الحكامة الجيدة السياقات الكبرى… والأبعاد

عالـم القانون9 أكتوبر 2023
الحكامة الجيدة السياقات الكبرى… والأبعاد
يشهد العالم اليوم تطورات سريعة ومتلاحقة في مختلف جوانب حياة المجتمعات سياسية كانت أو اقتصادية أو اجتماعية أو ثقافية بفعل الثورة التكنولوجية والمعلوماتية والاقتصادية، مما يطرح تحديات كبرى خاصة أمام دول الجنوب، ومن صورها اختراق منظومة القيم بهذه الدول، والأتجاه نحو تنمية العالم مما يوسع دائرة التخلف والهشاشة ويعمق الهوة بين دول الشمال ودول الجنوب، ويؤخر تحقيق التنمية الشاملة والمستدامة التي تقوم في مفهومها الجديد، على توفير ضرورة الحياه للمواطنين والتوزيع العادل لعائد التنمية.
في هذا الإطار، يقدم الأستاذ محمد عزيز الواكيلي السياقات العامة والخاصة التي أطرت ظهور الحكامة بوصفها هما عموميا ومدنيا، وشأنا يتعلق بتدبير السياسات العمومية العالمية، والسياسات القومية والقطرية. في هذا السياق، يستقرئ الباحث، المنظور المغربي للحكامة الجيدة، من خلال عدد من المحطات الإصلاحية والأوراش الكبرى، نظير المشروع المجتمعي الحدائي الذي يقوده جلالة الملك، والمبادرة الوطنية للتنمية البشرية، والبرنامج الاستعجالي، والجهوية الموسعة، وهيأة الإنصاف والمصالحة والمجلس الاستشاري لحقوق الإنسان.

1. في مفهوم الحكامة :

عندما دلف لفظ الحكامة إلى ساحة السياسة وتدبير الشأن العام، كان بالكاد رديفاً لممارسة نظام الحكم لمسؤولياته وأعبائه ممثلاً في مؤسساته وأجهزته المختلفة، والتي كانت تدخل في سياق المفهوم التقليدي أو الكلاسيكي والمتجاوز لمصطلح «الدولة».
والحال أننا، في زمننا هذا، لا نزال تسمع بيننا من يشير بتسمية «دولة» إلى عين المسمى، خصوصا عندما يقول بصيغة تقابلية : «الدولة والمجتمع المدني»، بما يعني انفصالهما وتميزهما عن بعضهما تمام الانفصال والتميز.

هذا، مع العلم بأن سنينا بل عقودا طويلة قد مرت على ظهور المفهوم الحديث للدولة، والذي يجمع في آن واحد أو في سلة واحدة إذا جاز التعبير، بين مؤسسات الإدارة الحاكمة وتنظيمات المجتمع المدني وهيئاته وممثلياته الوطنية (البرلمان) والجهوية والإقليمية والمحلية (مجالس الجهات والجماعات ووكالاتها، وكذا المؤسسات الجمعوية).

وهذا ينم عن تناقض في القول، يشي باستمرار بوجود جيوب تقاوم التغيير الحتمي الذي شهده العقل عامة، والعقل المغربي خاصة، ليس مجرد المناهضة والمقاومة فحسب، فهذا يخالف منطق الأشياء، وإنما لعجز ذاتي عن استيعاب معايير الواقع الجديد بصورة أقرب إلى الموضوعية.
كما نعلم جميعا، فإن مطلب الموضوعية هذا، يبقى من الكماليات لدى بعض من مارسوا السلطة والتدبير العمودي للشأن العام في ظل المفهوم البائد لمصطلح «دولة»، حتى لا نقول لدى معظم هؤلاء، لأنه يجردهم من أحاديتهم، ويفرض عليهم من خارج دائرة الإدارة الحاكمة شركاء كانوا من قبل في عداد الرعايا وليس أكثر، أي في زمرة المفعول به» وليس «الفاعل» أو الشريك في الفعل» بأي صورة من الصور
هنا، بالذات، تجلت إحدى إيجابيات العولمة، حين فرضت هذه على الناس كافة، من خلال الهيئات والمنظمات الدولية والعالمية، ومن خلال نشاطات هذه الهيئات وتدخلاتها الداعمة ومساعداتها الضاغطة، مفاهيم جديدة وغير مسبوقة، كان من بينها ذلك المفهوم الذي يجعل «الدولة» موضوع شراكة فاعلة وتناوب منطقي، بل حتمي بين جميع مكوناتها بدون أدنى إقصاء، حتى أن الفضول المعرفي لإنسان هذا العصر لم يلبث أن وقف بالعيان وبالملموس، على أن الشراكة والتناوب، يشكلان فعلاً إحدى ركائز سُنة الحياة، بعد أن كان الفكر الإنساني لا يرى من هذه السنة سوى جدلية التناقض والتدافع والتناحر فالبقاء للأقوى والأصلح.

