تأثير التوجهات الكبرى للسياسات العامة على القرار المحلي

عالـم القانون13 نوفمبر 2021
تأثير التوجهات الكبرى للسياسات العامة على القرار المحلي

ان التوجهات الكبرى للسياسات العمومية تأثر لا محالة على صنع وتنفيذ القرار المحلي حيث تظل الدولة الفاعل الرئيسي في مجال التنمية الاقتصادية والاجتماعية للجهات وما فتئ دورها يتزايد ارتباطا بالدينامية الحالية التي تعرفها الاستثمارات العمومية فبالنسبة لسنة 2009 بلغت استثمارات الدولة بما في ذلك المقاولات والمؤسسات العمومية ما يناهز 130 مليار درهم أي ما يفوق 12 قيمة استثمارات الجماعات المحلية بمختلف مستوياتها(1)

وتظل الحكومة تستأثر بحق اتخاذ القرارات وتنفيذها، وبذلك ارتبط المصطلح بالخصوص بالمساطر الشكلية والمؤسساتية على مستوى الدولة بهدف تأمين وحفظ النظام العام وتسيير العمل الجماعي(2). وتعد المذكرة الحكومية إحدى القنوات الهامة لصياغة السياسات العامة، لكونها تتضمن ما تنوي الحكومة القيام به من برامج وقوانين وفق أولويات وآجال محددة تخضع للعديد من الإجراءات العملية التي تضعها الحكومة لمعالجة بعض المشاكل التي تم حصرها وتحديدها، وبهذا يتم الانتقال بالمشاكل إلى مرحلة التفكير العملي وتصبح الاختيارات والحلول ذات طابع إجرائي. ولقد اتسع نطاق تطبيق العمل الحكومي قبل انبثاق خطاب الحكامة الجيدة ليشمل كل مناحي الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، ويجد اتساع نطاق تطبيق العمل الحكومي مبرره في كون الحكومة كممثل رئيسي للدولة كانت ملزمة ببسط يدها على كل القطاعات التي يرى الرأي العام بأن تنميتها لا يمكن أن تتحقق بالمبادرة الخاصة(3). وإن بروز مفهوم الحكامة هو انعكاس للتغيير الذي طرأ في طبيعة ودور الحكومة من جهة والتطور الأكاديمي من جهة أخرى. فعلى المستوى العملي نلمس تراجع دور الدولة كفاعل مركزي في بلورة السياسات العامة نتيجة الحضور الملحوظ للفاعل الخارجي المتمثل في المؤسسات والمنظمات الدولية ومؤتمرات الأمم المتحدة.

إن تأثير البنيات السوسيوسياسية على صناعة القرار المحلي تظهر بجلاء كيفية اشتغال وتفاعل هذه الثنائية ( المركز، الوحدات الترابية )، فسياسة اللامركزية التي تعد التجسيد الملموس للمحلي، يوجهها منطق التوحيد والإدماج أكثر من إعطاء الجماعات المحلية أية استقلالية، مما يجعل الهدف الرقابي يطغى على أهداف التنمية والمشاركة المحلية.

الفقرة الأولى: تطور التنظيم الجماعي والاتجاه نحو إستراتيجية التنمية

تعكس طبيعة المجتمع الحديث مدى التعقيد الذي حدث في البناءات والمنظمات والمؤسسات بمختلف مجالاتها. كما يشهد القرن الحالي تطورا هائلا في نظم الإدارة الحديثة(4) ، الأمر الذي يترتب عليه مزيد من التعقيد والتداخل في العلاقات والتفاعلات الاجتماعية. وهكذا نجد ان معطيات العصر الحديث لها انعكاس مباشر على زيادة الأهمية بالإدارة لأنها وسيلة المجتمع وأسلوبه الحتمي لتحقيق أهدافه(5). لذلك اتجهت اغلب الدول عبر إصلاح شمولي للإدارة المحلية بالاتجاه نحو التحديث القائم على حسن التدبير وتكريس عمل الإدارة نحو التطوير والتقدم(6). وخدمة المصلحة العامة التي هي أساس العمل الجماعي أو التنظيم الجماعي المتجه بشكل تدريجي نحو تحقيق إستراتيجية تنموية. ولا بأس ان نشير إلى بعض مراحل تطور هذا التنظيم عبر تحولات التي عرفتها السياسات العمومية التنموية.

