مسألة التكوين في العلوم القانونية أصبحت اليوم من بديهيات العمل بالمحكمة
و بهذا لن أنتظر طويلا للإعتراف لكتابة الضبط بدورها الإستراتيجي داخل منظومة العدالة، ولربما أصبحنا نلمس اليوم وأكثر من أي وقت مضى الغاية النبيلة التي من أجلها إحداث هذا الجهاز إلى جانب المؤسسات القضائية ، فالقاضي الذي أسند إليه أمر الفصل بين المتقاضين، لا يمكن له وحده
أن يقوم بجميع الإجراءات التي يتطلبها منه سير الدعوى، كما لا يمكن أن تترك له بالمقابل حرية مطلقة في تسيير الإجراءات. لذلك كان من اللازم إيجاد مؤسسة تساعده في تسييرها، بحيث إذا ترك لهيئة القضاء أمر البت في القضايا، يبقى لمؤسسة كتابة الضبط شغل وظيفة أخرى مستقلة تتمثل في تجهيز القضايا ذاتها وتوثيق جميع المقررات الصادرة عن القضاة، تأكيدا لصحة ما يصدر عنهم من أحكام وحفاظا على حقوق المتقاضين.
ولعله السبب ذاته الذي دفع بعض الفقه القانوني الحديث إلى التأكيد على أن كتابة الضبط، وانطلاقا من كونها تشكل إحدى أهم الهيآت المساعدة للقضاة، تصنف من بين المؤسسات الضامنة لدولة الحق.
مع ذلك، ورغم اضطلاعها بهذا الدور الحيوي، ما زالت كتابة الضبط وإلى حد الآن تبحث عن تحقيق ذاتها، ليس لأن القانون لا يعترف لها بذلك، ولكن لأن الممارسة أثبتت أن عملها إلى جانب المؤسسات القضائية قد سمح بتسلل كثير من التأويلات المغلوطة، التي إما أنها ساهمت في تعميق الطبيعة الإدارية لجهاز كتابة الضبط كنظام يخص مجموعة من الموظفين، وهو ما يتنافى مع موقعها المتميز الذي تحتله بمختلف المحاكم، أو أنها حاولت تحجيم الدور القضائي الذي تضطلع به، خصوصا داخل الجلسة، بإعطاء مفهوم المساعدة بعدا كابحا يقيدها بتبعية واضحة للقاضي، وهو ما يضرب في العمق روح وفلسفة أهم المقتضيات القانونية التي تنظم طبيعة عملها.
من دون إطالة، سأحاول بتواضع شديد أن أتناول الموضوع الخاص بآفاق مستقبل كتابة الضبط وفق منهجية ستعمل على تركيزه من جهة في المادة الجنائية بحكم التخصص الذي سيقيني شر الامتداد بالموضوع إلى ما أجهله، وإن كنت أتوق إلى معرفته ، وهو ما سيسمح لي من جهة أخرى بأن أحترم الربط المنطقي بين الرغبة في تصور مستقبل أفضل لكتابة الضبط في هذا المجال وبين ما يطرحه الواقع من إكراهات حالت وقد تحول وبشكل موضوعي دون الإفراط في المراهنة المتحدث عنها.
وعليه سأحاول أن أتناول الموضوع في إطار مستويين:
المستوى الأول يتعلق بتحصين كتابة الضبط باشتراط التكوين في العلوم القانونية وضرورة الاستفادة من تمرين ممنهج، أما المستوى الثاني فيهم موضوع تحديث هيكلة كتابة الضبط.
بخصوص المستوى الأول يمكن الانطلاق من أن العمل بالمحكمة يتميز بكونه مهنة قانونية بالدرجة الأولى، يستلزم للقيام به حدا أدنى من التكوين في المجال القانوني. وهو عمل تقني كذلك يتطلب تمرنا خاصا فرضته الطبيعة الإجرائية المهيمنة عليه.
فيما يرجع لمسألة التكوين في المجال القانوني، وعلى الرغم من تمسك أغلب التشريعات، ومنها المغرب، باستلزام الدراية في العلوم القانونية مبدئيا لولوج الأسلاك المهمة التي يشغلها أطر كتابة الضبط عادة، فإنه بالنسبة لسلك ”كتاب الضبط” الذين يشكلون شريحة الموظفين المتوسطة، كثيرا ما تحتكم التشريعات إلى منهجية مرنة لتوظيفهم، حيث لا ترى ضرورة اشتراط التكوين المذكور، على الرغم من أن القانون نفسه يسند لهم بعض المهام التقنية والدقيقة التي بنظرنا مهما استحضرنا القيمة العملية التي تحوزها مدة التمرين للتخفيف من هذا العائق ، يظل غياب الرصيد المعرفي القانوني النظري في هذا الباب دون ما نعقده من آمال لتصور مستقبل هذه المؤسسة، التي وكما سبق القول أصبح رهان الدولة يلقى عليها أيضا من أجل البرهنة على تشبثها بالحق والقانون.