وهذا، بطبيعة الحال، قد غير المفهوم السائد بـ 180 درجة، حيث إنه ترك للأضعف، أو الأقل صَلاحًا، دورًا من الأدوار في ظل الصيغ التشاركية المقترحة والمحتملة.
لقد أخذت برامج الأمم المتحدة وهيئاتها إذن، بإستراتيجية تعتمد مقاربات من شأنها أن : علاقة وثيقة بين التدبير العمومي للشأن العام من جهة، وبين التنمية المستدامة موضوع الشراكة الحتمية بين جميع الفاعلين في دائرة «الدولة بمفهومها الحداثي الجامع من جهة ثانية(1). و هذا مؤشرًا على طلوع نجم الحكامة في سماء السياسة العالمية، ثم السياسات القومية والقطرية بتحصيل الحاصل بوصفها هماً عموميًا ومدنيًا في آن واحد وهذا ما سنلمسه من خلال استعراض مفهوم الحكامة لدى جملة من الهيئات الدولية :

• فضلت الأبناك الإنمائية العالمية: اعتماد مفهوم للحكامة، جامع بين الشأنين الاقتصادي والاجتماعي، نظرا لانشغالها بهذين الهمين الدوليين.
• أما الاتحاد الأوروبي: فقد أثر اعتماد منظور أكثر سعةً، يمكن اعتباره مؤسسا للمفهوم السائد حاليا ؛ حيث أضاف إلى ما سبق ذكرُهُ، كافة الشؤون السياسية بما فيها الديمقراطية وحقوق الإنسان.
•ومن جهته، عرف البنك العالمي «الحكامة) بكونها : (مجموعة التقاليد والقواعد والمؤسسات التي تمارس الدولة من خلالها مهامها في بلد من البلدان، من أجل مصلحة الجميع، وتشتمل على ما يلي :
(1) الآليات التي يتم بها اختيار الحكام والمسؤولين ومراقبتهم وتغييرهم ؛
(2) قدرة الحكومة على التدبير الفعّال للموارد، وعلى التطبيق الفعلي لسياسات عتيدة ؛
(3) احترام المواطنين والحكام للمؤسسات المشرفة على التفاعلات الاقتصادية والاجتماعية التي يتم تدبيرها فيما بينهم.(2)