أولا: الالتزام بالتسيير الإداري البسيط (1960-1976)

إن تجربة اللامركزية هي تجربة طويلة نسبيا، ابتدأت منذ السنوات الأولى للاستقلال ( 1960 ) وأسفرت عن محاولات هادفة إلى التأسيس لدينامية الحكامة الترابية والتي لم تحقق دائما النتائج المتوخاة، حيث الانحرافات ظلت لصيقة بالمسلسلات الانتخابية،(7) و ما طبع التحالفات الحزبية المحلية من ظرفية وغياب التجانس والاستقرار(8)، وتفاوت مستويات التكوين لدى المنتخبين، وسوء التدبير والتقطيع الترابي العشوائي، حيث انه في هذه المرحلة كذلك لم تكن سياسات حقيقية الإعداد وتنمية المجال بل فقط برامج قطاعية وطنية لتنمية البلاد وهي عوامل أخرت أو أجلت التنمية المحلية في العديد من الجماعات حضرية كانت أم قروية.

لقد أرسى ظهير 23 يونيو 1960 قواعد الإدارة المحلية بإشراك المواطنين في إدارة شؤونهم بواسطة مجالس جماعية منتخبة، إلا أنه لم يتمكن من القضاء كما سبق الذكر على التفاوت الحاصل بين الجماعات الحضرية والجماعات القروية بسبب الاختلاف بينهما في المؤهلات والموارد البشرية والتقنية من جهة، ومن جهة أخرى فإن المجالس الجماعية في ظل هذا الظهير لم تكن تساهم في التسيير اليومي للمواطنين، بحيث كان التسيير مزدوجا يعود لرئيس المجلس الجماعي والسلطة المحلية الممثلة في الباشا والقائد. وقد شكل رجل السلطة في ظل هذا الظهير أهم حلقة محلية و له مكانة محورية نتيجة ازدواجية تمثيليته للسلطة المركزية من جهة والجماعة من جهة أخرى، الشيء الذي جعله يعد ركيزة أساسية في سياسة اللامركزية.(9) وأخيرا فإن ظهير 23 يونيو 1960 لم يتجاوز إطار التجربة بالنسبة للمجالس الجماعية، وقد كان من نتائجه تعميق الفهم فيما يخص العمل الجماعي وتهيئ المجال لتوسيع الإطار العام لتجربة اللامركزية ككل. وذلك في ظل احتفاظ الدولة بمراقبة صارمة للمجال الجماعي من خلال محدودية الاختصاصات الموكولة للمجالس الجماعية.

وبذلك فإنه يصعب في هذه الفترة الحديث عن إدارة محلية بالمعنى الحقيقي للكلمة، فالجماعات لم تكن تتوفر على جهاز إداري جماعي مستقل يخضع للإشراف المباشر لرئيس المجلس الجماعي، بل إن الإدارة المحلية آنذاك كانت تخضع في تسيير شؤونها إلى إشراف رجال السلطة المحلية (الباشا على صعيد المدينة و القائد على صعيد القرية)(10). و في سبيل تجاوز القصور الذي عرفه الظهير السابق، وفي سبيل إرساء مسلسل اللامركزية صدر ظهير 30 شتنبر 1976. وهو الميثاق الجماعي الذي عزز اختصاصات الجماعات المحلية بكيفية تدريجية، بحيث تم نقل بعض الاختصاصات التي كانت مخولة إلى السلطة المحلية إلى رئيس المجلس الجماعي. إلا أن محدودية تطبيقه قد دفعت إلى التفكير في تعديله، وهو ما تم بواسطة الميثاق الجماعي ل 3 أكتوبر 2002 .

ثانيا: الاستقلالية الجماعية في التسيير وبداية التسيير الاقتصادي (1976-2002)

