تمهيــــــــــــــــــــــــــــد:
لما كان الخوف من الوقوع ضحية الجريمة، ظاهرة قديمة عاناها الإنسان في كل عصور البشرية ولا زال إلى اليوم يعانيها بل على قدر أكبر مما كان في الماضي، فقد اشتغل قادة الفكر وولاة الأمور في البشرية، بالبحث عن أسباب الإجرام على أمل التوصل إليها والقضاء عليها، وانبرى الفاحصون المدققون يدرسون أشخاص المجرمين وغير المجرمين سعيا وراء الكشف عن علامة عساها تنبئ حالة وجودها في إنسان ما بأنه مصدر للإجرام، دون أن يكون التوفيق حليفهم.
وكان الوقوع ضحية الإجرام ولا يزال شبيها بضريبة تفرضها الحياة على الأحياء، ولا يكف الناس مع ذلك عن السعي الحثيث في سبيل الخلاص منها أو الحد من وطئتها. فبذلوا سواء بأنفسهم أو عن طريق الدولة كممثل قانوني لهم، جهودا غير منقطعة ولا تزال متواصلة تنقيبا عن مصدر الإجرام فيمن يجرمون وعن الكيفية التي يتكون بها المجرم والتي على هدى منها يمكن رسم الكيفية التي يتقوم بها والتي يأمن بها المجتمع شر أمثاله كذلك.
لقد عرفت المجتمعات الإنسانية الجريمة وظلت ملازمة لها حتى وصفها بعض المتخصصين في علم الإجرام بأنها ظاهرة طبيعية، وأن ليس للإنسان منها مفرا إما بوصفه فاعلا لها أو مجنيا عليه. أو هي أمر واقع حتما كلما توفرت شروطها، شأنها في ذلك شأن بعض الظواهر الطبيعية الأخرى كغليان الماء أو تجلده إذا بلغت حرارته درجة معينة.
وها هو العالم الإيطالي أنريكو فيري يتأثر بالقوانين الطبيعية، فيصيغ في هذا المعنى قانونا أطلق عليه اسم قانون الكثافة الإجرامية، يتعين وفقا له وقوع نسبة من الإجرام لا تزيد ولا تنقص سواء رضي المجتمع بذلك أم لم يرض.
ولا يخفي القائلون بهذا الرأي تشاؤمهم المفرط إزاء ظاهرة الجريمة، الأمر الذي يجعل رأيهم محل نظر. فوصفهم للجريمة بأنها ظاهرة طبيعية يجافي واقع اليوم والأمس. فالجريمة مهما ارتفعت معدلاتها تعتبر ظاهرة استثنائية في حياة المجتمع، والدليل على ذلك حالة الرفض وردود الفعل المنظمة وغير المنظمة حيالها. ونعني بذلك استنكار ضمير المجتمع لها وكذا العقوبات المقررة لها.
ومن الذين اعتبروا الجريمة ظاهرة طبيعية إيميل دوركايم، بل هي في نظره حاجة ضرورية لتطور المجتمعات. وحجته في ذلك أن لا تقدم بلا حرية، وأن المجتمع الذي ينشد التطور ينبغي عليه أن يفسح لأفراده مجالا لحرية التصرف.
وفي هذا الإطار يسيء بعض الأفراد فهم الحرية، ومنهم من يسيء استغلالها ليرتكب الجريمة. وخلاصة هذا الرأي أن وقوع الجريمة في مجتمع ما، هو في تقدير دوركايم أمارة من أمارات تطوره، لأنه دليل على وجود قدر من الحرية فيه. أما إذا انقطع دابر الجريمة في مجتمع ما، فذاك أمر لا يمكن اعتباره على أي وجه بادرة صحة، بل هو علامة جمود، ودليل تصلب، ونذير فناء؛ ذلك أن اختفاء الجريمة يعني أن عوامل الضغط والقهر قد بلغت مداها، فأعدمت كل حركة، وقتلت كل فكرة، وكبلت الناس بالأغلال، وكتمت منهم الأنفاس.
وإذن فالجريمة في نهاية المطاف هي ثمن التطور الذي تحرزه الحضارة، فهي تضحية لازمة بجزء من تماسك المجتمع من أجل تطوره وارتقائه.
ويخلص عالم الاجتماع الأمريكي “سندرلاند” إلى النتيجة ذاتها عندما يوازن بين الأضرار المالية المترتبة على الجريمة وما يلزم من مبالغ مالية للقضاء عليها، وينتهي إلى القبول بها كأمر واقع بحكم ضخامة ما يجب إنفاقه سنويا للوصول إلى مجتمع بلا جريمة.
وقبل هؤلاء جميعا تعرض العالم العربي الفذ ومؤسس علم الاجتماع عبد الرحمن بن خلدون إلى حالة التجمع وضرورتها لتقدم الحياة الإنسانية موضحا ما قد تفرزه الحياة المجتمعية من صراع وتناقض في المصالح بحكم النوازع الفردية لدى الأفراد، الأمر الذي يحتم وضع حدود لها من أجل استمرار الحياة المجتمعية.
