الأجـــــــل المعقــــــــول

العدالة في المغرب بين الأجل المعقول والنجاعة القضائية: رؤية دستورية وتحديات واقعية

قاعة محكمة تقليدية مضاءة طبيعياً، تُظهر مقاعد القضاة والجمهور، تعكس أجواء الجدية والعدالة."

من المعلوم ان الاتفاقيات الدولية لحقوق الانسان التي تهتم بالعدالة تولي أهمية خاصة لما يسمى بالاجل المعقول قدر اهتمامها بضمان حقوق الدفاع.
وهكذا، نجد العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية نص في المادة 9 منه على انه:

 

“يقدم الموقوف أو المعتقل بتهمة جزائية، سريعا، إلى أحد القضاة أو أحد الموظفين المخولين قانونا مباشرة وظائف قضائية، ويكون من حقه أن يحاكم خلال مهلة معقولة أو أن يفرج عنه”.

كما ان الاتفاقية الامريكية لحقوق الانسان نصت على ان

 

“لكل شخص الحق في محاكمة تتوفر فيها الضمانات الكافية وتجريها خلال وقت معقول محكمة مختصة مستقلة غير متحيزة كانت قد أسست سابقا وفقا للقانون”.

 

وكذلك ورد في الاتفاقية الأوربية لحقوق الانسان في الفصل 6 منها ما يلي:

” لكل شخص الحق في أن تسمع دعواه هيئة محكمة بصورة عادلة وعلنية خلال مهلة معقولة”.

وبناء على ذلك، فقد اعتمدت الدول ذات المعايير المتقدمة في ضمان العدالة المستقلة والمنصفة والفعالة على الاجل المعقول انطلاقا من معايير موضوعية تضفي على عدالتها النجاعة المطلوبة.
وقد انشات الدول الأوروبية مؤسسة جماعية موحدة تدعى اللجنة الأوروبية للنجاعة القضائية التي تقوم بعدة أنشطة قصد الرفع من فعالية منظومة العدالة وخاصة منها القضاء.
ومن اجل ذلك تصدر تقريرا سنويا حافلا بالمعطيات الإحصائية عن الأنظمة القضائية الأوروبية ومنها الدول المنظمة ومنها المملكة المغربية التي وقعت اتفاقية مشتركة هذه مع المؤسسة سنة 2016 حيث أصبحت بمقتضى هذا الاتفاق مشاركة ابتداء من سنة 2018 في التقارير التي تصدرها هذه اللجنة.
ويلاحظ ان تقرير هذه اللجنة يعتمد على معطيات إحصائية موضوعية شاملة، تبتدئ بجمع المعطيات الميزانياتية لقطاع العدالة بكافة مكوناته، لدرجة انها تحصي القيمة المالية لكل ملف، ونصيب كل مواطن في الميزانية العامة للدولة المؤسس على الحق في العدالة، مرورا بعدد قضاة الحكم والنيابة العامة والمحامين وموظفي كتابة الضبط وقيمة المساعدة القضائية وحجم كل ذلك وغيره بالنسبة لعدد الساكنة وعدد الملفات وغير ذلك مما يطول شرحه وبيانه.
والمقصود هنا ان النجاعة القضائية أصبحت تتأسس على أسس ميزانياتية وبشرية وتدبيرية، إضافة الى المعطيات الإحصائية التي تهم الزمن القضائي للعدالة والذي يجسده العمر المفترض لكل قضية.
وهذا ما حدا بجلالة الملك في خطاب 20 غشت 2009 التاريخي الى توجيه دعوة للحكومة الى بلورة مخطط متكامل، كان ملهما في ابداع ميثاق اصلاح منظومة العدالة الصادر سنة 2013، والذي تضمن من جملة ما تضمن الهدف الاستراتيجي الرابع المتعلق بالارتقاء بفعالية ونجاعة القضاء) وقد استهدف هذا المحور توفير عدالة فعالة خدمة اللمتقاضين من خلال تطوير التنظيم القضائي وعقلنة الخريطة القضائية والرفع من نجاعة الأداء القضائي وتبسيط المساطر وجودة الاحكام والخدمات القضائية وتسهيل ولوج المتقاضين الى المحاكم اعمالا لمقتضيات الدستور المتعلقة بحقوق المتقاضين وقواعد سير العدالة وكان من جملة ما تضمنه هذا الهدف الرئيسي هدفا فرعيا تحت عنوان ( البت في القضايا وتنفيذ الاحكام خلال اجال معقولة).
ولا يخفى ان دستور المملكة المغربية تضمن في فصله 120 على ان لكل شخص الحق في محاكمة عادلة وفي حكم يصدر داخل اجل معقول.