لقد بادرت السلطة العليا إلى إدخال تعديلات وإصلاحات قانونية مست جميع مناحي الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، واعتبرت اللامركزية خيارا إستراتيجيا لا رجعة فيه، لأنه لا يمكن تحقيق الديمقراطية المحلية والتنمية الحقيقية إلا عبر المرور من بوابة اللامركزية الإدارية. وتبعا لذلك وبالرغم من أن المغرب قد عرف تنظيم محلي مباشرة بعد الاستقلال، إلا أن الحديث عن التدخل الاقتصادي لم يتزامن مع تلك الفترة. بمعنى آخر أن الجماعات المحلية كانت تقدم خدمات إدارية فقط. فتدخلاتها الاقتصادية كانت محدودة وجد هامشية، ولعل هاته الوضعية تجد مبرراتها في اعتبارات كثيرة كإنتشار الأمية وقلة التجربة الجماعية…. غير أن الدولة لم تقف مكتوفة الأيدي، بل عملت على إشراك تلك الجماعات في المجال الاقتصادي خاصة في فترة أواسط السبعينات من خلال الميثاق الجماعي ل 30 شتنبر 1976 الذي شكل في وقتها قفزة نوعية في التدبير الاقتصادي، لتبلغ أوجها في نهاية التسعينات وبداية الألفية الثالثة، وما طبع ذلك من انفتاح سياسي واقتصادي كان له انعكاسات كبرى على تدبير الشأن العام المحلي. وفي هاته الفترة تم إصدار قانون الجهة، ثم بعده مراجعة الميثاق الجماعي، ونظام العمالات والأقاليم. حيث انه في مجال اللامركزية اللاتمركز والجهوية عملت الحكومة على؛ تحديد إطار عام لإعداد التراب الوطني منسجم تم عبر وضع ميثاق وطني لإعداد التراب الوطني وكذا عبر تفعيل اللجنة الوزارية لإعداد التراب الوطني، تعزيز الإطار الجهوي الجديد الذي وضعه قانون 2 ابريل 1977عبر توزيع الكفاءات المقررة وتحسين وسائلها البشرية والمالية وتقوية مسؤولية الجماعات اللامركزية. هذه الأسباب وغيرها، كان من نتائجها صدور القانون الجديد 78.00 الذي يستمد توجهاته الأساسية من الخطب الملكية السامية التي ألقاها جلالة الملك محمد السادس منذ اعتلائه العرش، لاسيما خطابه التاريخي بمناسبة افتتاح الدورة الأولى للسنة التشريعية الرابعة بتاريخ 13 أكتوبر 2000 كما يستوحي مضامينه من تراكمات المناظرات الوطنية السبع حول الجماعات المحلية، ومن التعهدات والالتزامات الواردة في التصريح الحكومي، بالإضافة إلى الدروس والعبر المستخلصة من تجربة تزيد عن 30 سنة. ان هذا القانون بدخوله حيز النفاذ، يمكن التأكيد كونه حقق مجموعة من الأهداف السياسية، الاقتصادية، الاجتماعية، تمثلت أساسا في تثبيت ديمقراطية الجوار وترسيخ استقلالية وحريات الجماعات المحلية، وتوسيع مسؤولياتها وإبراز دورها المحوري في التنمية وتهيئة التراب والمجال والمساهمة في تقليص الاختلالات والفوارق الاقتصادية، المالية والاجتماعية حيث تم بناء هذا القانون الجديد على مبادئ وقيم وثوابت.

وبالتالي الانتقال من مرحلة التسيير الاقتصادي البسيط إلى مستوى التدخل الاقتصادي بالمفهوم الجديد (الجماعة المقولة) أو ما اقترن بها من مصطلحات المنتخب المدبر.

ثالثا: التدخلات الاقتصادية للجماعات (الجماعة المقاولة)

ان المستوى المحلي للتنمية وللتدخل الاقتصادي التنموي يجد أساسه في طبيعة المهام والاختصاصات المتعلقة بهذه المجالات وكذا بطبيعة المتدخلين المفترضين، على هذا المستوى(11) إذ من خلال هذا المستوى يمكن للمجالس الجماعية أن تلعب دورا هاما في التنمية المحلية، عن طريق التدخل الاقتصادي. هذا الأخير الذي يتم إما عن طريق تسيير الجماعة لمرفق عمومي اقتصادي أو اجتماعي عن طريق الوكالة المباشرة أو الوكالة المستقلة أو عن طريق التدبير المفوض. أو يتم هذا التدخل عن طريق المساهمة في مقاولات الاقتصاد المختلط إما مع القطاع الخاص أو العام. وبالرغم من أهمية التدخل الاقتصادي للمجالس الجماعية فإنها لازالت لم تقتحم بعد هذا المجال بشكل واسع، إما لانعدام التجربة أو لقلة الإمكانيات المالية. خاصة لدى المجالس الجماعية القروية(12). ورغبة من المشرع في تحسين أداء الجماعات المحلية والرفع من جودة خدماتها، فقد قام بمنحها إطارا ملائما للانفتاح على القطاع الخاص، إما في شكل مشاريع مشتركة من شأنها أن تدر مدا خيل مهمة على الميزانية الجماعية، أو في شكل عقد تفويت تلك المشاريع إلى الخواص، عن طريق التدبير المفوض أو الامتياز.