فالمجرم والجريمة هو موضوع ذلك العلم الذي لا يزال إلى يومنا هذا آخذا طريقه إلى النمو والنضج والاكتمال، والذي يسمى في منهج كلية الحقوق بعلم الإجرام.
ومنذ أن بزغ فجر هذا العلم وكانت جذوره الأولى في فلسفة الإغريق حتى بلغ مرحلته الحالية من الكفاح في سبيل الحقيقة العلمية، تزداد أهميته يوما بعد يوم ولاسيما مع التزايد في موجة الإجرام.
والمتفحص لحقيقة الجريمة يجدها تمر دائما بمراحل ثلاث:
المرحلة الأولى: نشوء القاعدة السلوكية.
أولى تلك المراحل تبدأ عندما تلجأ الجماعة الإنسانية إلى وضع إطار عام لمجموعة من قواعد السلوك –التي نتعارف على تسميتها بالقواعد القانونية- التي يؤمل أن تسود بين أعضائها، وبموجبها تباعد الجماعة بينها وبين الفوضى واللانظام وتؤمن به مصالحها وقيمها التي تراها جديرة بالحماية، سياسية كانت هذه المصالح أو اقتصادية أو اجتماعية. ويوجب كل هذا أن تحدد الجماعة الإنسانية أجزية معينة توقع على من يخرج على إطار القواعد المنظمة للسلوك. عندئذ تتشكل القواعد التي توجه سلوك الأفراد نحو عمل أو الامتناع عن عمل ما من الأعمال.
المرحلة الثانية: التقييم السلوكي.
يلي مرحلة نشوء القاعدة السلوكية، ومنها القواعد الضابطة للسلوك الفردي مع المصالح الجوهرية التي يحميها القانون الجنائي، المرحلة التي نسميها مرحلة التقييم السلوكي، إذ في ضوء القواعد التي رسمتها الجماعة تجري هذه الأخيرة من قبل سلطة عليا فيها مراجعة وتقييم لأنماط السلوك الفردية داخلها، كي تحدد في ضوء هذا التقييم ما يعد انتهاكا –ومن ثم يكون جريمة- للقواعد التي تحكم السلوك داخلها.
وبتعدد وذيوع عدم التكيف بين بعض أفراد الجماعة مع القواعد السلوكية الجنائية السائدة فيها، ومن ثم شيوع حالات الخروج الصريح على تلك الأخيرة في صورة الجريمة، تتشكل ما يعرف باسم الظاهرة الإجرامية، التي تقود في النهاية إلى تنوع الأمزجة وتفردها بين أعضاء الجماعة وتنوع ردود أفعال هؤلاء تجاه ما يتبناه المجتمع من أفراد ومعتقدات وفلسفات ساعدت على تشكيل الهيكل السياسي والاقتصادي والثقافي له.
المرحلة الثالثة: رد الفعل الاجتماعي ضد الجريمة.
من المنطقي ألا يقف المجتمع مكتوف الأيدي تجاه الانتهاكات الواقعة من بعض أفراد الجماعة للقواعد السلوكية السائدة، إذ لابد عليه أن يأخذ رد فعل مناسب متمثلا في أنواع من الجزاءات التي ترسمها الجماعة وتراها مناسبة ومتكافئة مع ما وقع من خروج صريح على نظامها الاجتماعي.
ولقد تطورت الجماعة الإنسانية في تحديد رد الفعل الذي تتخذه حيال التمرد على قواعدها. ففي المجتمعات القديمة، حيث لم تكن الدولة كتنظيم سياسي قد ظهرت بعد، كان يأخذ رد الفعل تجاه الجريمة شكلا من أشكال الانتقام، إلى أن طال المجتمعات التهذيب والتنظيم السياسي فصار لهذا الرد أطر قانونية وإنسانية تحد من وحشيته وقسوته، ولا تجعل من الإيلام الملازم للجزاء هدفا في ذاته، وإنما يرمي في النهاية إلى إعادة إصلاح وتأهيل من زل وهوى في دروب الجريمة.
ثانيا: الاتجاه إلى دراسة الظاهرة الاجرامية.
لاشك أن محاولات تفسير الظاهرة الإجرامية كظاهرة فردية أو اجتماعية أمر يعود إلى أزمنة بعيدة. ففي الوقت الذي كانت فيه المجتمعات تقع تحت تأثيرات دينية مالت محاولات تفسير الظاهرة الإجرامية نحو إرجاعها إلى مخالفة أمر تمليه قوى مقدسة مجهولة تجعل من صاحبها “عاصيا” عليه واجب التكفير عن إثمه. وأن الإجرام ما هو إلا تقمص شيطاني بحق المجرم أو هو لعنة إلهية تحل بالإنسان لبعده عن الآلهة وعدم الطاعة والتقرب لها.
