هي الملزمة بالرد عنه وإلا خرجت عن الحياد وبالتالي عن والمحكمة ليست لها إلا طريقة واحدة للتعامل مع المعتقل وهي المشروعية
البت في وضعيته بناء على طلب السراح أو تلقائيا.”
بعدما تعرفنا على تبريرات الطرح القائل بعدم جواز رفع حالة الاعتقال من طرف المحكمة في ظل المادة 74 يجدر بنا أن نعرض لوجهة نظرنا المخالفة لهذا الطرح وذلك من خلال المبحث التالي.
المبحث الثالث: إمكانية رفع حالة الاعتقال من طرف المحكمة في إطار المادة 74 من ق.م.ج.
التبرير موقفنا من جواز رفع حالة الاعتقال في إطار المادة المذكورة، فإننا سننطلق من حيث انتهت تبريرات الرأي السابق والقائل باستحالة ذلك، وهي تبريرات نرى تلخيصها في نقطتين أساسيتين:
فأما إحداهما فهي إمكانية منح السراح المؤقت من طرف المحكمة. وأما الأخرى فهي تعلق الفصل 74 بالنيابة العامة دون المحكمة.
ثم إن الحديث عن مسطرة منح السراح المؤقت كإمكانية بديلة . الأحذ عن برفع حالة الاعتقال في إطار المادة 74 يحتم علينا أن نقيم تمييزا بين الاصطلاحين مع ما يتضمنه كل واحد منهما من أثر قانوني ولعل المعيار في هذه العملية
يكمن في اللحظة التي يتعين فيها على المتهم تقديم ملتمسه برفع حالة الاعتقال كدفع شكلي وقد رأينا أنه من الواجب أن يتم ذلك قبل مناقشة القضية والحال أن السراح / الإفراج المؤقت إنما يكون عقب مناقشة جوهر هذه القضية وهو ما نستفيده من مضمون الفصل 362 من ق.م. ج:
إذا كانت القضية غير جاهزة للحكم، أمرت المحكمة بتأجيلها لمتابعة دراستها بجلسة أخرى يحدد تاريخها ولا يجوز تأجيل النظر في القضية دون مبرر جدي مقبول.
بيت في شأن الإفراج المؤقت وفي شأن الوضع تحت المراقبة القضائية ضمن الشروط المنصوص عليها في المادة 178 أعلاه”
فمدلول عبارة: (المتابعة دراستها التي أشار إليها هذا الفصل، يفيد أن هناك بحثا قد شرعت فيه المحكمة لكنه لم يكتمل بعد وبالتالي لم يفض إلى تكوين قناعتها بشأن الإدانة أو البراءة.
إن القول بتعلق الفصل 74 بسلطة النيابة العامة دون المحكمة صحيح إلى حد ما، لكن صحته تنتهي حين تضع المحكمة يدها على النازلة لتمارس دورها التقليدي في إعادة المراكز الحقوقية إلى أصحابها وذلك بتطبيق القاعدة القانونية على ضوء الوقائع والمعطيات التي تفرزها كل نازلة، فهذا الفصل إنما يؤطر سلطة النيابة العامة في اتخاذ قرار الأمر بالإيداع في السحن، ومن غير المعقول أن يبقى هذا الدور – على خطورته مطلقا والحال أن المسألة تتعلق بحرية الفرد.