ويمكن اعتبار المستوى الجهوي مثلا الإطار الأمثل لترسيخ ميكانيزمات التدخل الاقتصادي للهيئات العمومية والوحدات اللامركزية، فالجهة ليست مجرد إطار قانوني أو عنصر من عناصر التقسيم الإداري أو الترابي وإنما تشكل أساسا جغرافيا لتحقيق التنمية المستدامة، عبر التنسيق وتنظيم وتفعيل مختلف آليات التدخل الاقتصادي التنموي، حيث انه في فرنسا تبرز مكانة الجهة كجماعة ترابية مكلفة بدراسة وتدقيق المشاريع المتعلقة بدعم القطاع الخاص كشكل من أشكال التدخل الاقتصادي، إلا انه ورجوعا إلى المشرع المغربي فنجده يقتصر في هذا الخصوص على إيراد عبارات عامة وغير دقيقة وركز على توزيع الاختصاصات بشكله العمومي عوض التأكيد على الدور التنموي للجماعات الترابية وللجهات على سبيل الخصوص، بل ان القانون المنظم للجهات يجعل من هذه الجماعات المحلية هيئات لامركزية ثانوية مقارنة مع الجماعات الأخرى فالبرغم من نصه على مجموعة من المقتضيات التي يمكن ان تمثل أساسا جهويا ومحليا للتنمية إلا ان إيراد عبارات فضفاضة مثل المساهمة في التنمية الاقتصادية والاجتماعية أو الإجراءات الضرورية لإنعاش الاستثمارات الخاصة والتشجيع عليها، أو حتى تهيئة مناطق صناعية لا يساعد على فهم طبيعة التدخل الاقتصادي لهذه الوحدات فبدون إجراءات قانونية وتنظيمية وعملية تركز من جهة على الدور الاقتصادي التنموي للجماعات وتؤكد من جهة ثانية على الأساس الجهوي للتدخل الاقتصادي التنموي لا يمكن تصور تدخل فعلي وحقيقي للجماعات الترابية في تنمية الجانب الاقتصادي التنموي.(13)

إذن كانت هذه مجرد لمحة تاريخية فيما يخص تطور التنظيم الجماعي، إذ سنحاول في المبحث الثاني لهذا الفصل، إبراز مستوى التدخل الاقتصادي للجهات ( جهة طنجة تطوان نموذج) في إطار القوانين الجديدة المتعلقة بالدستور وبقوانين الاستثمار الجهوي …لإبراز هل استطاعت فعلا الجماعات الترابية وبالأخص الجهة من ان تكون فعلا جماعة مقاولة، على مستوى التدخل ميدانيا هل استطاعت الاستئناس بالمقاربة الإستراتيجية لبناء مشروعها التنموي المحلي.

الفقرة الثانية: أهمية التخطيط والتدبير في إستراتيجية التنمية

يحتل كل من التخطيط والتدبير أهمية في وضع الإطار العام للاقتصاد، من اجل إيجاد معدل عال من التنمية عن طريق إيجاد معدل مرتفع من الاستثمار وكذلك عن طريق تغيير الوسائل والأهداف للاستثمار التي يريدها المجتمع والتخطيط يهدف أساسا إلى زيادة سرعة معدل التنمية كما يشكل قطاعا حيويا ذا انعكاس مباشر على مستقبل البلاد سواء على المستوى الاجتماعي أو الاقتصادي وعملية التخطيط لا تأتي مستقلة عن الجوانب الأخرى حيث تتأثر بالاقتصاد الخارجي والتغيرات في الجوانب السكانية ومواقف الحكومات تجاه عملية التخطيط ذاتها بل وموقف المخططين أنفسهم كما تتأثر أيضا بمدى كفاءة ومصداقية الهيئات التي تضطلع بإعداد الخطة وتحاول وضعها حيز التنفيذ. ان نجاح أي سياسة في أي مجال تتطلب التوفر على تخطيط محكم وفعال فبدون التخطيط القبلي والبرمجة سيؤدي ذلك حتما إلى الفوضى والعشوائية في توسع ونمو المجالات الحضرية(14). فيكون التخطيط اللامركزي وسيلة وإطارا للإدماج والتكامل في القرارات التنموية لأنه يعترف للجماعات الترابية بالقدرة على تنشيط الديناميات الاقتصادية وعلى الحوار مع الفاعلين الترابيين وترسيخ طرق تبادل المعلومات الاستثمارية. وعليه سنحاول التطرق للتخطيط والتدبير كبعدين في السياسة العامة.

أولا: التخطيط الاستراتيجي كبعد في السياسات العامة

التخطيط(15) الاستراتيجي تقنية تسمح بإدراج أهداف الخاصة في برامج العمل آخذة بعين الاعتبار العوامل التي يمكن أن تأثر على إنجاز هذه البرامج. والتخطيط هو إستراتيجية أو مجموعة من الاستراتيجيات التي تتبناها مراكز اتخاذ القرار لتوجيه البنيات الحضرية وضبط توسعها وتحسين شروط العيش بها بحيث يتاح للأنشطة والخدمات أفضل توزيع وللساكنة تحقيق أقصى الفوائد من ذلك التوزيع وللتخطيط الاستراتيجي أهمية جد كبرى لأنه:

  • يشكل قاعدة تبرير وتسلسل لأنشطة الجماعات.
  • يسمح بامتلاك نظرة شاملة ويجعلها تكون في المستوى لتحليل قدراتها.

