سادسا: علم الإجرام والقانون الجنائي.
القانون الجنائي هو الذي يحدد فيه المشرع الجرائم والعقوبات فهو يوضح الجريمة كحقيقة قانونية ويصف أركانها وأنواعها ومسؤولية فاعلها، أي أنه يتخذ طابعا معياريا بحتا، يضع فيه المشرع النموذج القانوني للجريمة، بحيث يكون هذا النموذج معيارا نقيس عليه سلوك الأفراد، لتحديد مسؤوليتهم الجنائية.
أما علم الاجرام فهو يهتم بدراسة الجريمة كظاهرة إنسانية واجتماعية، متقصيا أسبابها، باحثا عن العوامل الدافعة إليها في الأفراد وفي المجتمع. فهو علم نظري بحث مهمته تقصي أسباب الإجرام، أما القانون الجنائي فهو نظام قانوني وليس علم أو لنقل أنه علم قاعدي يدرس الجريمة والجزاء من خلال قاعدة وضعية. إذن القانون الجنائي يدرس الجريمة حسب ما يجب أن تكون عليه في حين أن علم الإجرام يتقيد في دراسته للجريمة بما هو كائن.
لذلك يختلفان من حيث موضوع البحث ومن حيث أسلوب ومنهج كل منهما:
فمن ناحية القانون الجنائي يتقيد في تحديده لفكرتي الجريمة والمجرم بمبدأ شرعية الجرائم والعقوبات دون أن يحيد عنه، فلا يهتم إلا بما اعتبره المشرع جريمة. أما علم الإجرام فقد يتجاوز أحيانا هذا المعنى والمبدأ ليشمل دراسة مظاهر الانحراف ولو لم يصدق عليها وصف الجريمة من الناحية القانونية مثل إدمان الخمور، الكذب، الهدر المدرسي، الشذوذ الجنسي.
نفس الأمر بالنسبة للمجرم حيث أن علم الإجرام يوسع أحيانا من هذا المفهوم ليشمل حالات تنطوي على خطورة إجرامية ولو لم تصدر ضدهم أحكام بالإدانة الجنائية بتوافر سبب من أسباب امتناع المسؤولية الجنائية.
يضاف إلى ذلك أن رجل القانون يعتمد في بحثه على الأسلوب القانوني في محاولة استنباط إرادة المشرع من خلال الاعتماد على أسلوب استنباطي فلسفي يقوم على المنطق القانوني. أما الباحث في علم الإجرام فيعتمد على الأسلوب العلمي المبني على الملاحظة والتجربة لدراسة الظاهرة الإجرامية.
ومع ذلك فثمة علاقة وثيقة بين علم الإجرام وبين القانون الجنائي ترجع إلى وحدة الموضوع –أي الجريمة- وكذا إلى التأثير المتبادل الذي يحدثه أحدهما على الآخر على النحو التالي:
تأثير القانون الجنائي على علم الإجرام.
لا يمكن لعلم الإجرام أن يتقدم خطوة إلى الأمام بغير مساعدة القانون الجنائي الذي يحدد نطاق دراسات علم الإجرام ويزوده بالمادة الأولية الخام لدراسته من خلال إمداده دائما بتعريف الجريمة والمجرم أمام عجز علم الإجرام عن استخلاص مدلول خاص للجريمة والمجرم. كما أن القضاء الجنائي هو الذي يمد الباحثين وعلماء الإجرام بالمادة الأساسية الأولية الخام التي تنصب عليها ملاحظاتهم أي المجرمين المحكوم بإدانتهم.
تأثير علم الإجرام في القانون الجنائي.
رغم استقلال كل من علم الإجرام والقانون الجنائي بموضوعه وبأسلوب البحث الخاص به إلا أن العلاقة بينها وثيقة، فعلم الإجرام هو من العلوم المساعدة للقانون الجنائي، حيث أن أبحاث علم الإجرام والنتائج التي تكشف عنها الدراسات الإجرامية تدفع المشرع إلى إدخال تعديلات جوهرية على سياسة التجريم والعقاب، وكانت وراء العديد من النظم والمؤسسات القانونية الخاصة بالقانون الجنائي، كإيقاف التنفيذ والإفراج الشرطي ونظرية الظروف، والتدابير الوقائية وتصنيف المجرمين والرعاية اللاحقة، فمثل هذه الأفكار وغيرها ما كان أن تأخذ طريقها إلى القانون الجنائي لولا أبحاث علم الإجرام.