إن عدم إطلاقية هذه السلطة توجب تدخل المحكمة لمراقبة قيام حالة التلبس أو انتفائها أو انعدام الضمانات الكافية للحضور لأن المشرع حدد وعلى سبيل الحصر هاتين الحالتين فقط على خلاف ما قد يعتقد – تأويلا –
من وجود حالة ثالثة دخيلة لا سند لها من القانون تتعلق بخطورة الأفعال فلا سبيل إلى الاجتهاد – الذي قد يغدو بمثابة تشريع – في مسألة سكت عنها المشرع وتعلقت بما حرية الأفراد عكس ما ذهب إليه المجلس الأعلى نفسه حينما
قال:
“إذا قدم الظنين في حالة تلبس استنادا إلى الفصل 76 من ق.م.ج كان للنيابة العامة الحق في اعتقاله إذا كانت لا تتوافر فيه الضمانات أو كانت الجريمة ذات خطورة.” فالمشرع لم يورد هذه الصيغة لا تصريحا ولا تلميحا، نعم أشار قائلا:
“وإذا كان الأمر يتعلق بجنحة يعاقب عليها بالحبس”
لكن دون أن يجعل من ذلك حالة ثالثة تخول لوكيل الملك أو نوابه إمكانية إيداع المتهم في السجن، فالمشرع كان دقيقا حين استعمل واو العطف ولم يستعمل (أو) كما استعملها قبيل قوله:
“إذا لم تتوفر في مرتكب الجنحة ضمانات كافية للحضور”.
يكفي أن نعلم إذن أن الإشارة إلى الجنحة هو ليس من قبيل جعلها حالة بعينها للإيداع في السجن، وإنما فقط لإخراج زمرة المخالفات وكذا بعض الجنح المعاقب عليها بالغرامة المالية عن دائرة سلطة الاعتقال لأن هذا الإجراء – أي الاعتقال – لا يستساغ لا عقلا و لا قانونا في جرائم لم يخصها المشرع الجنائي بعقوبات سالبة للحرية.
إن إصدار الأمر بالإيداع في السجن وتعليله في صك المتابعة بعلة حالة التلبس يحيل حتما إلى مراقبة قيام هذه الحالة من عدمه لأن حالة التلبس هذه نظمها القانون في الفصل 56 من ق.م.ج، ولم يترك أمر تحديدها للتأويل الشخصي وفق المدلول اللغوي أو العامي لكلمة “تلبس” وهكذا فلا يعقل مثلا اعتقال شخص بعلة ضبطه متلبسا بجريمة الفساد والحال أن المحضر لم يحرره ضابط من ضباط الشرطة القضائية الذين خول لهم القانون – دون غيرهم – صفة التثبت من قيام الحالة المذكورة كما لا يمكن أيضا القول بقيام حالة التلبس في حين أن الوقائع ترجع إلى سنوات قبل تحريك المتابعة.
وإذا كان التلبس بالجنحة المعاقب عليها بالحبس لا يثير إشكالا كبيرا نظرا لتكفل القانون بتحديد مفهوم التلبس وحالاته على سبيل الحصر من منطلق توفير الضمانات الحقوقية للمتهم وفي سبيل إيجاد الجو الملائم لإجراء تلك المحاكمة العادلة التي ينشدها الفرد كما المجتمع، فإن الحالة الثانية المتعلقة بضمانة الحضور لم يهتم المشرع بتحديد ماهيتها ولا الفلك الذي تدور فيه وجودا وعدما تاركا للنيابة العامة سلطة الملايمة أيضا في مجال الاعتقال على ضوء اجتهادها في تأويل مفهوم “الضمانة الكافية”.
والأكيد أن مدلول عدم توفر ضمانات الحضور يبدو على جانب كبير وخطير من العموم والإمام ويتأكد ذلك إذا علمنا أيضا أن الاجتهاد القضائي لم يهب هنا لمساعدة المحاكم على استجلاء غوامضه فهل يعني عدم توفر الشخص المحال على النيابة العامة على مقر معلوم أو مؤكد للإقامة أو حتى مجرد تخوفها من عدم امتثاله لما قد يوجه إليه لاحقا من استدعاءات مهما كانت ظروفه الخاصة، ومن يضمن لنا هذا التحوف إذا كان هو بيت القصيد ؟”
من المفيد أن تذكر هنا أن القانون الفرنسي ابتداء من قانون 1863/05/20 الذي أوجد مسطرة المحاكمة في حالة التلبس بالجنح والمعتبر كمصدر تاريخي استقى منه المشرع المغربي الفصل 65 من ق.م.ج لم يأخذ بعبارة الضمانات الكافية للحضور لا إفرادا ولا جمعا .