حقوق الدفاع مضمونة امام جميع المحاكم).

لذلك، لم نكن في حل من النظر في موضوع الاجل المعقول باعتباره حقا من الحقوق الدستورية التي لا مناص منها، تماما كما هو الحال بالنسبة لحقوق الدفاع، وهما دعامتان ضروريتان للمحاكمة العادلة
وقد تضمنت بعض القوانين المعمول بها اجالا للبت في بعض المواد كما هو الحال بالنسبة لمدونة الاسرة خاصة بالنسبة للتطليق للشقاق بحيث تم تحديد اجل البت فيه خلال اجل لا يتجاوز 6 اشهر طبقا للمادة 97 من مدونة الاسرة، وكما هو الحال بالنسبة لقانون الصحافة وغيره من القوانين وقد تم سنة 2016 اعتماد لأول مرة اجالا تمت تسميتها بالاجال الافتراضية والتي تهم المادة 279.
هذه الاجال تأسست على استخراج المعدل الفعلي في كل محكمة في كل مادة، ثم اعتماد معدل فعلي وطني بناء على جميع المعدلات الفعلية في كافة المحاكم. وقد تم عرض المعدل الفعلي الوطني في كل مادة على المسؤولين القضائيين لتحديد معدل جديد، يضع بعين الاعتبار الحد الأدنى والحد الأقصى.
وبعد الاتفاق المبدئي على هذا المعدل تم التوجيه الى اجراء مشاورات المحامين عبر عموم محاكم المملكة لتحديد المعدل المتوافق عليه.

وبعد عدة لقاءات ومشاورات تم انجاز الاجال الافتراضية والتي تسمى حاليا الاجال الاسترشادية بعد اجراء تعديلات عليها.
وقد تم اعتبارها معدلات زمنية مؤطرة لعمل القضاة وموجهة لهم، يتعين مراعاتها قدر الإمكان مع العلم ان بعض القضايا تعترضها مساطر فرعية أو صعوبات غير عادية تؤثر على مسارها الطبيعي، ومن تم على اجال البت فيها، وهو ما ينبغي اخده بعين الاعتبار.
وجدير بالذكر ان القانون التنظيمي بمثابة النظام الأساسي للقضاة نص في الفصل 45 على وجوب احترام الاجل المعقول، الا انه نص في المادة 97 منه على انه لا يعتبر الخطأ جسيما في هذا السياق الا اذا كان القاضي ارتكب اهمالا او تأخيرا غير مبرر ومتكرر في بدء او انجاز مسطرة الحكم او في القضايا اثناء ممارسته لمهامه القضائية، وبالتالي فان عدم احترام الاجال المفترضة لا يترتب عنه عقوبة محددة، غير انه يعتبر مهما بالنسبة لتقييم أداء القضاة المنجز من قبل رؤسائهم كما تنص على ذلك المادة 55 من القانون التنظيمي المذكور ، وكذا ما نصت عليه المادة 66 من القانون التنظيمي للمجلس الأعلى للسلطة القضائية كون ان المجلس يراعي في تدبير الوضعية المهنية للقضاة على معايير منها النجاعة والمردودية وكذا المادة 75 التي ورد فيها ان المجلس يراعي في ترقية القضاة من جملة ما يراعي: “الحرص على اصدار الاحكام في اجل معقول”. وان ما يجدر التذكير به ان القانون التنظيمي للمجلس الأعلى للسلطة القضائية خضع لتعديل في بعض مقتضياته بمقتضى التعديل المنشور بالجريدة الرسمية الصادرة في 23 مارس 2023 حيث نصت المادة 108 مكرر منه على ما يلي دون الإخلال بمبدأ استقلال القضاء المنصوص عليه في الدستور، ولاسيما احكام الفصلين 109 و 110 منه، يتولى المجلس تتبع أداء القضاة بالمحاكم، ويعمل على اتخاذ الإجراءات المناسبة لتحسينه وتأطيره من اجل الرفع من النجاعة القضائية، ولاسيما ما يتعلق منه باحترام الاجال الاسترشادية للبت في القضايا، كما يتتبع تحرير وطبع المقررات القضائية وعملية التبليغ والتنفيذ.
وبناء عليه، قام المجلس الأعلى للسلطة القضائية بإصدار قرار بتاريخ 2023/12/21 ودورية السيد الرئيس الأول عدد 23/37 بالتاريخ نفسه 2023/12/21
ويتبين من خلال التقرير المنجز حول تنزيل الدورية المذكورة عن سنة 2024، ان عدد القضايا المحكومة مثلا امام المحاكم التجارية بلغت 181.742 قضية شكل المحكوم منها داخل الاجال الاسترشادية نسبة 77.39% بمجموع 140.649 قضية، في حين بلغ المحكوم خارج هذه الاجال نسبة 22.61% أي بمجموع 41.093 قضية.
اما المحاكم الإدارية، فقد بلغ سنة 2024 عدد القضايا المحكومة امامها 60.803 قضية شكل المحكوم منها داخل الاجال الاسترشادية بنسبة بلغت 74.76% بما مجموعه 45.456 قضية، والمحكوم خارج ما ذكر حدد في 15.347 قضية بنسبة تصل الى 25.24% .
اما قضايا الاسرة، فقد بلغ عدد القضايا المحكومة 631.345 قضية، حكم داخل الاجال الاسترشادية 434.611 قضية بنسبة %68.84 والمحكوم خارج الاجال الاسترشادية بنسبة %31.16 بمجموع 196.734 قضية
ونظرا للتفاوت الحاصل بين أنواع القضايا من حيث مستوى الالتزام بالاجال الاسترشادية فانه يكون على المجلس الأعلى للسلطة القضائية ان يدرس الأسباب التي تؤدي الى عدم الالتزام الممكن بهذه الاجال الاسترشادية وايجاد الحلول الملائمة، وعند الاقتضاء مراجعتها لجعلها أكثر واقعية وانسجاما مع المعدل العام للاداء القضائي في المادة المعنية.