وترى مصادر غربية مختلفة، بأن الحكامة هي الأسلوب الذي تلجأ إليه الحكومات في تدبير الموارد الاجتماعية والاقتصادية لبلدانها ؛ بينما الحكامة الجيدة» تدبر المؤسسات الحكومية شؤون البلاد بفعالية ونزاهة ومساواة وشفافية، وبمسؤولية»(3).
إن هذا التطور والتوسع في دلالة مصطلح «الحكامة»، ثم «الحكامة الجيدة»، كمطلب محدد المواصفات صار بالحكامة إلى ضم عدد متزايد من الشروط، يمكن الوقوف عليه بعجالة من خلال الجرد التالي :
الفعالية عند إقرار الخيارات السياسية والاقتصادية والاجتماعية الكبرى، وفي تنفيذ الاستراتيجيات والخطط المنبثقة عن تلك الخيارات ؛
النزاهة في تدبير الشأن العام وفي التعامل مع إكراهاته ؛
العدل في توزيع الثروات وفي ترتيب الحقوق والواجبات في ظل احترام سيادة القانون وخضوع جميع المكونات لمقتضياته بعد سن هذه في إطار من التشاور والتوافق والتراضي بين جميع المكونات ؛
الشفافية والتخليق التامان للحياة العامة عن طريق محاربة الفساد بمختلف أشكاله، والقضاء على آفة الارتشاء، واتخاذ التدبيرات التشريعية والتنظيمية للحد من ظاهرة النصب السياسي على الناخبين خاصة، والموطنين عامة ؛
الانفتاح على كافة التيارات الفكرية والعقائدية في إطار الحرص على صون الهوية الوطنية، واحترام الثوابت الكبرى، المشكلة لمقدسات الأمة.
تحقيق المساواة بين الجنسين، عن طريق مقاربة موضوعية تتناول إمكانات كل طرف منهما، وطبيعة المهام المنوطة به في إطار معادلة التعارف والتزاوج، وليس النوعية، التي تروم تقسيما مجردًا للأدوار والمسؤوليات بينهما ؛
اعتماد فهم متجدد وحداثي للدين، بما يجعله باستمرار بمثابة المرجعية الأولى والثابتة لكل التشريعات والقوانين ؛ بحيث تنتفي ظاهرة تعارض الدين مع السياسة، أو مع الحداثة ؛ لعلم الجميع بأن ذلك التعارض لا توجد بذورُهُ في النص المنزل كما يفهم بعض «المتأسلمين» والمتعصرنين» ؛ وإنما يقوم في الوعي المتخلف والإرادة المتهالكة لعدد غير هين من المسؤولين ومن المثقفين أو أشباه المثقفين من الذين لا تجتمع الأصالة والحداثة لديهم إلا على سبيل تطاحنهما وإقصاء إحداهما للأخرى ؛ بينما هناك تجارب في غاية التألق والتفوق، تثبت بالملموس إمكانية التفنن في رعاية زيجة متناغمة بين العنصرين معا، وما التجربة اليابانية بخافية في هذا المضمار على أحد من العالمين ؛
نبذ الميز والعنصرية انطلاقاً من مرجعيتين اثنتين أساسيتين على الأقل، هما المرجعية الدينية، التي يُلح جميع نصوصها بلا استثناء على عدم جواز المفاضلة بين الناس أجمعين إلا بالتقوى والعمل الصالح، أي العمل الخادم لمصالح الإنسانية جمعاء ؛ والمرجعية الإنسانية والكونية، التي تشكلت على امتداد ألفيات غير قليلة من الحياة الأرضية، أثمرت لدى الإنسان وعيا كونيا وإنسانيًا بكل المعايير ؟
تنمية الطاقات والكفاءات البشرية على الصعيد الحكومي خاصة، وعلى مستوى كافة مكونات الدولة عامة، حتى تنبثق من اللحمة الوطنية المتعددة والمتنوعة، حكومة تجسد انسجام تلك اللحمة ووحدتها، وتمتلك بالتالي القدرة على خدمة المصلحة العامة في ظل احترام المقدسات والثوابت التي يأتي في مقدمتها الدين، ثم الوطن بكافة أطرافه وفرقائه، ثم النظام الحاكم والمرتبط مع باقي المكونات برباط البيعة الوثيق ذي الميثاق الغليظ.
العمل على تكريس مبدأي اللامركزية واللاتمركز من أجل شراكة حقيقية على أبسط الأصعدة وأكثرها تفرُّعًا واستقلالاً عن النواة المركزية لكافة السلط.
. التفعيل الدائب لآليات المراقبة والمحاسبة صيانة للمصلحة العامة والمال العام، وعدم التساهل ولا المحاباة في صدد كل من يجرؤ على التبذير أو النهب أو التحايل على هذين العنصرين :
تكريس حرية الرأي والتعدد والاختلاف مع النأي بهذا المطلب عن التسيب وعن الاستعمال المغرض لهذا المبدأ في غير ما هو أهل له من الضبط والإحكام والتخليق.
التزام الحكومة بدور المنسق والموفّق بين كافة الأطراف والفاعلين والشركاء، وتخليها عن دور الوصاية البائد، والذي لا يزال عدد غير هين من المسؤولين يعتبرونه أساس «هيبة الدولة». والحال أن هذا الاعتبار قد ولى زمانه وانكسرت شوكته وأقل نجمه وذهبت ريحه إلى غير عودة، وبات بالتالي مجرد عائق في طريق التغيير، وفي وجه حكامة جيدة آتية حتماً، وسائدة في مستقبل الأزمنة حتمًا كذلك، وأخذة مكان جميع الصيغ العتيقة في تدبير شؤون البلاد والعباد، طال الزمان أو قصر.
إن المفهوم العالمي للحكامة، قد صار، من خلال هذه التوليفات المنسجمة والمتكاملة، رحباً وشموليا، وجامعا بين كافة العناصر المنتمية إلى دائرة الفعل اليومي في مجالات السياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة والأمن والدفاع. ، لا يُستثنى في هذا أي مجال من مجالات حياة الدولة أو الحياة العامة.
إن هذا يفتح الأعين على المتطلبات الأكثر إلحاحاً للتنمية المستدامة ولدولة الحق والقانون، وبعبارة أخرى للمشروع المجتمعي الذي يرنو المغاربة إلى تكريسه منذ البدايات الأولى للعهد
الجديد. وهذه المتطلبات هي :
العدالة الاجتماعية
النمو الاقتصادي المطرد
المساواة وتكافؤ الفرص
الدمقرطة والتشارك في ظل التعددية
سيادة الحق والقانون على الجميع بلا أدنى استثناء ؛ محاربة الرشوة والفساد في مختلف معتركات الحياة احترام مكونات المجتمع المدني والإنصات الإيجابي إليها
اعتماد اللامركزية واللاتمركز في تدبير الشأن العام ؛ توسيع مساحة إسهام وسائل الإعلام في جهود التنمية احترام الاختلاف والرأي الآخر
اعتماد سياسة تربوية وتعليمية نازعة نحو تحقيق القدرة على إنتاج المعارف، وليس على استهلاكها فحسب ؛
العناية بمؤسسات المجتمع المدني بوصفها شريكاً لا غنى عنه.
توخي الصدق والنزاهة والشفافية وخدمة المصلحة العامة دون المصلحة الخاصة ؛ الالتزام بتطوير التشريعات والقوانين تبعا لتطور الشؤون والقضايا المطروحة.
احترام وتفعيل المواثيق الدولية ذات العلاقة بحقوق الإنسان.
لقد أصبحت الحكامة من خلال هذه المتطلبات، في صميم الأمال التي تعقدها شعوب العالم قاطبة على حكوماتها، وعلى سلطاتها التشريعية والقضائية، وعلى فعالياتها المدنية، وجميع الفاعلين لديها في جميع حقول التنمية. وهذا يجعل الحكامة بالضرورة، بل باللزوم، جيدة أو نازعة إلى الجودة بالضرورة. والجودة هنا ليست سوى ما نتعارف عليه بالديمقراطية والشفافية والنزاهة والحق والقانون دفعة واحدة.