  • يساعد الجماعات على مراقبة مستقبلها.

كما يعمل على تقسيم المجال إلى عدة مناطق يخصص لكل واحد منها وظيفة معينة (سكنية، صناعية، تجارية.) أي (وظيفة الإنتاج والتوزيع، وظيفة التنشيط عن طريق مرافق ترفيهية ورياضية، وظيفة التنقل، والخدمات كأدوات الكهرباء وشبكة التطهير، خلق توازن إقليمي بين جميع المناطق…) بمعنى أخر توجيه الاستثمارات لتحقيق تنمية حضرية في جميع المناطق وعلى أوسع نطاق بدل حصرها في المناطق المحدودة، فالتوازن في مجال التخطيط يهدف إلى توزيع عادل للأنشطة المختلفة بين اكبر عدد ممكن من المراكز بطريقة تضمن توفير الفوائد الاقتصادية والاجتماعية لجميع المناطق.(16)

والتخطيط الاستراتيجي يعد أرقي أشكال التدبير المحلي للشأن التنموي وحكامة التدبير والتسيير المالي المحلي إلا ان التخطيط التنموي المحلي بشموليته ومجالاته يحتاج في تنزيله لآليات إجرائية ومحاسبية تضبط العناصر التدبيرية والتنفيذية وتسمح بتقييم انجاز مضامينه.(17)

ينبني التخطيط على تشخيص الوضع لمعرفة مواطن قوة الجماعة الترابية المعنية (من كفاءات و إمكانيات متوفرة بالمنطقة) ونقاط ضعف (كنقص  التجهيزات والبنية التحتية) و مقارنته بما تتيحه بيئتها من فرص أو تمثله من تهديدات وبما يسعى إليه مختلف الفرقاء (مواطنون، جمعيات المجتمع المدني  فاعلون اقتصاديون  ). وبناء على هذا التشخيص من جهة و على طموحات الفريق المسير للجماعة من جهة أخرى،  يتم تحديد المشروع أو المخطط باختيار المستهدفات الكفيلة بتلبية الحاجيات الاجتماعية باستغلال نقط قوتها و التخفيف من مواطن ضعفها مع ترتيب برامج العمل و تقدير الموارد اللازمة لتحقيقها و اختيار الطرق الأنسب لانجازها (التدبير المباشر أو المفوض).  وإذا كانت هذه المقاربات الإستراتيجية التي وضعتها الجماعات المحلية و خاصة الكبرى  منها  لمواجهة تقلبات بيئتها قد حملت مسميات مختلفة مثل “مشروع المدينة أو المنطقة ” و “المخطط الاستراتيجي” أو”الميثاق الحضري”،  فإنها تعبر في مجملها عن طموح مشترك يتقاسمه الفاعلون المحليون  و يتمثل في برامج و أولويات  موجهة نحو المستقبل إلى محاولة استباق متغيرات البيئة و التأثير عليها. ومع التطور الذي عرفه الفكر الاستراتيجي في بداية عقد التسعينيات  سعت الفرق المسيرة للجماعات المحلية، إلى توظيف المقاربات  الجديدة كمفهوم الرؤيا، أو الإدارة الإستراتيجية الموارد و الكفاءات ،الشبكة، لوضع خطط تسعى من خلالها ليس  للتأقلم مع بيئتها وإنما لتعبئة الموارد اللازمة على المدى المتوسط  و الطويل و استغلال المميزات الترابية  لتحقيق طموحاتها  و مشاريعها بالتأثير على بيئتها ففي ضوء هذه المقاربة، تعكس القيادة الإستراتيجية إرادة الفريق على انجاز البرامج المسطرة للوصول إلى الأهداف المحددة مع القدرة على مقارنة الهوة أو الفرق بين الوضعية الحالية و المكانة المنشودة كما هي مسطرة في “المشروع الجماعي” فهذا الأخير يعكس طموحا عاما قادرا على تعبئة جهود و التزامات جميع الفرقاء و في نفس الآن يمثل المستقبل المأمول  إذ انه يتضمن الخطوط العريضة على المدى الطويل التي يأخذها هؤلاء بعين الاعتبار عند وضع برامجهم الخاصة و هكذا  يمكن المشروع من توظيف الكفاءات المحلية و المقدرات التنظيمية للفريق المسير لإنجاح مجمل التغييرات المنشودة كما يدل على ذلك ما وصلت إليه العديد من المدن و الجماعات من تقدم باهر.(18) غير ان تجربة التخطيط باءت بالفشل نظرا لمجموعة من السلبيات التي ارتبطت بها لذا كان لازما البحث عن إستراتيجية جديدة ومغايرة لا تقصي التخطيط.

