من يتحمّل ثمن أخطاء الذكاء الاصطناعي في القضايا القانونية؟

الذكاء الاصطناعي والمحاكم: من المسؤول عند صدور الحكم الخاطئ؟

عالـم القانون7 ديسمبر 2025
رسم توضيحي قانوني يجمع بين مطرقة القاضي وسيدة العدالة وروبوت يرمز للذكاء الاصطناعي مع عنوان بالإنجليزية "LIABILITY FOR AI ERRORS" للتعبير عن مسؤولية أخطاء الذكاء الاصطناعي في القضايا القانونية.

المقدمة

لم يعد الذكاء الاصطناعي اليوم مجرّد أداة تجريبية في المجال القانوني، بل أصبح حاضرًا في مكاتب المحاماة، والمحاكم، وإدارات الشركات، عبر برامج تحليل السوابق القضائية، وتوقّع مآلات الدعاوى، وصياغة العقود، وحتى اقتراح الأحكام في بعض التجارب. هذا الحضور المتزايد يرافقه سؤال مقلق: ماذا لو أخطأ الذكاء الاصطناعي؟ من يتحمل مسؤولية ذلك الخطأ عندما يترتب عنه ضرر حقيقي لطرف من الأطراف، كخسارة دعوى، أو توقيع عقد مجحف، أو اتخاذ قرار إداري أو قضائي غير سليم؟
الإشكال هنا لا يتعلق فقط بتحديد المخطئ، بل أيضًا بقدرة القواعد القانونية التقليدية على استيعاب نمط جديد من “الفاعلين”: أنظمة ذكية لا تتمتع بالشخصية القانونية، لكنها تؤثر مباشرة في مصير الأفراد والمؤسسات. ومن ثمّ، يفرض الموضوع نفسه كمسألة راهنة لفقه المسؤولية المدنية والجزائية، وللنقاش الدائر حول تنظيم الذكاء الاصطناعي.
في هذا المقال سنحاول مقاربة سؤال المسؤولية عن خطأ الذكاء الاصطناعي في القضايا القانونية، من خلال التدرج في أربعة محاور أساسية، ثم ختم بخلاصة تركيبية تستشرف ملامح التنظيم القانوني الممكن في المستقبل.

المحور الأول: طبيعة الذكاء الاصطناعي في المجال القانوني وحدود “استقلاليته”

قبل البحث عن المسؤول، يجب أولًا فهم طبيعة الدور الذي يلعبه الذكاء الاصطناعي في السياق القانوني. فالأنظمة الذكية ليست كائنات مستقلة بذاتها، بل هي خوارزميات صُمِّمت وبرمجت على أساس بيانات سابقة، وتتعلّم تدريجيًا من خلال تقنيات “التعلّم الآلي” و”التعلّم العميق”.
في المجال القانوني، يمكن لهذه الأنظمة أن:
• تحلل عددًا ضخمًا من الأحكام لاستخراج اتجاهات قضائية.
• تقترح استراتيجيات للتقاضي بناء على وقائع القضية.
• تولّد مسودات لعقود أو مذكرات دفاع.
• تساعد القاضي أو المستشار القانوني في تقييم المخاطر القانونية.
إلا أن “الاستقلالية” الظاهرية لهذه الأنظمة تبقى في النهاية مشروطة بعاملين أساسيين:
1. البيانات التي دُرِّبت عليها: إذا كانت ناقصة، منحازة، أو غير محدثة، فالنتائج ستكون بالضرورة مشوّهة.
2. اختيارات المصمّم والمستخدم: من يحدد المعايير، الأوزان، والمتغيرات التي يعتمدها النظام في تحليل الوقائع؟
من هنا، يصعب الحديث عن مسؤولية “ذاتية” للذكاء الاصطناعي، لأنه لا يتمتع بشخصية قانونية مستقلة، ولا بإرادة بالمعنى القانوني التقليدي. وبالتالي، فإن أي خطأ يصدر عنه يردّ – في العمق – إلى الإنسان الذي صمّمه أو شغّله أو اعتمد عليه دون تدقيق كافٍ.

المحور الثاني: مسؤولية مطوّر الذكاء الاصطناعي ومزوّد الخدمة

أول مرشّح لتحمّل المسؤولية عند وقوع خطأ هو المطوّر أو الشركة المنتجة للنظام، باعتبارها من تضع الخوارزميات وتصمم بنية البرنامج وتحدد طريقة اشتغاله.
يمكن مساءلة المطوّر وفق عدّة قواعد:

1. المسؤولية عن العيب في المنتج (Product Liability)

إذا اعتُبر برنامج الذكاء الاصطناعي “منتجًا” بالمفهوم الواسع، فإن أي عيب في التصميم، أو في طريقة عمل النظام، أو في غياب التحذيرات الكافية من حدود أدائه، يمكن أن يرتّب مسؤولية على الشركة المنتجة تجاه المتضرر. هنا يكون الخطأ متمثلًا في طرح منتوج غير آمن أو غير ملائم للغرض الذي يسوَّق من أجله.