نجد المشرع المصري يشير قائلا في المادة 130 من قانون الإجراءات المصري:
و إذا خيف هربه، وإذا لم يكن له محل إقامة معروف.”
بمعنى أن تخوف النيابة العامة من هرب المتابع وإفلاته من العقاب سبيل قانوني لاعتقاله، لكن شريطة عدم توفره على محل إقامة معروف، وبعبارة أخرى فالعنوان الثابت للظنين هو في اعتبار القانون المصري ضمانة كافية لإزالة أي تخوف لدى النيابة العامة من عدم حضوره لاحقا.
وأمام هذا الغموض والإبهام الذي يكتنف مدلول الضمانات الكافية في القانون المغربي، أليس مشروعا أن نذهب إلى القول بأن الفصل 74 نفسه، يقدم التفسير الذي نبحث عنه وذلك من خلال ضربه المثل لنوع الضمانة التي يمكن للنيابة العامة حين تقديمها إحالة المتهم في حالة سراح على المحكمة، وهذا المثل يتعلق بالضمانة المالية أو بالضمانة الشخصية؟
ثم ألا يشكل إقدام النيابة العامة خلال عملها اليومي، على إحالة كثير من المتهمين – بجرائم السكر العلني مثلا – على جلسات الحكم مسرحين، مقابل إيداعهم كفالات مالية بصندوق المحكمة شيئا يصب في اتجاه تعزيز هذا المنحى؟ فلو فرضنا أن المحكمة، بعد دراستها للدفع المثار اطمأنت – وباقتناع
حازم – إلى عدم وجود حالة التلبس بمعناه القانوني كما وجدت أيضا ومن خلال ما هو معروض عليها من وثائق ومعطيات أن المتهم موظف مثلا بإحدى المصالح العمومية أو أنه صاحب مهنة حرة نظمها القانون ويزاولها في مكتب معروف، فضلا عن إنكاره بمحضر الضابطة القضائية وغياب أي مصرح صلب ذلك المحضر، أليس عدلا – أمام كل هذا – أن تتحمل المحكمة مسؤوليتها كاملة غير منقوصة فتتصدى لإعادة الأمور إلى نصابها والمراكز الحقوقية إلى أصحابها ؟ حري بنا أن نصدق بصحة هذه الفرضيات ما دام الواقع العملي يشهد بتكرارها، فقد يحدث أن تنتفي حالة التلبس بعد إبطال محضر الضابطة القضائية الذي كانت تستقي منه كينونتها ويصبح واحبا على المحكمة أن ترفع حالة الاعتقال هذا ما نصت عليه المحكمة العسكرية بقولها:
“وحيث إن حالة التلبس التي قدم بها المتهمون لم يبق لها موضوع للأسباب المذكورة آنفا مما يستوجب إطلاق سراحهم ومحاكمتهم مسرحين”
إن مراقبة قضاء الحكم لقانونية الأمر بالإيداع في السجن، لا ينتقص في شيء من قيمة ولا من سلطة النيابة العامة وهيبتها كخصم شريف يمثل الدفاع عن المجتمع، وإنما هي على النقيض من ذلك – أي هذه المراقبة القضائية ضمانة حقوقية لتأصيل وتفعيل قاعدة البراءة كمبدأ من المبادئ العامة للقانون الجنائي ولتكريس حالة السراح كحق فطري ومقدس للإنسان، قدسية جعلت المشرع في الفصل 159 من ق.م.ج يعتبر وبصريح اللفظ إجراء الاعتقال الاحتياطي – والوضع تحت المراقبة القضائية – مجرد تدبير استثنائي، كما أن هذه المراقبة لا تمس بأي وجه من الوجوه لا حياد المحكمة ولا مبدأ المشروعية “لأن القضاء بوصفه ضامنا للحقوق والحريات يثير ولو من تلقاء نفسه عدم صحة الإجراءات سيما عند الحرمان من الحرية”.