وجدير بالذكر الى ان تقرير المجلس الأعلى للسلطة القضائية لسنة 2024 انتهى الى ان الأسباب الكامنة وراء عدم البت في الاجل المعقول هي:

أولا: إشكالات مرتبطة بمسطرة التبليغ.

 

ثانيا تعثر انجاز الخبرة.

ثالثا: كيفية تدبير القضاة للملف القضائي.

غير ان ما ينبغي التساؤل حوله ليس فقط ما تعلق بأسباب عدم احترام الاجل الاسترشادي وانما أيضا بمدى احترام حقوق الدفاع وجودة الاحكام فيما تم احترام هذا الاجل بشأنه من قضايا.
ذلك ان الثابت كون هاجس احترام الاجل الاسترشادي لدى بعض القاض بات أصبح ضاغطا لدرجة اهدار حقوق الدفاع او اهمال جودة الاحكام او هما معا.

 

ومن اجله تعالت الشكاوى عبر ربوع المملكة ، وهو ما كان له الصدى المطلوب لدى الرئيس المنتدب للمجلس الأعلى للسلطة القضائية، الذي اصدر دورية دعا فيها الى وجوب احترام التوازن الضروري بين الاجل المعقول وضمانات المحاكمة العادلة ، وذلك بمقتضى الدورية الصادرة في 13 مارس 2025 والتي جاء فيها على الخصوص التأكيد على ان الاجل المعقول لا يمكن تحقيقه على حساب شروط المحاكمة العادلة او حقوق الدفاع، او عن طريق خرق الإجراءات المسطرية، كما لا يمكن ان يتم عن طريق التسرع في دراسة الملفات مما يؤدي الى بعض الأخطاء غير المقبولة
وقد افاضت الدورية في التأكيد على ان تحديد الاجال الاسترشادية يستهدف بالأساس التصدي للأسباب غير الموضوعية التي تعرقل السير العادي للقضايا بالمحاكم مثل تكرار تأخير القضية لعدة مرات بسبب عدم التوصل بالاستدعاء والذي يتطلب من الإدارة القضائية للمحاكم العمل على تفعيل تبليغ الاستدعاء كما يتطلب من الهيئة القضائية في بعض الحالات الامر بالإجراءات القانونية المناسبة، وكذا تأخير الملف عدة مرات لايداع تقرير الخبرة دون ان تبادر المحكمة الى اتخاذ الإجراءات القانونية المناسبة، او تأخير القضايا الجاهزة بدون مبرر معقول او بمنح مهل متكررة رغم انعدام الأسباب القانونية او الموضوعية المبررة لذلك، أو حجز الملف للمداولة دون دراسة قبلية لها ثم إخراجها من المداولة واعادة تكرار الامر وغيرها من الحالات المماثلة التي تؤدي الى اهدار الزمن القضائي بدون مبرر.