2. الإخلال بالالتزامات التعاقدية تجاه الزبون

إذا كانت العلاقة بين شركة البرمجة ومكتب المحاماة أو المؤسسة علاقة تعاقدية، فإن البنود التي تحدد مستوى الخدمة (SLA) وحدود الضمان تكتسي أهمية كبرى. فإذا ادعى المزود أن نظامه يقدّم “تقييمًا دقيقًا” للمخاطر القانونية أو “توقّعًا مرتفع المصداقية” لنتائج الدعاوى، ثم تبيّن أن هذه الادعاءات مبالغ فيها أو غير مبنية على أسس علمية، قد يُعتَبَر ذلك إخلالًا بالتزام التحقق من السلامة والمطابقة.

3. واجب التحديث والصيانة

في المجال القانوني تتغير النصوص بسرعة، وتتطور الاجتهادات القضائية باستمرار. لذلك يُنتظر من مزود النظام أن يلتزم بتحديث قواعد البيانات والخوارزميات بشكل دوري. الإهمال في التحديث قد يكون مصدرًا للمسؤولية إذا ترتب عنه اعتماد المستخدم على معلومات قانونية متقادمة أدت إلى ضرر.
مع ذلك، لا يمكن تحميل المطوّر كل شيء؛ فالقانون يأخذ في الاعتبار أيضًا طريقة استخدام النظام، وحدود ما تمّ الاتفاق عليه تعاقديًا بينه وبين المستعمل النهائي.

المحور الثالث: مسؤولية المحامي أو القاضي أو الجهة المستعملة للنظام

في القضايا القانونية، لا يُفترض أن يحل الذكاء الاصطناعي محلّ الإنسان تمامًا، بل أن يكون أداة مساعدة فقط. فالمحامي أو القاضي يظل – من الناحية القانونية والأخلاقية – مسؤولًا عن قراراته، ولا يمكنه أن يختبئ بالكامل وراء توصيات نظام آلي.
يمكن تصور عدة صور لتحمّل المسؤولية من طرف المستعمل:

1. الاعتماد المفرط وغير النقدي على النظام

عندما يتعامل المحامي أو المستشار مع مخرجات البرنامج كـ”حقيقة مطلقة”، دون مراجعة قانونية مستقلة، أو دون التأكد من ملاءمتها لوقائع النزاع، يمكن أن يُعتبر ذلك إهمالًا أو تقصيرًا في واجب العناية والبحث المفروض عليه مهنيًا.

2. استخدام النظام خارج مجاله أو دون تكوين كافٍ

إذا استُعمل برنامج مخصص لتحليل العقود التجارية في قضايا جنائية معقدة مثل غسل الأموال أو الإرهاب، أو استخدمه شخص لم يتلق تدريبًا أو لا يملك الحد الأدنى لفهم حدوده التقنية والقانونية، فإن الخطأ هنا يكون منسوبًا قبل كل شيء للجهة التي قررت هذا الاستخدام.

3. عدم إبلاغ الموكل أو الأطراف بطبيعة الاعتماد على الذكاء الاصطناعي

من اعتبارات الشفافية والرضا المستنير، قد يكون من واجب المحامي أن يوضح لموكله أن جزءًا من التحليل يعتمد على أنظمة آلية لها حدود واحتمالات خطأ. إخفاء هذه الحقيقة قد يثير مسؤولية مهنية أو حتى تأديبية في بعض الأنظمة.

4. مسؤولية القاضي في الأنظمة التي تعتمد أدوات “العدالة التنبؤية”

حتى إذا تم تزويد القاضي ببرامج تقترح عليه اتجاهًا معينًا للحكم استنادًا إلى سوابق قضائية، فلا ينبغي أن يصبح أسيرًا لنتائج الخوارزمية. فإذا بني الحكم بالكامل على توصية آلية خاطئة دون تمحيص، يمكن أن نطرح سؤال الخطأ القضائي، وإن كانت مسؤولية الدولة عن عمل القضاء هي التي تتحمل الجزء الأكبر في هذه الحالة.