فدراسات علم الإجرام هي الملهم الأساسي للكثير من النظم القانونية في القانون الجنائي، حيث كشفت ضرورة تدخل القانون الجنائي بالتجريم لحالات من الخطورة الاجتماعية والإجرامية التي تنبئ عن احتمال وقوع الجريمة في المستقبل ومن ذلك تجريم حالات التشرد والتسول وإدمان الخمور والمخدرات. كما أن مظاهر تأثير القانون الجنائي بعلم الإجرام تبدو أيضا في اتجاه المشرع نحو التوسع في تطبيق نظام التدابير الاحترازية والنص على عقوبات تراعي في توقيعها شخصية الجاني وظروفه الخاصة أكثر مما يراعى فيها الفعل المرتكب.
ويبقى الفضل الأكبر الذي يدين به القانون الجنائي إلى علم الإجرام هو النتائج التي وصلت إليها الأبحاث فيما يتعلق بسياسة تفريد الجزاء الجنائي، بمعنى اختيار الجزاء الجنائي الأفضل والملائم استنادا إلى الخطورة الشخصية للجاني وجسامة الجريمة (ف 141 ق.ج).
سابعا: علم الإجرام وقانون المسطرة الجنائية.
قانون المسطرة الجنائية هو القانون الذي ينظم الخصومة الجنائية منذ نشوء حق الدولة في العقاب أي منذ ارتكاب الجاني لجريمته حتى انتهاء هذه الخصومة بصدور حكم بات في الدعوى، ثم تنفيذ هذا الحكم إن كان بالإدانة، فهو علم قاعدي يرسم به المشرع الحدود الفاصلة بين ضمانة حق الدولة في توقيع العقاب على الجاني وضمانة حقوق المتهم في محاكمة عادلة دون المساس بحقوقه الفردية.
ورغم ما يبدو من اختلاف بين مجال علم الإجرام ومجال قانون المسطرة الجنائية، إلا أن أبحاث علم الإجرام كانت الدافع وراء الكثير من النظم القانونية التي تضمنتها الإجراءات الجنائية في كثير من الدول.
فنظام الفحص السابق: مؤدى هذا النظام أن يقوم القاضي قبل الحكم بالعقوبة بجمع أكبر قدر ممكن من المعلومات عن المتهم سواء ما تعلق منها بظروفه الاجتماعية أو حالته النفسية أو البيئة التي نشأ فيها تمهيدا لمعرفة الأسباب التي دفعته لارتكاب الجريمة وتحديد الخطورة الكامنة في شخصه، وبالتالي اختيار العقوبة أو التدبير الملائم لهذه الخطورة بما يسمح بالتأهيل والاندماج. وليكون هذا الفحص فعالا يجب أن يستعين القاضي بأهل الخبرة من الأطباء وعلماء النفس ورجال الاجتماع.
وقد كان هذا النظام ثمرة من ثمرات أبحاث علم الإجرام وهو نظام مطبق فعلا في عديد من الدول انجلترا وألمانيا وفرنسا.
نظام قاضي التنفيذ وهو الذي ظهرت الدعوة إليه في المؤتمرات الدولية، وبصفة خاصة مؤتمر برلين العقابي، سنة 1935 ومؤتمر علم الإجرام المنعقد في روما سنة 1938، ومؤدى هذا النظام أن العقوبة كي تؤتي ثمرتها في مكافحة الجريمة لابد من مراعاة شخص المحكوم عليه وظروفه أثناء توقيع هذه العقوبة عليه، وهو ما يعرف بالتفريد التنفيذي للعقوبة، وترك مثل هذه السلطة للإدارة العقابية دون ما رقابة من القضاء عليها، قد يخشى منه التعسف في استخدام هذه السلطة، لذلك رأى أن يكون مباشرة هذه السلطة تحت رقابة قاضي رسمي هو قاضي التنفيذ. وهو قاضي متخصص في مرحلة التنفيذ العقابي يمكن له أن يقرر الإفراج عن المجرم قبل انقضاء مدة العقوبة سواء كان إفراجا نهائيا أو شرطيا. وقد جاء في سياق انتقال وظيفة العقوبة من تحقيق العدالة والردع العام إلى وظيفة التأهيل والإصلاح.
كما يحسب لعلم الإجرام دعوته إلى تخصص القضاء الجنائي في بعض القضايا مثل: ضرورة إنشاء محاكم خاصة بجنوح للأحداث وأيضا الإجرام الاقتصادي.