لذلك نقترح أن تنصب الجهود أكثر حول تكريس الاقتناع بأن انتماء جهاز كتابة الضبط لمجال الوظيفة العمومية لا يتنافى أو يمنع من الاعتراف بالخصوصية التي تميز عمله داخل المحكمة ، فهو عمل حقوقي بامتياز، الشيء الذي يبرر ومن دون اصطدام مع أي مقتضى دستوري اشتراط التكوين الحقوقي كذلك بالنسبة لسلك ” كتاب الضبط”، ما دام أن تقنية العمل بالمحكمة وارتباطه الوثيق بفضاء العدالة يفرضان مثل هذا التشدد ، فضلا على أن جامعتنا لا تبخل وفي كل سنة عن تزويد سوق الشغل بعدد مهم من المتخصصين في المجال الحقوقي.
وبالمنطق نفسه نثمن استجابة مرسوم 9 يوليوز2008، بشأن النظام الأساسي الجديد لموظفي هيأة كتابة الضبط، لما دعونا إليه في أشغال الجمع العام للإتحاد الأوربي لكتابة الضبط المنظم بمدينة مراكش سنة 2002 من ضرورة فتح المجال لحملة الشهادات العليا لتعزيز ودعم موقع أطر كتابة الضبط ، حتى تصبح تقنية إسناد مناصب المسؤولية – رؤساء مصالح كتابة الضبط – لا تحتكم فقط لمعيار الأقدمية في الوظيفة، وهو ما لا نشك في سلامة المنطق المعتمد عليه ، بل تتمتن أيضا بما يحمله الرصيد المعرفي العمق من قيمة مضافة، لا نشك أيضا في مدى قدرته على تطوير مناهج العمل التي ليست دائما هي بحاجة إلى خبرة عملية، بل أيضا إلى كفاءة نظرية عالية لها من الجرأة ما يكفي لتغيير الأساليب الإدارية العقيمة.
وبخصوص التمرين وضرورة الاستفادة منه بشكل ممنهج، نقول إنه إذا كانت مسألة التكوين في العلوم القانونية قد أصبحت تعد اليوم من بديهيات العمل بالمحكمة ، فإن إعطاء فرصة للتمرس على هذا العمل قد أصبح ضرورة فاعلة لتمتين الرصيد النظري بالتقنيات الميدانية . ولعل هذه الحقيقة هي التي دفعت الفقيه Aydalotإلى القول «إن المحكمة بالنسبة لكلية الحقوق ، يجب أن تكون كالمستشفى بالنسبة لكلية الطب «. لذلك عملت بعد التشريعات، ومنها المشرع الفرنسي، على إحداث مدرسة خاصة بجهاز كتابة الضبط متبنية بذلك نموذجا خاصا للتمرين.
وقبل الحديث عن التجربة الفرنسية، التي نعتبرها رائدة في هذا المجال، والتي نرى في تبنيها مستقبلا واعدا لجهاز كتابة الضبط يستجيب لرهانات الإصلاح ، يمكن القول إن وزارة العدل المغربية تبذل مجهودات لا بأس بها في هذا المجال، ولو في غياب النص القانوني الذي ينظم مؤسسة التمرين. وهو ما نأمل وندعو إلى ضرورة التفكير فيه وتحقيقه في المستقبل القريب.