المحور الرابع: حدود مسؤولية المستخدم النهائي والمطالبة بمقاربة مشتركة

إشكاليتنا لا يمكن حلّها بمنطق “إلقاء اللوم على طرف واحد”، لأن سلسلة إنتاج القرار القانوني بمساعدة الذكاء الاصطناعي معقّدة ومتشعبة: مطورون، مزودون، إدارات، قضاة، محامون، موكلون… ولهذا بدأت تظهر في النقاشات الدولية فكرة “تقاسم المسؤولية” أو “المسؤولية المتعددة الطبقات”.
هذه المقاربة تقوم على أساس:

1. توزيع دقيق للالتزامات

المطوّر: ضمان سلامة التصميم، الشفافية في حدود النظام، التحديث المستمر.
المزود أو المنصّة: حماية المعطيات الشخصية، أمن النظام، توفير دعم تقني واضح.
المستخدم المهني (محامي، قاض، مستشار): التحقق من النتائج، عدم منح ثقة مطلقة للآلة، إدماج التقدير البشري والخبرة القانونية.

2. تشجيع نظم الامتثال الداخلي (Compliance) لدى المؤسسات

الشركات ومكاتب المحاماة يمكن أن تعتمد سياسات داخلية تحدد: متى يجوز الاعتماد على الذكاء الاصطناعي؟ ما هي حدود استخدامه؟ من يراجع مخرجاته؟ كيف نوثّق القرارات؟ كل هذا يمكن أن يقلل من المخاطر، ويجعل تحديد المسؤولية أكثر وضوحًا عند وقوع خطأ.

3. الدور التنظيمي للمشرّع والهيئات المهنية

يمكن للنظم القانونية أن تضع إطارًا خاصًا للذكاء الاصطناعي في المجال القانوني، يحدد معايير الاعتماد، وشروط الشفافية، وواجبات المزوّد والمستخدم، بل وحتى آليات خاصة للتعويض أو التأمين ضد أخطاء الأنظمة الذكية. كما أن هيئات المحامين والقضاة يمكن أن تصدر مدونات سلوك تُنظم علاقة المهنيين بهذه التقنيات.

المحور الخامس: هل نحتاج إلى “شخصية إلكترونية” للذكاء الاصطناعي؟

بعض النقاشات الفقهية ذهبت بعيدًا، واقترحت منح أنظمة الذكاء الاصطناعي نوعًا من “الشخصية الإلكترونية” لتحمّل جزء من المسؤولية عن أخطائها، بشكل شبيه بالشخصية المعنوية للشركات. الفكرة تثير فضولًا نظريًا، لكنها تواجه عدة صعوبات عملية وقانونية:
• من سيموّل التعويضات إذا أُلزم “الكيان الإلكتروني” بأداء مسؤولياته؟
• كيف يمكن قياس “خطأ” نظام لا يمتلك إرادة أو وعيًا؟
• ألا يؤدي ذلك إلى تشتيت المسؤولية وتخفيفها عن البشر الذين يقفون وراء التصميم والتشغيل؟
لذلك، يميل أغلب الفقه إلى أن منح شخصية قانونية مستقلة للذكاء الاصطناعي ليس حلًا عمليًا في المرحلة الحالية، وأن الأجدر هو تطوير قواعد المسؤولية القائمة، مع مراعاة خصوصيات التقنية الجديدة، بدل خلق “كيان قانوني افتراضي” قد يزيد من تعقيد المشهد أكثر مما يَحُلّ مشاكله.

الخاتمة

في النهاية، يبقى سؤال: من يتحمل مسؤولية خطأ الذكاء الاصطناعي في القضايا القانونية؟ سؤالًا مركّبًا لا يحتمل جوابًا واحدًا بسيطًا. فالذكاء الاصطناعي ليس “فاعلًا” بالمعنى القانوني، بل هو مرآة تعكس خيارات ومعلومات وقرارات بشرية، وإن كان يفعل ذلك بطريقة معقدة وغالبًا غير شفافة.
المطوّر يتحمل مسؤولية سلامة التصميم وصدق الادعاءات التسويقية والتحديث المستمر للنظام. مزوّد الخدمة يتحمل مسؤولية تأمين المعطيات وتوفير بيئة تقنية موثوقة. أما المحامي والقاضي والمستخدم المهني عمومًا، فيبقون مسؤولين عن عدم التخلي عن دورهم في النقد والتحليل والتقدير، وعدم جعل الخوارزمية بديلًا عن الضمير المهني والعقل القانوني.
المطلوب إذن هو مقاربة تشاركية للمسؤولية، تقوم على تقاسم واضح للالتزامات، وتعزيز الشفافية في عمل الأنظمة الذكية، وتحصين حقوق الأفراد بآليات فعّالة للتعويض والإنصاف عندما تقع الأخطاء. فالذكاء الاصطناعي، مهما بلغت قوته، يجب أن يبقى في خدمة العدالة لا العكس، وألا يتحول إلى ذريعة لطمس المسؤوليات البشرية تحت شعار: “الآلة هي التي أخطأت”.

Leave a Comment

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


Comments Rules : من شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الإلهية، والابتعاد عن التحريض العنصري والشتائم.

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

We use cookies to personalize content and ads , to provide social media features and to analyze our traffic...التفاصيل

موافق