في هذا السياق دائما نجد المشرع في الفصل 384 من ق.م.ج يلزم المحكمة – بعدما تقوم بإشعار المتهم المعتقل بحقه في تنصيب الدفاع لمؤازرته ويتمسك هو هذا الحق فتمهله الأجل القانوني – بالبت في مسألة إبقائه رهن الاعتقال تحت طائلة البطلان ومن هنا نتساءل:
على أية أرضية سوف ترتكز المحكمة للتعامل مع حالة الاعتقال برفعها أو إبقائها في انتظار تنصيب المتهم محاميه؟ إن الدارس لسلطة النيابة العامة بمقتضى الفصل 74 من ق.م.ج من خلال
أمهات كتب المسطرة الجنائية يجد الشراح يتحدثون في مقابل هذه السلطة عن الضمانة التي خولها المشرع للمتهم بمقتضى الفصل 384 من ق.م.ج ومن . يمكن القول بوجود ترابط بين الفصلين ترابط يوحي بأن البت في إبقاء حالة الاعتقال أو رفعها إنما يتم تأسيسا على مراقبة المحكمة لقانونية حالة التلبس وكذا لانتفاء ضمانة الحضور.
فإذا كان المشرع قد ألزم المحكمة تلقائيا في غياب مؤازر للمتهم أن تتخذ المبادرة للنظر في مسألة الاعتقال فإن الأمر يصبح من باب أولى وأحرى حينما يكون المتهم مؤازرا بدفاعه ويتقدم هذا الدفاع ملتمس رفع حالة الاعتقال.
وقد سبق للمجلس الأعلى أن أكد في قراره المشار إليه سابقا قائلا: ” في شأن وسيلة النقض الأولى المتخذة من حرق مقتضيات جوهرية من المسطرة الجنائية: ذلك أن الطرف المدني تقدم بشكاية ذاكرا أنه منذ ثلاثة أشهر سلفت كان ضحية لخيانة الأمانة وأن النيابة العامة مع مرور هذه المدة على تاريخ الواقعة المزعومة استعملت مسطرة التلبس وقررت اعتقال المتهم العارض في حين أن مقتضيات المادة 58 من ق.م.ج تشير على سبيل الحصر إلى الحالات التي يمكن وصفها بحالة التلبس كما أنه لا توجد الحالة التي ينص عليها الفصل 76 من نفس القانون إذ أن الكافية للمثول أمام المحكمة ومن جهة أخرى ينص الفصل 152 من القانون المذكور أن الاعتقال الاحتياطي هو تدبير استثنائي وأن حرق هذه المقتضيات يكون مسا بحقوق الدفاع …
حيث إنه من جهة فبمقتضى المادة 318 من ق.م.ج فالمسائل المتعين فصلها أوليا ومن جملتها الاعتقال الاحتياطي والوضع تحت الحراسة النظرية وغير ذلك مما يتعلق ببطلان المسطرة المحراة سابقا يجب أن تقدم قبل كل دفاع في
جوهر الدعوى وإلا تصبح غير مقبولة لفواة إبانها…”
وبقراءتنا للقرار واستحلاتنا لروح مضمونه نخلص إلى نتيحتين أساسيتين: – أولاهما أن المجلس ورغم كونه لم يتعرض للرد على الدفع في موضوعه
وإنما اكتفى – لما ذكر – بعدم قبوله، فإن تطبيق مفهوم المخالفة يفضي إلى القول بأن طالب النقض لو أثار دفعه على النحو المطلوب وفق المادة 318 من ق. م. ج الأجابه المجلس بشأن وسيلته المتعلقة بخرق المواد 58 و 76 و 152 من ق.م.ج وهو ما نعتبره سببا كافيا للجزم بأن الدفع له سنده من القانون وأن تدخل المحكمة للفصل فيه لا يمس حيادها ولا يضع مبدأ المشروعية موضع أي تساءل.