لقد عمدت فرنسا – حسب المعلومات المتوفرة لدينا – بمقتضى قانون 29 أبريل 1974 المعدل بقانون7 دجنبر 1999 والملغى بدوره بقانون 5 مارس 2001 إلى إحداث مدرسة وطنية خاصة بجهاز كتابة الضبط جعلت مقرها بـ Dijon ، وسطرت من بين أولى اهتماماتها السهر على التكوين الأساسي والمستمر لموظفي كتابة الضبط، هذه المدرسة قد نعتبرها نموذجا ناجحا وتقنية فريدة سلكتها دولة أوربية من أجل شمل مؤسسة كتابة الضبط بالاعتبار الخاص المعترف به دائما لجهاز القضاء. فبالإضافة إلى مدها بالأساتذة نفسهم المكلفين بتكوين وتمرين سلك القضاء، نجد أن نظام التمرين يعرف بهذه المؤسسة تميزا واضحا ، فالمواد المدرسة على تنوعها وشموليتها لكافة فروع القانون ، تتميز بالأهمية التي تحظى بها المادة الجنائية في التدريس. وفيما يرجع لمدة التمرين بهذه المؤسسة فهي تتراوح بين ثلاثة عشر شهرا وأربعة عشر شهرا حسب السلك الذي سيشغله كاتب الضبط، موزعة بين المدة المخصصة للتمدرس من أجل التحسيس بالوظيفة وقضاء تمارين عملية بالمحاكم، بالإضافة إلى إجبارية الخضوع للتكوين المستمر قصد التخصص. وبنظرنا، يكفي التوقف على أهمية المدة المخصصة للتمرين والطريقة المعتمدة لتوزيع مدته ليتأكد لنا على أن النموذج الفرنسي يمكن كتابة الضبط ليس فقط من التمرس على تقنيات العمل بالمحكمة ، بل يساهم أيضا في تمتين رصيدها المعرفي الخاص ، وهي طريقة ناجعة لتزويد كتابة الضبط بالأطر المؤهلة كلما استدعى الأمر ذلك .
بالنسبة للمستوى الثاني المتعلق بتحديث هيكلة كتابة الضبط، يمكن القول بأن مبدأ ازدواجية كتابة الضبط،أي توزيعها بين كتابة تابعة لرئاسة المحكمة وكتابة تابعة للنيابة العامة في البلدان التي تأخذ طبعا بهذا النظام، لم يكن في حقيقة أمره سوى مدخل لتأصيل مظاهر التهميش والتبعية التي تعاني منهما المؤسسة ، وعامل قوي وراء تغييب الدور الهام الذي تضطلع به إلى جانب القضاء الجنائي.
المحطات الأربع التي تميز هيكلة كتابة الضبط
إن نظرة شمولية لعمل مؤسسة كتابة الضبط بمصلحتيها، وبإجراء مقارنة ولو بسيطة بين مختلف الأقسام التي تتضمنها تؤكد أن مبدأ ازدواجية كتابة الضبط إنما ترك في العمل تكثيفا غير مبرر للمهمة الإجرائية، بإيجاد مكاتب ووسائل متكررة كان الأولى إقصاؤها أو على الأقل اختزالها. كما أن التمييز غير المنطقي بين مصلحتين تنتميان لمؤسسة واحدة نتج عنه بالأساس تغييب بعض الخصائص الهامة التي تميز تدخل كتابة الضبط كمؤسسة مستقلة ومسؤولة داخل المحكمة، ذلك لأن انتماء كتابة النيابة العامة لسلطة المتابعة وحرمانها من الاضطلاع بأي دور قضائي سجل في العمل هيمنة واضحة للجانب الإداري على تدخل هذه المصلحة، وهذا أمر يتنافى في نظرنا واقعا ومنطقا مع المبادئ الأساسية التي تحكم مؤسسة كتابة الضبط عموما .
وهكذا في فرنسا، حسب البحث الذي أنجزناه سنة 1993، تظهر المهمة الإجرائية ملخصة في محطات أربع تجسد فعلا أهم مراحل الدعوى الجنائية: فمكتب الضبط يغطي مرحلة المتابعة بكاملها، ولم يتطلب ذلك سوى أربعة مكاتب فرعية. فنجد مثلا إلى جانب مكتب تسجيل المحاضر مكتبا خاصا بالبحث عن السوابق القضائية يساعد على معرفة الحالة الجنائية للمتهم بصورة مؤكدة.
وتنبه المشرع الفرنسي إلى تخصيص هذا المكتب وتمييزه عن بقية المكاتب الفرعية المكونة لمكتب الضبط نظرا للدور الهام الذي يضطلع به في أول مرحلة تعتمدها الدعوى الجنائية، أي مرحلة المتابعة، بل لقد ميز المشرع الفرنسي كذلك بالنسبة إلى عملية تسجيل المحاضر بين إنجازها والمتابعة الصادرة بشأنها، وخص كل واحدة منها بمكتب منفرد، حتى يقع التخلص من القضايا التي وقع حفظها، وينصب الاهتمام بالتالي على القضايا المثارة بشأنها المتابعة.