ثانيا: التدبير الاستراتيجي كبعد في السياسات العامة

ان المغرب اليوم أمام مجموعة من التحديات، والاكراهات المطروحة سواء على الساحة الترابية أو القطاعية، وبالتالي وجب العمل على تجاوز كافة المعيقات والانتقال إلى مقاربة جديدة، بعد ان اظهر التخطيط الاستراتيجي سلبياته، ألا وهي مرحلة التدبير الاستراتيجي(19) وذلك لمواجهة تحديات العولمة ورهان المنافسة الدولية ومستلزمات الشراكة مع الاتحاد الأوروبي وإتباع منهجية جديدة، في إعداد وتنمية التراب الوطني، منهجية تعتمد مسارا تصاعديا من المحلي إلى الجهوي، ثم الوطني بمشاركة كافة المتدخلين، أي الأمر بطبيعة الحال ينبئ للانتقال إلى التدبير الاستراتيجي الذي أعاد الاعتبار للتراب في شتى المجالات…ويعتمد التدبير الاستراتيجي في شموليته على تدبير الشأن العام المحلي، ويهتم بالبعد الترابي في مجال التدبير العمومي إذ يعمل على إعطاء الأبعاد الترابية تصورات تكسوا مجموعة من المعاني ذات الارتباط، بمقاربات التنمية المستديمة والعادلة والشمولية، حيث وضعت أساليب ناجعة من اللاتوازنات والاختلالات وبنية التراب.(19)

بالرغم من التقلبات السياسية، التي عرفتها مجموعة من دول العالم، وبما أن المغرب استطاع التعايش مع منطق الأزمة، أقر الجميع بأن بلادنا قد أصبحت مثلا يحتدى بتجاربها من طرف مجموعة من الدول في مجموعة من الميادين ذات البعد التنموي بامتياز، وخير دليل على ذلك ما عبر عنه النظام التونسي الجديد من إعجاب بالتجربة المغربية في هذا المجال. إن مفهوم التقدم لا يمكن أن يمنعنا بطبيعة الحال من ضرورة تقييم الوضع الحالي في أفق محاولة بلورة سياسات إستراتيجية يمكن تطويرها وإدخال تعديلات عليها متى دعت الضرورة إلى ذلك، ومن ثمة، فالحاجة ملحة إلى ضرورة اعتماد جميع الفاعلين في الحقل السياسي على مبادئ التدبير الاستراتيجي المعمول به في الميادين التي تهم القطاع الخاص «le Management Stratégique»، من أجل صناعة واقع سياسي يتلاءم وباستمرار وانتظارات المواطنين.

إن السهر على تطبيق مبادئ التدبير الاستراتيجي داخل المؤسسات السياسية سيمكننا من تقوية دور الأحزاب السياسية ببلادنا من جهة، ومن امتصاص ظاهرة العزوف السياسي، وخاصة داخل أوساط الشباب من جهة أخرى. وكل هذا لن نتمكن من تحقيقه إلا بالاعتماد مائة بالمائة، وكما سبق ذكر، على مبدأ المرونة السياسية، باعتبارها السبيل الأوحد للقضاء على كل أشكال البيروقراطية التي تنخر الجسد السياسي المغربي.

وعموما يمكن القول ان المغرب يستحق فعلا أن يصبح مثالا يحتدا به من طرف الدول الأخرى، لا لشيء إلا لأنه بلد استطاع وبكل المقاييس تغيير واقعه السياسي بهدف خدمة المصلحة العليا للوطن والمواطن، عبر نهج جديد يجعل من الحداثة والتغيير شعار المرحلة.

ثالثا: الرؤية الإستراتيجية الأسس والركائز(رؤية 2015)

الرؤية هي القاعدة التي ينبغي ان يقام عليها بنيان إستراتيجية تنمية المجتمع المحلي فالرؤية الإستراتيجية هي تمثل للمستقبل المنشود، وهي في نفس الوقت عقلانية استشرافية منبثقة من القيم التي تحملها المجموعة البشرية، إذ تتطلب انخراط القوى الحية للجماعة المعنية وتقترح إطار عمل متناغم ومنسجم من اجل هدف مشترك، وتعبر الرؤية عن الوضعية المثالية التي نرغب في تحققها بمعنى ماذا نريد ان يصبح عليه مجتمعنا في أفق زمن معلوم.

