نظام الإثبات في المادة الزجرية

نظام الإثبات في المادة الزجرية-حرية الإثبات-إقتناع القاضي-المحاضر-الإعتراف-شهادة الشهود-الخبرة

نظام الإثبات في المادة الزجرية

    تحتل قواعد الإثبات أهمية خاصة في الخصومة مهما كانت طبيعتها : مدنية أو تجارية أو إدارية أو زجرية … باعتبارها قوام إثبات الدليل على الحق موضوع المنازعة، والذي قد يضيع إذا لم يقم الدليل على صحته.

وتزداد أهمية قواعد الإثبات في المادة الزجرية بفعل الخصوصية التي أفردتها لها جل التشريعات العالمية من خلال مبدأ حرية الإثبات كأصل ما لم ينص القانون على غير ذلك، خلافا لما هو معمول به بالنسبة لباقي أنواع الخصومات (غير الزجرية) التي تنبني فيها قواعد الإثبات على وسائل محددة حصرا، ومبدأ الاقتناع الوجداني الصميم للقاضي من خلال التقدير الحر للأدلة.

ولم يخرج المشرع المغربي عن هذا التوجه من خلال وضع ضوابط لنظام الإثبات في المادة الزجرية تقر بمبدأي حرية الإثبات واقتناع القاضي الصميم، وتحدد قيمة وحجية بعض وسائل الإثبات. مع الإشارة إلى أن نظام الإثبات المعمول به حاليا طرح مجموعة من الإشكالات على مستوى الممارسة العملية ارتبطت من جهة بحقوق المتهم وضمانات المحاكمة العادلة، ومن جهة ثانية بوسائل الإثبات الحديثة.

هذا، ما سنحاول الإحاطة به من خلال المحورين الآتيين:

 أولا: الإطار القانوني الوطني لنظام الإثبات الزجري.

 ثانيا: تقييم نظام الإثبات الزجري بالمغرب.

أولا : الإطار القانوني الوطني لنظام الإثبات الزجري.

     تعرض المشرع المغربي بالتنظيم لنظام الإثبات الزجري ضمن مقتضيات المواد من 286 إلى 296 من قانون المسطرة الجنائية بالإضافة إلى بعض المقتضيات المضمنة في النصوص الزجرية الخاصة التي نصت على إثبات بعض الجرائم وفقا لقواعد خاصة وهو بذلك أقر حرية الإثبات واقتناع القاضي الصميم كمبدأين أساسيين يقوم عليهما نظام الإثبات الزجري في المغرب أسوة بباقي التشريعات العالمية مع تخصيص بعض الاستثناءات بقواعد إثبات محددة.

أ. مبدأ حرية الإثبات في المادة الزجرية :

يقوم نظام الإثبات الزجري على حرية الإثبات كأصل عام طبقا لمقتضيات المادة 286 من قانون المسطرة الجنائية، التي نصت على ما يلي: ” يمكن إثبات الجرائم بأية وسيلة من وسائل الإثبات، ما عدا في الأحوال التي يقضي القانون فيها بخلاف ذلك…”.

     وتتمثل حرية الإثبات في المادة الزجرية في أحقية ممارسة كل أطراف الخصومة الجنائية – من المتهم والقاضي والنيابة العامة والضحية – وبحرية تامة غير مقيدة حق تقديم كل الأدلة المتاحة التأكيد الإدعاء أو نفي مزاعم الطرف الآخر، كلما توافرت في هذه الأدلة الشروط القانونية، وذلك نظرا لصعوبة الإثبات في هذا النوع من القضايا لكون الجريمة يتصل وقوعها بزمن سابق لإثباتها.

        غير أن مبدأ حرية الإثبات قد يقيد في الحالة التي ينص فيها القانون على وسائل محددة الإثبات جريمة معينة، إذ لا تقبل أية وسيلة أخرى للإثبات غير الوسيلة التي حددها القانون كما هو الحال بالنسبة لجريمتي الخيانة الزوجية والفساد اللتين تثبتان فقط بالوسائل المقررة في الفصل 493 من مجموعة القانون الجنائي والمحددة في محضر رسمي يحرره أحد ضباط الشرطة القضائية في حالة تلبس، أو في اعتراف تضمنته مكاتيب أو أوراق صادرة عن المتهم أو اعتراف قضائي، وكذا جريمة السياقة تحت تأثير الكحول أو تجاوز السرعة المحددة قانونا إذ تشترط مدونة السير على الطرق وجود أداة قياس الإثبات الجرائم المذكورة…. .

ب. مبدأ اقتناع القاضي الصميم:

      لم يعرف المشرع المغربي على غرار جل التشريعات المقارنة مبدأ اقتناع القاضي الصميم، وإنما أشار إليه ضمن مقتضيات المادة 286 من قانون المسطرة الجنائية التي ورد فيها ما يلي: “ويحكم القاضي حسب اقتناعه الصميم ويجب أن يتضمن المقرر ما يبرر اقتناع القاضي وفقا اللبند 8 من المادة 365 الآتية بعده”.