ثامنا: علم الإجرام وعلم العقاب.
حاول البعض وإلى اليوم الجمع بين العلمين وعدم الفصل بينهما، والقول أن علم العقاب ما هو إلا فرع من فروع علم الإجرام أو بالأحرى هو علم الإجرام التطبيقي، لأنه لا يمكن اختيار العقوبة الجنائية أو المعاملة العقابية الملائمة دون الوقوف على شخصية المجرم والتعرف على أسباب وعوامل انحرافه.
والحق أننا لا ننكر هذا التقارب والصلة بين العلمين قد تصل إلى حد التصاهر والاندماج من خلال وحدة المنهج في الدراسة القائم على الملاحظة والتجربة. وكلا العلمين يلتقيان في هدف مشترك هو مكافحة الجريمة، كذلك كلا العلمين يعد منطلق للآخر فلا يمكن دراسة الجزاء الجنائي إلا بعد التعرف على أسباب الإجرام ذاته، فعلم الإجرام إذن هو مقدمة أولوية لعلم العقاب.
لكن مع ذلك نعتقد باستقلالية العلمين بحيث يظل علم الإجرام موضوعه الخاص المقصور على الدراسة الوضعية للجريمة والدراسة التفسيرية لعوامل الإجرام، أي أنه من العلوم التفسيرية. أما علم العقاب فهو من العلوم القاعدية أو المعيارية يهتم بالجريمة بعد وقوعها للحيلولة دون عودة المجرم مرة أخرى من خلال اقتراح أنسب صور الجزاء الجنائي وأفضل أساليب المعاملة العقابية التي تم بها التنفيذ.
تاسعا: مناهج وأساليب البحث في الظاهرة الإجرامية.
لأن زوايا النظر إلى الظاهرة الإجرامية متعددة لذلك كان منطقيا أن تتعدد أساليب البحث عن أسباب ظهورها، فالزاوية التي ينظر منها الباحث الاجتماعي إلى الظاهرة الإجرامية تختلف عن الزاوية التي ينظر منها عالم النفس أو الطبيب أو رجل الاقتصاد أو رجل القانون إلى نفس الظاهرة، ومن شروط نجاح أسلوب البحث العلمي أن يتجرد الباحث من كل فكر مسبق عن الظاهرة التي يريد أن يبحثها حتى يكون موضوعيا في بحثه. إلا أن ذلك لا ينفي أن هناك فروضا مسبقة في ذهن الباحث يريد أن يثبتها أو ينفيها. وسوف نعرض فيما يلي فقط لأهم هذه الأساليب في البحث عن أسباب الظاهرة الإجرامية.
1- التجربة:
إن التجربة تعتبر العمود الفقري لدراسة الباحثين في العلوم الطبيعية والتي تقدم لهم أسمى النتائج العلمية، إلا أن هناك بعض الصعوبات التي تكتنف تطبيقها، حيث نجد محل هذه التجارب هو الإنسان بوصفه مرتكبا للسلوك الإجرامي، وإخضاعه لهذه التجارب فيه مساس أكيد بكرامته الآدمية وبحقوقه الإنسانية والاجتماعية. ونسوق المثال الآتي لإبراز الصعوبة التي تحيط تطبيق أسلوب التجربة: إذا أردنا إجراء مقارنة بين أثر عامل الوراثة من جهة وأثر العامل الاجتماعي في الدفع إلى السلوك الإجرامي من جهة أخرى، فيمكننا بالاعتماد على دراسة التوائم، إخضاع توأمين متماثلين من حيث العوامل الوراثية (ناجمين عن بويضة ملقحة واحدة) للتجربة، وذلك بأن نضع أحدهما في بيئة صالحة وثانيهما في بيئة إجرامية فاسدة وتتبع حياتهما ومدى اتجاه كل منهما إلى السلوك الإجرامي، فنلحظ هنا المخاطر التي تنجم عن اللجوء إلى هذه التجربة لما فيها من تجن واضح على أحد التوأمين وذلك بإدخاله قسرا في بيئة إجرامية وإخضاعه بذلك لتأثير عوامل إجرامية تفسد حياته أبد الدهر.
كما لا يمكننا في علم الإجرام وكافة العلوم الجنائية الأخرى تطبيق نتائج التجربة المنصبة على نموذج إجرامي معين “إنسان معين” على غيره من المتهمين.