أما الإستراتيجية هي ترجمة الرؤية إلى خطة عمل ملموسة والى مشاريع وأنشطة نتوخى من خلالها نتائج قابلة للقياس. وتتأسس الرؤية الاستراتيجة على رؤية واقية رؤية ذاتية رؤية تشاركية.

  • رؤية واقية : تأسس على معرفة جيدة بالمحيط تحلل نقط القوة والضعف والإمكانيات والفرص التي يتيحها محيطها الخارجي والداخلي.
  • رؤية ذاتية: تترجم هوية المحيط

  • رؤية تشاركية: بحيث يجد كل الفاعلين موقعهم في تعزيز التوجهات الجهوية والوطنية وصياغة رؤية إستراتيجية توافقية يتخللها الحوار والنقاش والتشاور والاحترام.

ولابد لتوجيه الرؤية من تساؤلات: ماذا نريد ان نكون عليه؟ وماذا نود عمله في المستقبل؟ بماذا نريد ان نتميز؟ ما هو التوجه الاستراتيجي الذي نريد ان نعطيه لجماعتنا اعتبارا لمؤهلاتها؟ كيف يمكن مواجهة المخاطر التي قد تعترض الجماعة على المدى البعيد؟ ما هي الفرص المتاحة لنا كجماعة 95؟

ومن هذه الزاوية، ينخرط مخطط العمل الاستراتيجي (أفق2015 )،الذي وضعته المديرية العامة للجماعات المحلية، بشكل جيد في تحقيق هذه التوجهات. ويتوزع «أفق2015 » على ستة ميادين رئيسية .. هي التخطيط للتنمية، وتعبئة وسائل التمويل وآلية التنظيم والإشراف، وتعزيز التحكم في الأشغال، وإضفاء مزيد من المهنية على الخدمات العمومية المحلية وأيضا الإطار القانوني وحياة المؤسسات المحلية، وفي المحصلة عصرنة تدبير الموارد البشرية.

وتتمحور هذه البرامج حول عدد من المحاور بدءا من النهوض بالشفافية والأخلاقيات داخل الإدارة المحلية، انتهاء إلى إرساء مشاريع للقضاء على السكن غير اللائق، مرورا بتعزيز كفاءات المنتخبين والأطر الإدارية والتقنية والجمعيات المحلية في مختلف الميادين، وأيضا تفعيل مشاريع التنمية البشرية والبرمجة البعيدة المدى للاستثمارات، باعتبار الاستثمارات المحلية هي اتجاه إستراتيجية التنمية. (20)

المراجع المعتمدة:

1– الجهوية المتقدمة في خدمة التنمية الاقتصادية والاجتماعية(الكتاب الثالث) اللجنة الاستشارية للجهوية دراسة عن الجهوية والتنمية الاقتصادية والاجتماعية ص 72.

2 Gerry Stoker : «  cinq propositions pour une théorie de la gouvernance », in Revue internationale des science sociales (RISS(,N°155,Mars 1998, p :16 . 

3– ان مفهوم الإدارة الحديثة الإستراتيجية يثير معضلات ترتبط بالعقل الإداري وكيفية الاستفادة من الإرث المعرفي الاستراتيجي وكيفية بلورة إصلاح إداري وتحديث وتنمية الإدارة من منظور آليات التفاعل والتنسيق لجوانب الفكر الاستراتيجي للمزيد من التفاصيل راجع إسماعيل بن مراد احمد البلوشي إستراتيجية التنظيم الإداري الحديث” رسالة لنيل دبلوم الدراسات العليا في القانون العام كلية العلوم القانونية والاقتصادية طنجة 2005/2006ص 5  

4 -Walter buckly :sociology and systemstheory.engle wood cliffs,n.j.oprentice,hall 1967,p41 

5 إسماعيل بن مراد احمد البلوشي المرجع السابق ص 5. 

6 في خطاب موجه إلى الشعب المغربي بمناسبة ذكرى ثورة الملك والشعب لم يترد جلالة الملك محمد السادس في تأكيد مبتغاة أن تتحول الاستحقاقات القادمة إلى فرصة ذهبية أمام الأحزاب بغية إعادة الاعتبار للعمل السياسي بمعناه النبيل، بالتعبئة من أجل المشاركة المكثفة الواعية والنوعية الجيدة للمرشحين والمنافسة الشريفة لإفراز نخبة مؤهلة وبرامج ملموسة محددة الأهداف والوسائل (الخطاب الملكي السامي بمناسبة ذكرى ثورة الملك والشعب بتاريخ 20 غشت 2002 ، نص الخطاب منشور بجريدة الأحداث المغربي ل 22 غشت 2002 ، ص.