– وأما الملاحظة الثانية التي نستقيها من ذات القرار، فهي إدراج مؤسسة الاعتقال الاحتياطي مع مؤسسة الحراسة النظرية في نفس الحيثية بالرغم من عدم وجود هذه الأخيرة ضمن وسائل النقض المثارة وكذا في وقائع القرار، وهي إشارة أبعد ما تكون إلى الاعتباطية أقرب ما تكون إلى الرغبة في جعل الاعتقال مساويا في الحكم للحراسة النظرية سواء من حيث شكليات إثارة الدفوع بشأنيهما أو من حيث خضوعهما لرقابة القضاء عند الإخلال بالقواعد المنظمة
لهما.
ولئن كانت وظيفة المجلس الأعلى – بوصفه أعلى مؤسسة قضائية في المملكة – تقتضي مراقبة القانون دون الواقع ابتداء، و توحيد عمل المحاكم الدنيا انتهاء، فإننا نعتقد أن إبداع اجتهاد قار وواضح للحسم في هذه الإشكالية ذات البعد الحقوقي والقانوني هو أمر محمود ولا ينكر عاقل عظيم جدواه.
وقد عملت المحكمة الابتدائية بصفرو في حكمها الصادر بتاريخ 2002/1/9 في الملف الجنحي التلبسي رقم: 2002/30 على تكريس الرأي القائل بجواز رفع حالة الاعتقال عن المتهم قبل مناقشة القضية في جوهرها وقبل توجيه التهمة لهذا الأخير، وجاء في حيثيات هذا الحكم ما يلي: وحيث ممسك دفاع المتهمين بمقتضيات المادة 76 من ق.م.ج مؤكدين على خلو متابعة السيد وكيل الملك من تعليل معقول لان كل المتهمين يتوفرون على ضمانات الحضور فضلا عن وحيث تنص المادة 76 كما وقع تعديلها بمقتضى ظهير 1991/12/30: في انتفاء حالة التلبس ملتمسين رفع حالة الاعتقال عن موكليهم.
حالة التلبس بجنحة أو إذا لم تتوفر في مرتكبها ضمانة كافية للحضور يمكن لوكيل الملك أن يصدر أمرا بإيداع المتهم في السحن……
وحيث يبقى إجراء الاعتقال مقيدا بتوافر إحدى حالتين لا ثالث لهما. وحيث إنه بالرجوع إلى محاضر الاستماع للمتهمين لدى الضابطة القضائية، فإنهم جميعا أطباء يتوفرون على عيادات خاصة بمدينة فاس وعلى سكن قار أشير إليه صلب تلك المحاضر.
وحيث إنه يرجع في تفسير حالة التلبس إلى مقتضيات المادة 58 من ق.م.ج
وحيث إنه برجوع المحكمة إلى ديباجة المحضر يتضح لها أن الوقائع تعود بأكملها إلى سنة 1999 وهو تاريخ لا يشك عاقل في كونه لا يندرج ضمن حالات الفصل المذكور.
وحيث إن الاعتقال الاحتياطي ما هو إلا تدبير استثنائي، فإن المحكمة قررت باسم جلالة الملك الرجوع إلى الأصل ورفع حالة الاعتقال عن المتهمين ومحاكمتهم في حالة سراح وتوجيه التهمة لهم طبق القانون.
وقد استأنفت النيابة العامة هذا الحكم بمعية الحكم الفاصل في الجوهر بعدما قضى ببراءة المتهمين وتحميل الخزينة العامة الصائر، فأصدرت محكمة الاستئناف بفاس قرارها بتاريخ 2002/5/8 في الملف الجنحي رقم 2002/1713 ذهبت فيه إلى تأييد الحكم الابتدائي في جميع مقتضياته وهو ما نعتبره شاهدا ينضاف إلى تأكيد صحة ما ذهبنا إليه في طرحنا القائل بجواز رفع حالة الاعتقال عن المتهم قبل مناقشة القضية في جوهرها، والله أعلم.