ويعوض عن صعوبة الالتجاء إلى التجارب أن الحياة تقدم نماذج عديدة وغير محصورة ومن الممكن عن طريق الملاحظة الدقيقة وإجراء الدراسات، وعقد المقارنات، والاعتماد على الإحصاءات، وتسجيل المقدمات واستخلاص النتائج، التوصل إلى معلومات ثمينة تقدر بقدرها، ونتائج يعتد بها علميا وتصلح أساسا لمعطيات راسخة لعلم الإجرام.
2- الملاحظة :
تمثل الملاحظة أولى مراحل المنهج العلمي وهي أحد أدوات المنهج الاستقرائي كما أنها تسبق الجريمة، وتقوم على رصد ومراقبة الظاهرة بهدف استخلاص القاعدة العامة التي تحكمها. وتجري الملاحظة عن طريق الدراسة الميدانية أي المراقبة المباشرة للمجرم بهدف استخلاص القوانين العامة التي تحكم تفسير السلوك الإجرامي.
وتلعب الملاحظة دورا قويا في علم الإجرام، وتتطلب هذه الملاحظة من الباحث مراقبة أفراد العينة بنفسه، ثم يسجل كل ما يصل إلى إدراكه من معلومات تتعلق بالواقعة محل البحث، وقد تجري الملاحظة في مواقع طبيعية أو في مخابر خاصة مع استخدام تجارب معينة. ويجب أن يتوافر في الملاحظ الخبرة والموضوعية في التقدير، ولدينا نوعان من الملاحظة:
الملاحظة البسيطة.
تنصب هذه الملاحظة على الظاهرة موضوع البحث لجمع المعلومات عنها وذلك بواسطة المشاهدة أو المراقبة أو الاستماع دون الالتجاء إلى أجهزة فنية معينة أو معدات مساعدة، وهذه الطريقة على نوعين:
أولا:طريقة المشاركة:
مفادها نزول الباحث إلى ميدان الإجرام حيث يختفي ويندمج في وسط الجماعة التي يهدف دراستها حتى يصبح فردا عاديا فيها.
ولهذه الطريقة مزية تمكين الباحث من التعرف إلى أوجه نشاط الأفراد وتصرفاتهم المختلفة على الطبيعة وعن كثب. وهذا مما يساعده على اكتشاف الكثير من الحقائق التي يتعذر إدراكها عن طريق الوسائل الأخرى.
ويوجه إلى هذه الطريقة انتقادات عدة أهمها ما يتعلق بدور الملاحظ حيث تقتضي مهمته أن يصبح شريكا لأعضاء الجماعة، وهذا مما يقلل من نطاق خبراته وذلك بسبب ما يتطلبه دوره كعضو في الجماعة من المشاركة العاطفية لغيره من الأفراد.
ويلاحظ أن هذا الأسلوب يصعب سلوكه من قبل الباحث، لأنه يتطلب منه النزول إلى البيئة الإجرامية ومشاركة أناس يسلكون طريق الإجرام في حياتهم. وقد رأى بعض الباحثين أن دور الباحث في بعض الأحوال قد يقتضي منه الاشتراك في ارتكاب الجريمة في سبيل الوصول إلى كشف الحقائق.
ثانيا:طريقة اللامشاركة:
تفضل طريقة الملاحظة البسيطة غير المقترنة بالمشاركة عن طريق المشاركة السابقة، وتتلخص هذه الطريقة بأن يفصح الملاحظ للأفراد محل البحث عن حقيقة مهمته، ويحصل على ثقتهم بتكوين علاقات وصلات طيبة معهم ويحاول ألا يندمج معهم اندماجا كليا حتى لا يؤثر وجوده في طبيعة نشاطهم.
ب- الملاحظة المنظمة.
وهذه تختلف عن الملاحظة البسيطة في استعانة الباحث بمعدات معينة تساعده على جمع المعلومات مثل الاستمارات، أو الاختبارات، أو أجهزة القياس، وأجهزة التصوير والتسجيل، والتحاليل الكيميائية، والكشف الطبي وهذا بالطبع له دوره الفعال في مساعدة الباحث في التحقق من صدق المعلومات التي يسجلها.
مصادر الملاحظة:
الإدراك المباشر للجريمة: أي ملاحظتها أثناء ارتكابها وهذا نادر ولكنه ممكن في بعض الحيان إما بواسطة فيلم تصويري أو بطريق المصادفة أو بتركيز آلات تصويرية في بعض البنوك تعمل آليا في حالة الهجوم، أو وضع عدسات تلفزيونية كما هي الحال في بعض المحلات التجارية الكبيرة.