وبمرحلة تجهيز القضايا، لم ير المشرع المذكور فائدة جعل هذه العملية من اختصاص كل المكاتب حسب نوع الجريمة، بل نهج في ذلك طريقة حكيمة تميز بين إعداد الملفات والوثائق من جهة، وتعيين الجلسات من جهة أخرى، وهو تخصيص نرى له أكثر من فائدة، بحيث ترمز العملية الأولى إلى التركيز بالأساس على ملاحظة مدى تكامل وثائق الملف والمحافظة عليها من التلف، وهذه لوحدها تستوجب الإنفراد بمكتب خاص. بينما تؤكد العملية الثانية على أن مبدأ السرعة في المادة الجنائية واحترام الآجال المعقولة جعلا المشرع الفرنسي يصب اهتمامه كذلك وبشكل متواز مع العملية الأولى على تعيين الجلسات ، ولا تخفى الفائدة الكبرى المراد تحقيقها من خلال هذا التخصيص، والمشاكل الكثيرة التي يمكن تجاوزها بواسطته .
فيما يرجع لمرحلة المحاكمة، يخصص المشرع الفرنسي مكتبا يهتم بمسك محاضر الجلسات، وفي هذا أكبر دليل على أن هذه الوثائق الخطيرة يجب أن تسند لمكتب متخصص حتى تترسخ لدى المشرفين عليه الأهمية المصيرية التي تحوزها محاضر الجلسة، وحتى يتمكن المسؤلون بالمحكمة من اختيار كتاب الضبط من ذوي الكفاءة بهذا الإجراء .
وفي المرحلة الأخيرة أي مرحلة التنفيذ، ركز المشرع على مسألتين هامتين: مسك البطائق وعملية التنفيذ في حد ذاتها، وخصهما بمكتبين مستقلين إيمانا منه بأن عملية مسك البطائق وتهييئها هي أيضا لها دورها الخاص في هذه المرحلة، إذ يجب تخصيصها وتمييزها عن التنفيذ كعملية مادية، خصوصا عندما يتعلق الأمر بمسك تلك البطائق، حيث ينبغي أن تبذل بشأنها أكبر عناية، وحتى لا يقع التنفيذ إلا على المعني بالأمر وفقا لما انتهى إليه منطوق هيأة الحكم .
هذه المحطات الأربع التي تميز هيكلة كتابة الضبط مبدئيا في فرنسا إنما تؤكد على أن مستقبل هذه المؤسسة إنما يراهن على ما يحمله النظام الوحدوي من مزايا، لا تتجسد فقط في اختزال الوسائل المادية والبشرية وتركيزها فيما يصحح الدورة الإجرائية بتحقيق الربط الإيجابي بين مختلف حلقاتها، بل تكرس في العمق طبيعة العمل الجماعي الذي تؤمنه مؤسسة كتابة الضبط إلى جانب المؤسسة القضائية، وهو عمل إن كان في ظاهره ينبغي أن يجسد أهم القنوات التي يمر منها ملف الدعوى في المجال الجنائي من دون تكثيف مفتعل ، ففي بعده وفلسفته يسمح بالقول إن كتابة الضبط هي المؤتمن الأصيل على مختلف النوازل التي ترد على المحكمة. لذلك لا نتردد في التأكيد على الأهمية الحيوية التي يكتسيها موضوع الهيكلة، خصوصا تحديثها في إطار هذا الشكل، لأنه انعكاس صادق لمدى اعتراف المشرع لكتابة الضبط بهذا الدور المستقل والمسؤول، والذي شئنا أم أبينا يحمل خلفية إحداث جهاز يمنع من الاعتراف للقضاء بسلطة إنفراده بتسيير القضايا .
من كل ذلك نخلص إلى أنه في غياب اشتراط التكوين في المجال القانوني بالنسبة إلى كل موظفي كتابة الضبط والحرص على التمسك بضرورة الخضوع إلى تمرين ممنهج، بالإضافة إلى إعطاء مفهوم الهيكلة بعدا استراتيجيا لا يمكن بنظرنا المتواضع أن نتصور للمؤسسة المذكورة دورا واضحا إلى جانب المؤسسة القضائية، ولعلها الحقيقة الثابتة التي ينبغي استحضارها بقوة ونحن ماضون في الانخراط وبكل ثقة في ورش إصلاح القضاء
مستقبل كتابة الضبط بين الواقع و الأفاق
أفاق مستقبل كتابة الضبط
فريد السموني(أستاد التعليم العالي بكلية الحقوق المحمدية)
المصدر
فريد السموني