   وأمام غياب تعريف “تشريعي لمبدأ اقتناع القاضي الصميم، ذهب الفقه إلى تعريفه “بالسلطة التقديرية التي يخولها القانون للقاضي الجنائي في التقدير الحر والمسبب لعناصر الإثبات في الدعوى”، في حين ذهب البعض في إطار إعطائه مفهوما موسعا يمزج بين ما هو سيكولوجي وقانوني إلى تعريفه ب”حالة الإدراك التي يسلم معها العقل تسليما جازما بثبوت أو نفي واقعة أو عدة وقائع استنادا لقواعد المنطق القائمة على الاستقراء والاستنتاج، والمستمدة من أدلة وبراهين قضائية حاسمة”

هذا، وقد اشترط المشرع لصحة الإثبات الجنائي القائم على اقتناع القاضي مجموعة من الضوابط:

1-إستناد الاقتناع على دليل قضائي:

تنص مقتضيات المادة 286 من قانون المسطرة الجنائية على أن المقرر الصادر من القاضي في القضية ينبغي أن يتضمن ما يبرر اقتناعه وفقا لمقتضيات البند 8 من المادة 365 من نفس القانون والتي تنص على أن المقرر القضائي يجب أن يحتوي على الأسباب الواقعية والقانونية التي ينبني عليها الحكم أو القرار أو الأمر ولو في حالة البراءة.

ويشترط في صحة الإثبات الجنائي القائم على اقتناع القاضي أن يستمد على دليل قضائي يتخذ إحدى الصور الآتية:

. المحاضر والتقارير المنجزة أثناء البحث:

أعطى المشرع المغربي للمحاضر والتقارير التي يحررها ضباط الشرطة القضائية في شأن التثبت من الجرائم قيمة قانونية تختلف حسب وصف الفعل الجرمي من جهة، والجهة المحررة لها من جهة ثانية وذلك وفق ما يلي:

– محاضر وتقارير يحررها ضباط الشرطة القضائية للتثبت من الجنح والمخالفات يوثق بمضمنها ما لم يثبت ما يخالفها بأي وسيلة من وسائل الإثبات (المادة 290 من ق م ج)؛

– محاضر وتقارير تعتبر مجرد معلومات فقط كالمحاضر المنجزة في الجنايات (المادة 291 ق م ج)؛

– محاضر وتقارير لا يمكن الطعن في مضمونها إلا بالزور ولا يمكن تحت طائلة البطلان إثبات عكسها بغير هذه الوسيلة (المادة 292) كبعض محاضر المياه والغابات أو إدارة الجمارك والضرائب غير المباشرة ومحاضر الجلسات بالمحاكم…. هذا، وقد نصت المادة 289 من قانون المسطرة الجنائية على أنه لا يعتد بالمحاضر والتقارير التي يحررها ضباط وأعوان الشرطة القضائية والموظفون والأعوان المكلفون ببعض مهام الشرطة القضائية، إلا إذا كانت صحيحة في الشكل وضمن فيها محررها وهو يمارس مهام وظيفته ما عاينه أو تلقاه شخصيا في مجال اختصاصه.

  • الاعتــــــــــــــــــــــــــــــــــراف :

يعرف الاعتراف بإقرار المتهم على نفسه بصحة ارتكابه للجريمة المنسوبة إليه، ويعد سید الأدلة وأقواها تأثير على نفسية وقناعة القاضي الوجدانية ويتوزع الاعتراف إلى نوعين:

اعتراف قضائي يصدره المتهم أمام المحكمة واعتراف غير قضائي يصدره المتهم أمام هيئة غير قضائية كالتصريحات المدلى بها أمام الشرطة القضائية

هذا، وقد ربط المشرع المغربي الاعتراف ببعض الضوابط تضمن صدوره بشكل صحيح وبدون أي تأثير، حددتها مقتضيات المادة 293 من قانون المسطرة الجنائية فيما يلي:

– إخضاع الاعتراف للسلطة التقديرية للقاضي.

– عدم الاعتداد بكل اعتراف ثبت انتزاعه بالعنف أو الإكراه.

كما أقرت المادة 294 من نفس القانون عدم إمكانية إنتاج الدليل من الرسائل المتبادلة بين المتهم ومحاميه.

. شهـــــــــــــادة الشــــــــــــهود:

   تلعب الشهادة دورا هاما في الإثبات الجنائي، تتم عن طريق تصريح الشاهد بما عاينه أو سمعه أو أدرکه بحواسه، وتعد طبقا لمقتضيات المادة 296 من قانون المسطرة الجنائية حجة لا تقل أهمية عن باقي وسائل الإثبات الأخرى، تتم وفق الإجراءات المنصوص عليها في المواد من 325 إلى 347-2 من القانون المشار إليه أعلاه.