إثبات الحالة (الواقعة): وذلك بعد إتمام الجريمة.
دراسة طريقة ارتكاب الجريمة: كحالة كسر القفل أو تسلق السور بقصد السرقة مثلا.
حصيلة الجريمة: مثال ذلك سندات بنكية مزورة.
دراسة مصنف القضية.
الأعمال المنجزة من قبل المسجونين كالرسم والكتب والأدوات المصنوعة.
3- الدراسة الإحصائية:
هو الأسلوب الشائع في الدراسات الإجرامية ويعرف بكونه مجموعة من القواعد العددية حول ظاهرة من الظواهر. أي التعبير عن ظاهرة معينة بالأرقام، ويكشف هذا الأسلوب عن مدى ارتباط عدد معين من الجرائم وبوجود ظروف معينة كالفقر، المهنة، الطقس، الحالة الأسرية، الدين، الظروف الاقتصادية والسياسية والثقافية.
ظهرت لأول مرة في فرنسا في النصف الأول من القرن 19 عندما أصدرت وزارة العدل أول إحصاء عن الجرائم في 1826. ولا شك أن لهذا الأسلوب الإحصائي مزايا متعددة في مجال تفسير الظاهرة الإجرامية بحسبانه مرآة الجريمة وأهمها:
-توجيه السياسة الجنائية في مواجهة الظاهرة الإجرامية.
– كما تساعد كثيرا في تفسير الجريمة بحسب المكان والزمان.
– اقتراح وسائل المعاملة الأمنية معها من قبل رجال الأمن.
شروط نجاح الأسلوب الإحصائي:
الواقع أنه إذا أردنا أن تكون البيانات الإحصائية والنتائج التي تسفر عنها قيمة علمية وتنجح في تفسير الكثير من جوانب السلوك الإجرامي لابد:
أن تكون العينة محل البحث ممثلة تمثيلا جيدا: ويقصد بالتمثيل الجيد للعينة محل البحث أن تكون هذه العينة ممثلة إحصائيا لجميع الأفراد الذين يلزم دراستهم مما يسمح بتعميم النتائج المستخلصة على أفراد المجتمع كافة أو على الطائفة التي تمثلها العينة والتمثيل الجيد للعينة يستوجب الاستعانة بما يسمى “بالمجموعة الضاغطة” أي جملة من غير المجرمين ممن تماثل ظروفهم مع ذات العدد من المجرمين الخاضع للدراسة. والحقيقة أنه يصعب اختيار المجموعة الضابطة في مجال الدراسات الإجرامية إما لعدم الرغبة في تعاون المجموعة مع الباحث وإما أنه من المتعذر التأكد من أن البعض من المجرمين لم يندس بين أولئك الذين صنفوا من بين غير المجرمين.
ملائمة أفراد العينة أي أن يكون العدد كافيا على ألا يكون مبالغا فيه الأمر الذي يخلق صعوبة في تواجد عدد من المجرمين تتماثل ظروفهم البيولوجية والنفسية والبيئية من أجل إخضاعهم للبحث.
تقدير أسلوب الدراسة الإحصائية:
على الرغم مما قيل سابقا من مزايا تتعلق بالأسلوب الإحصائي ودوره في تفسير الظاهرة الإجرامية ودوره في توجيه السلطات الجنائية في مواجهة الظاهرة الإجرامية، إلا أنه وجهت إليه انتقادات كثيرة تنال من قيمته العلمية وقيمة ما يسفر عنه من نتائج:
فقد قيل أن الإحصائيات الجنائية على تنوعها أسلوب بحث غير مجدي في مجال الدراسات الإجرامية حيث يتسم هذا الأسلوب بقدر من السطحية إذ لم ينجح في تحديد حجم الإجرام الفعلي ولكنها على العكس نجحت في قياس نشاط أجهزة العدالة الجنائية.
وبديهي أن الإحصائيات الجنائية مهما كان مصدرها لا يمكنها أن تدلنا على حجم الإجرام الفعلي مادام هذا الأخير غير معروف. ويمكن تعريف الإجرام الفعلي بكونه: يشمل جميع الجرائم التي ترتكب في مجتمع معين وفي زمن محدد بغض النظر عن وصول هذه الجرائم أو لا إلى علم وكالات الضبط الاجتماعي، وسواء أحققت الشرطة فيها أم لا.