وقد ساد مثل هذا التطبيق لدى الإغريق قديما. فقد جاء على لسان الشاعر “سوفوكليس”، مؤلف التراجيديا الإغريقية “أوديب” قاتل أبيه وزوج أمه “إن أفعالي لم أرتكبها ولكن تحملتها”. ولقد ظل هذا التفسير قائما لدى بعض التشريعات خلال القرن التاسع عشر –ومنها التشريع الإنجليزي- التي كانت توجب حال توجيه الاتهام إلى المجرم الإشارة إلى أنه لم يخالف القانون فقط بل إنه ترك نفسه للوساوس الشيطانية وأبعد نفسه عن الطاعة للأوامر الربانية.
ويستقر هذا التحليل بين العامة من بين أبناء الشعب االمغربي والعربي، ومع عودة الأصولية الدينية إلى رحاب البيئة العربية، والذين يميلون إلى إرجاع الجريمة، بل وكافة الأزمات، إلى غضب رباني، إذ أن المساحة الفاصلة بين العلم والدين ما تزال مجهولة لدى تلك الشعوب.
ولقد استمرت سيطرة التفسير الديني لكافة الأفعال الإنسانية وأنماط السلوك ومنه السلوك الإجرامي- خلال العصور الوسطى وإلى بداية العصور الحديثة خاصة مع بداية القرنين السابع عشر والثامن عشر ومع طغيان حركة الشغف العلمي التي سادت خلال هذه الحقبة الزمنية.
ولقد كانت البداية من خلال الربط بين الملامح الجسدية والتكوينية للشخص والميل نحو نمط إجرامي معين، كالربط بين حجم وشكل الجمجمة مثلا والجريمة، الأمر الذي يمثل أحد موضوعات ما يعرف بعلم الجماجم أو علم فراسة الدماغ، والذي ظهر على يد فرانسوا جوزيف جال العالم الفرنسي (1758-1828). أو الربط بين القامة أو نوع الشعر أو شكل العين وحجمها أو شكل اليد وبين الميل نحو شكل إجرامي معين.
وقد مهدت إلى هذا الربط دراسات العديد من العلماء من أمثال “ديلا بورتا” في مؤلفه “في الصفات الخلقية”. وكذا “لافاتيه” (1801-1741) و”دي لاشامبر” و”فرانسوا جوزيف جال” (1828-1758) و”كورتس” والطبيب الفرنسي “بروكا” (1880-1824) الذي أسس في باريس عام 1865 جمعية علم الإنسان، والذين أرجعوا جميعهم الجريمة إلى خلل خلقي يعود إلى ضعف النمو الطبيعي للدماغ والمخ.
ولقد مهد لكل ظهور ما عرف باسم المدرسة الوضعية الإيطالية في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، والتي تمثل البداية الحقيقية للدراسة العلمية المنهجية، وذلك على يد “سيزار لومبروزو” (1909-1836) حينما نشر مؤلفه الرجل المجرم في عام 1971، والذي أوضح فيه تميز المجرمين على خلاف أنماطهم بملامح وصفات جسدية وتكوينية تبعد عن تلك التي تلحظ لدى الباقين من الناس، مرجعا ذلك إلى ارتداد المجرم إلى الإنسان الأول أو البدائي.
وقد عمق هذه الدراسات وأضاف إليها بقية زعماء هذه المدرسة خاصة كل من “رفاييل جارو فالو” (1932-1852)، الذي يعود إليه الفضل في استخدام لفظ علم الإجرام الذي اتخذه عنوانا لإحدى مؤلفاته (1885)، و”أنريكو فيري” (1928-1856) الذي يعود إليه الفضل في تقسيم المجرمين إلى عدة طوائف: المجرمون بالميلاد، المجرمون المجانين، المجرمون المعتادون، المجرمون العرضيون، المجرمون العاطفيون. وإليه يعود الفضل كذلك في القول بقانون الإشباع والتشبع الإجرامي والذي مؤداه أن كل وسط يتضمن حتما قدرا من الإجرام. وأنه إذا ما تفاعلت العوامل الطبيعية مع عدد من الظروف الاجتماعية فإنه سوف ينتج عددا معينا من الجرائم دون زيادة أو نقص.
ومع بزوغ النصف الأول من القرن التاسع عشر تولد ما يعرف بالتفسير الاجتماعي للظاهرة الإجرامية، بحسبانها ظاهرة اجتماعية قبل أن تكون ظاهرة فردية، وذلك على أثر ظهور الإحصاءات الفرنسية الجنائية ابتداء من عام 1826، وكذا ذيوع منهج الفيلسوف الفرنسي “أوجست مونت” (1842-1803)، والذي عرض له مؤلفه المكون من ستة أجزاء تحت عنوان “دروس الفلسفة الوضعية”، والقائم على الملاحظة والتجريب والذي كان النواة الحقيقية لنشأة علم الاجتماع أو ما أطلق عليه كونت الطبيعة الاجتماعية.