وتخضع الشهادة لتقدير القضاة كغيرها من وسائل الإثبات الأخرى، حيث للمحكمة بناء على سلطتها التقديرية وقناعتها أن تأخذ بها أو ترفضها، أو ترجح شهادة معينة على شهادة أخرى….

  • الخبــــــــــــــــــــــــرة:

تعتبر الخبرة وسيلة هامة يلجأ إليها من طرف المحكمة في بعض المسائل الفنية أو التقنية أو العلمية التي يصعب على القاضي فهمها بصورة دقيقة ويتم انجاز الخبرة كما تنص على ذلك مقتضيات المادة 295 من ق م ج وفق الإجراءات المحددة في المادتين 194 و195 والمادة 198 وما يليها إلى غاية 208 من نفس القانون.

1-أن يكون الاقتناع وليد أدلة لها أصل في الدعوى تماشيا مع مقتضيات المادة 287 من قانون المسطرة الجنائية على أنه: “ لا يمكن للمحكمة أن تبني مقررها إلا على حجج عرضت أثناء الجلسة ونوقشت شفهيا وحضوريا أمامها “، إذ أن اقتناع القاضي يجب أن يقوم على أدلة وحجج طرحت أمام القضاء وناقشها كافة الأطراف في جلسة علنية.

2-أن يكون الاقتناع مبني على أدلة مشروعة ويحصل من إجراءات صحيحة ووفق الشكليات التي حددها القانون، فمثلا لا يعتد بالمحاضر والتقارير إلا إذا كانت صحيحة في الشكل وضمن فيها محررها، وهو يمارس مهام وظيفته، ما عاينه أو تلقاه شخصيا في مجال اختصاصه (المادة 289 ق م ج).

3-أن يكون الاقتناع حازما وكل شك ينبغي أن يفسر لفائدة المتهم.

هذا، وتجدر الإشارة إلى أن المشرع المغربي منح للقاضي صلاحية تقدير الأدلة مع فرض بعد الحدود والضوابط من قبيل:

*إحتـــــــــــــــــــــــــــــــرام حجية بعض المحاضر التي لا يمكن إثبات عكس مضمنها إلا عن طريق الطعن بالزور (المادة 292 ق م ج).

*التقيد بقواعد الإثبات المدني أو الأحكام الخاصة إذا كان ثبوت الجريمة يتوقف عليها (المادة 288 ق م ج).

* التقيد بوسائل الإثبات المقررة قانونا لبعض الجرائم أو بعض الأجال لتقديمها.

* الرقابة القضائية على سلامة تقدير الأدلة الجنائية وهي رقابة واقعية وقانونية فمحاكم الموضوع الأعلى درجة التي تنظر في الطعن (محكمة الاستئناف) تراقب الواقع والقانون وتناقش سلطة القاضي التقديرية باعتبارها جزءا من الوقائع والقرائن التي يتم بها إثبات الجريمة. وأما محكمة النقض فلا تراقب سوى التطبيق السليم للقانون، ولا يمكنها مناقشة قناعة قضاة الموضوع إلا إذا لم تكن معللة تعليلا كافيا أو كان التعليل يتضمن تناقضا مثلا.

ثانيا : تقييم نظام الإثبات الزجري بالمغرب

يلاحظ من خلال استعراض الإطار القانوني لنظام الإثبات الجنائي بالمغرب أنه أخذ بالتوجه السائد في أغلب التشريعات الجنائية المقارنة من حيث الأخذ بمبدأي حرية الإثبات واقتناع القاضي الصميم كأساس، ووضع بعض الضوابط لسلطة القاضي الجنائي في تقدير الأدلة.

غير أن الممارسة العملية كشفت مجموعة من الملاحظات يمكن إجمالها فيما يلي:

– تضارب العمل القضائي بخصوص إشكالية شهادة متهم على متهم.

– مركز المساطر المرجعية (ويقصد بها التصريحات التي يدلي بها بعض الأشخاص في قضايا سابقة يتهمون فيها أشخاص آخرين بمشاركتهم في الجريمة التي ضبطوا من أجلها، وتعتمد عليها المحاكم الإدانة الأشخاص المصرح بهم بعض ضبطهم لاحقا) في نظام الإثبات الجنائي والتي كانت سببا في إدانة العديد من الأشخاص في قضايا المخدرات بالخصوص.

– تضارب العمل القضائي في شأن ترجيح شهادة الشهود بين النفي والإثبات.

– ضعف إمكانيات الإثبات التي تفرضها بعض النصوص الخاصة كأداة قياس الكحول بالنسبة لإثبات جنحة السياقة تحت تأثير الكحول والردارات بالنسبة لمخالفات تجاوز السرعة المحددة قانونا….

-غياب إطار تنظيمي لبعض وسائل الإثبات الحديثة.

Leave a Comment

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


Comments Rules : من شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الإلهية، والابتعاد عن التحريض العنصري والشتائم.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

We use cookies to personalize content and ads , to provide social media features and to analyze our traffic...التفاصيل

موافق