وأمام استحالة تحديد نسبة الإجرام الفعلي على وجه الدقة يلجأ الباحثون إلى إحصائيات مصالح الشرطة لتحديد حجم ونسبة الإجرام الظاهر. وفي هذا الباب يجمع الباحثون على أنه لا يجب انتظار من إحصائيات الشرطة أكثر مما يمكن أن تعطيه، ولا يمكن اعتمادها إلا كمؤشر نسبي يفرض على الباحث التعامل معه بحيطة وحذر كبيرين، ويتساءلون حول جدوى وفاعلية هذه الإحصائيات أهي تقيس حجم الظاهرة الإجرامية أم هي فقط تسجيل مفصل لنشاط مصالح الشرطة في مكافحة الظاهرة الإجرامية؟
والحقيقة أن حجم الإجرام المعلن عنه في الإحصائيات الرسمية لا يمثل إحصائيات الإجرام المحال على أجهزة العدالة الجنائية بأكمله وإنما فقط إحصائيات الإجرام كما تمت إعادة بنائه من طرف هذه الأجهزة بعد أن يكون قد خضع لعملية الغربلة والتصفية التي تطاله في مختلف مراحل عمل أجهزته:
ففي المرحلة الأولى: (مرحلة الشرطة والدرك)؛ ويسمى بالإجرام الظاهر، هي إحصائيات خادعة لا يمكن اعتمادها إلا كمؤشر نسبي يفرض على الباحث التعامل معه بحيطة وحذر كبيرين. لأن هناك قضايا كثيرة إما أنه يتم رفضها وإما تتم معالجتها على هذا المستوى، وفي كلا الحالتين فإنها لا تصل إلى المرحلة اللاحقة.
وفي المرحلة الثانية: (على مستوى النيابة العامة)؛ فلا يتم المتابعة إلا في عدد قليل من القضايا التي تحال عليها من الشرطة أو الدرك بسبب ميل النيابة العامة إلى حفظ الملفات بدون متابعة.
والمرحلة الثالثة: (مرحلة الحكم)؛ تسمى بالإجرام الشرعي، غير أن الإحصائيات التي تصدرها المحاكم الجنائية لا تشمل سوى الأفعال التي تمت المعاقبة عليها لأنه ليس كل القضايا يحكم فيها بالإدانة. وبالتالي لا يمكن الاعتماد على هذه الإحصائيات التي تصدرها المحاكم لإعطائنا صورة صادقة وكاملة عن ظاهرة الجريمة. وأمام هذه الحالة يفضل الباحثون اللجوء إلى إحصائيات الشرطة التي يعتقد أنها أفضل وسيلة لتحديد حجم الإجرام في بلد معين، مادام أن إحصائيات المحاكم الجنائية هي أقل بكثير من إحصائيات الشرطة.
أما في المرحلة الرابعة: (على مستوى المؤسسات العقابية)؛ فإن الإحصائيات لا تشمل سوى عدد المحكوم عليهم ممن أودعوا في السجن، أو المقبوض عليهم قبل إطلاق سراحهم، ومن تم لا تشمل أعداد المجرمين ممن لا تطولهم يد العدالة أو اقتصرت أحكام إدانتهم على عقوبات مالية أو عقوبة مقرونة بوقف التنفيذ، كما أن هناك جرائم ترتكب من طرف الأشخاص المعنويين يحكم عليهم بعقوبات مالية أو تدابير وقائية.
والخلاصة أن الإحصائيات الجنائية بمختلف مستوياتها لا يمكن الاعتماد عليها كمؤشر إحصائي سليم باستطاعته أن يدلنا عن المدى الحقيقي والفعلي لمشكلة الإجرام في بلد معين، مادام أن هناك نسبة قد تقل أو تكثر من الجرائم تبقى مستترة وخفية ترتكب ولا تكتشف أو لا تصل إلى علم العدالة الجنائية وذلك لامتناع الأشخاص عن التبليغ عنها، فلا ترد في إحصائيات الشرطة ولا في إحصائيات المحاكم وهذا ما يعبر عنه بالرقم الأسود: وهو الفارق بين الإجرام الحقيقي والإجرام المعلن عنه في الإحصائيات الرسمية. وتنشأ هذه الظاهرة السلبية نتيجة تسرب عدد من الجرائم من الحصر الذي يجريه القائمين على الإحصائيات الجنائية.
محاضرات في مادة علم الإجرام(المحاضرة الثالثة) السداسي الخامس.
Source
الدكتور:هشام بوحوص