لذلك، يستخلص مما ذكر أعلاه ما يلي:

أولا:

ان الاجال الاسترشادية هي دليل زمني حاول تجسيد الاجل المعقول الذي يعتبر حقا دستوريا، واحد ضمانات المحاكمة العادلة المنصوص عليها في الاتفاقيات الدولية ذات الصلة.

ثانيا:

انه لا مجال لاهدار حقوق الدفاع وباقي شروط المحاكمة العادلة الواجب على القاضي ضمانها بذريعة ضمان الاجل المعقول.

ثالثا:

ان للمسطرة عوارض وصعوبات قد تؤدي الى عدم احترام الاجل الاسترشادي، ولا ضير في ذلك، مادام ذلك خارجا عن إرادة القاضي

رابعا:

ان القاضي الذي لا يحترم الاجل المعقول، لا يقع تحت طائلة المساءلة التاديبية الا في حالة الإهمال المتكرر والمتعمد الذي يؤدي الى تأخير القضية بدون مبرر مما يؤدي الى الإساءة الى حقوق الأطراف، وان كان ذلك من شانه الثاتير على مساره المهني من حيث الترقية وهو امر طبيعي جدا اذا لم يستطع تبرير ذلك بشكل موضوعي.

خامسا:

ان الاجل المعقول يشمل مسار القضية من مبتدئها الى منتهاها، فليس مقبولا الإسراع بإصدار الاحكم والتأخير في تحريره وطبعه او تبليغه او تنفيذه، لذلك يكون ضروريا حرص الادارة القضائية على الاشتغال على كل مراحل سير الدعوى لضمان احترام الاجل المعقول خلالها جميعا.

سادسا:

ان الدول المتقدمة في مجال العدالة تقارب موضوع الاجل المعقول مقاربة شاملة تبتدئ برصد الميزانيات الضرورية والامكانيات البشرية واللوجستيكية اللازمة لتمكين المنظومة القضائية من احترام هذا الواجب، وفي هذا السياق ينبغي استحضار عدد الموارد البشرية من قضاة وموظفين ومحامين ومفوضين وخبراء وغيرهم، ومستوى تأهيلهم وتكوينهم وتحفيزهم.

سابعا:

ان الاجل المعقول يستلزم تنقية التشريع المسطري من كل الشوائب التي تؤدي الى عرقلة البت ومن ذلك مسطرتي القيم والبريد المضمون بالمادة المدنية او المسطرة الغيابية بالمادة الجنائية وغيرها.

ثامنا:

انه من اللازم الارتقاء بالاداء المهني باعتماد التراسل الالكتروني بين مكونات العدالة على أسس صلبة ومضبوطة تشريعيا وتقنيا.

تاسعا:

انه من واجب المجلس الأعلى للسلطة القضائية، تقييم الأداء القضائي العام على ضوء الاجال الاسترشادية، وإعادة تقديرها تبعا لذلك اما بالزيادة فيها او العكس حسبما تقتضيه الدراسة المتبصرة والموضوعية لها، وذلك في اطار التشاور الموسع مع القضاة حسب التخصصات المعنية والهيئات المهنية وعلى الخصوص المحامين في شخص نقباء الهيئات.

عاشرا:

انه للأطراف مقاضاة الدولة في حالة الحاق أي ضرر بحقهم في الاجل المعقول اما بسبب التسرع في إدارة المسطرة القضائية او التأخر في البت، لان عدم احترام الاجل المعقول كما يكون في التأخر المخل بالحق ، يكون أيضا بالتسرع المضر به ومن باب أولى يكون من حق الأطراف التظلم ممن تسبب في أي واحد من الضررين.

Source المصطفى الرميد، محام بهيئة الدار البيضاء، وزير العدل و الحريات سابقا
Leave a Comment

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


Comments Rules : من شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الإلهية، والابتعاد عن التحريض العنصري والشتائم.

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

We use cookies to personalize content and ads , to provide social media features and to analyze our traffic...التفاصيل

موافق