7 محمد زين الدين، تأملات أولية في الانتخابات الجماعية المغربية ليوم 12 شتنبر 2003 ، المجلة المغربية للإدارة المحلية والتنمية عدد 60 سنة 2005 ص 145 وما بعدها. 

8 المصطفى دليل: “المجالس الجماعية بالمغرب على ضوء الميثاق الجماعي الجديد”،منشورات المجلة المغربية للإدارة المحلية  التنمية، سلسلة مواضيع الساعة العدد 40 ،2003 ،ص:94

9 صالح المستف :”التطور الإداري في أفق الجهوية المغربية”، الطبعة الأولى1989، مؤسسة الطبع و النشر الدار البيضاء، ص: 429 . 

10 عبد اللطيف بروحو مرجع سابق ص  327 

11 سمية لمساعديصناعة القرار المحلي بين رهان الحكامة واكراهات التنمية نموذج الجماعة الحضرية ابن جرير” رسالة لنيل               دبلوم الماستر في القانون العام تخصص الحكامة المحلية كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية المحمدية 2007_2008 ص 55 .  

12  مفهوم التخطيط: لقد اقترح المهتمون بالتخطيط تعار يف متعددة بتعدد زوايا النظر »فجورج تيري: يعرف التخطيط بأنه أسلوب للتفكير في المستقبل، وظرفه حتى يمكن ضبط التصرفات الحالية بما يكفل تحقيق الأهداف المقررة. «أما هايمانيعرفه بأنه »  تحديد مسبق لما سيتم عمله انه تحديد لخط سير العمل الذي يضم مجموعة منسجمة ومتناسقة من العمليات بغرض تحقيق أهداف معينة «  ويرى نيومان واسمر  »ان عملية التخطيط تغطي مجالا واسعا من الأنشطة، تبدأ بالإحساس المبدئي بوجوب عمل شيء ما، تنتهي بتحديد ما يجب عمله والزمن الذي يؤدي فيه هذا العمل والمسؤول  عنه ومن تم فالتخطيط اكبر من مجرد كونه تصورا أو حكما أو تفكيرا منطقيا انه يضم كافة العناصر والعوامل الأساسية التي يتضمنها اتخاذ قرار ما بشان ما يجب عمله  ويشكل اتخاذ القرار جانبا هاما من جوانب العملية التخطيطية. للمزيد من التوضيح انظر الحاج شكرة  ص 56 

14 السعيد زركوط “التدبير الاستراتيجي في خدمة التنمية المحلية” عن موقع www.safitoday.comالخميس, 28 يونيو, 2007  

15 التدبير مصطلح مستعار من الانجليزية management وليس له مرادف دقيق في اللغة الفرنسية،الذي نجده يشير إلى التسيير،gestion وحسب رأي عبد الرحمان الصديقي، فالمعنى الانجلوسكسوني هو المعنى الأصلح وليس المعنى الفرنسي gestion  أي التسيير كمصطلح زمن الحكومة (مرحلة التخطيط) وليس زمن الحكامة.فهذا الأخير الذي يلائمه هو مصطلح التدبير أي الحكم من القاعدة والتدبير اصطلاحا، من ”دبر“ أو ”أدار“ أي القدرة على إنجاز أشياء يجب أن تتحقق.هو التسيير العلمي للمؤسسات بتوظيف إمكانياتها المادية والمالية والبشرية بغية الوصول إلى مجموعة أهداف محددة سلفا.هو أيضا، ” فن وعلم يهتم بالحصول على الموارد المادية والبشرية وتنميتها والتنسيق بينها، وذلك قصد تحقيق هدف   أو أهداف معينة.” 

16 دراسة إعداد المخطط الجماعي لتنمية الجماعة الحضرية لطنجة (2012 – 2016 ) ولاية جهة طنجة تطوان عمالة طنجة – أصيلة 

المصدر ذ:كريمة بنصار
اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق : من شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الإلهية، والابتعاد عن التحريض العنصري والشتائم.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

نستخدم ملفات الكوكيز لنسهل عليك استخدام موقعنا الإلكتروني ونكيف المحتوى والإعلانات وفقا لمتطلباتك واحتياجاتك الخاصة، لتوفير ميزات وسائل التواصل الاجتماعية ولتحليل حركة الزيارات لدينا...التفاصيل

موافق