2 المنظور المغربي للحكامة الجيدة :

يمكن للدارس أن يقتفي آثار المحاولات الرامية إلى تكريس الحكامة الجيدة في الحياة المغربية من خلال التوقف عند المحطات الرئيسية الموالية ؛ مع التأكيد منذ البداية، بأن واقع الحياة اليومية يعكس تعثرات وانتكاسات على أصعدة غير قليلة :

2.1 المشروع المجتمعي الحداثي :

يشكل هذا المشروع أولى حلقات المسلسل الذي انطلقت فعالياته مع بداية العهد الجديد، بمعنى بعد اعتلاء جلالة الملك محمد السادس هرش المملكة. وقد كان الملك أول المعلنين عن هذا المشروع في خطبه الأولى، وكانت أولى عناصره البارزة على التوالي :
المفهوم الجديد للسلطة، القائم على مبدأ القرب، وعلى آلية الإنصات إلى نبض الجماهير، والنزول بالتالي من أبراج الولاة والعمال ومساعديهم العاجية، والاختلاط بالعامة اختلاط معايشة ومساكنة وتفهم واستعداد تام لتقديم الخدمات المأمولة.
إن هذا يتطلب اجتهادا غير مسبوق في الإلمام بحاجيات المواطنين وانشغالاتهم وانتظاراتهم، كما يقتضي تنازل الحاكم بأمر الملك عن كبريائه الكاذب وعجرفته المقيتة واستعلائه غير المبرر بتاتا. والسبب في ذلك، أن هذه جميعها ليست إلا وليدة مرور مؤقت وزائل من على كرسي يرمز إلى التكليف وليس التشريف بأي حال من الأحوال. فالعنصر الذي يقع الاختيار عليه لتبوء تلك المسؤولية أو ما شابهها ليس سوبرمان عصره أو موطنه، ولا هو فوق غيره من أهالي الموقع المعني ؛ وإنما توفرت فيه شروط علمية أو معرفية أو إدارية خولت له واجب الاضطلاع بالمهام المرتبطة بالكرسي ذاته، فبات مطالبًا منذ الوهلة الأولى، وإلى آخر عهد له بذلك المنصب، بالتعرف على احتياجات الأهالي للبحث في أسباب ووسائل جعلها قيد التلبية والإشباع . هكذا ينبغي أن يُفهم المدلول الجديد للسلطة ؛ وهو الفهم الذي لا يزال للأسف أبعد ما يكون عن عقليات غير قليلة لا يزال رحاب السلطة مبتليا بها إلى ما شاء الله .
الاقتصاد الاجتماعي، القائم هو الآخر على مفهوم جديد للتنمية، يُحل مبدأ المصلحة الاجتماعية والإنسانية محل مبدأ الريع أو حسابات الربح والخسارة.
إنه المبدأ الذي يقتضي، عند التخمين والتخطيط والبرمجة والتنفيذ لأي برنامج أو مشروع اقتصادي مهما كان نوعه وحجمه أن نطرح السؤال الجوهري والكبير :
ما الذي سيحققه هذا البرنامج أو المشروع من المنافع ويُؤَمِّنه من الفوائد للأهالي العاملين عليه، أو المقيمين على مشارفه، أو المرتبطين به بجميع أنواع العلاقات والروابط» ؟
إن هذا هو المعبر عنه في أدبيات السياسة والاقتصاد والاجتماع، بالقول بوجوب جعل العنصر البشري، أي الإنسان المواطن في صميم مشاريع التنمية، فيكون بذلك أداة للتنمية وهدفاً لها في نفس الآن».

2.2 إقرار المبادرة الوطنية للتنمية البشرية :

تنفرد هذه المبادرة المبتكرة عن المبادرات الاجتماعية السابقة بخاصيتين اثنتين على الأقل : الأولى، كونها تفتح المجال على مصراعيه لإقامة شراكة وتعاون بين الإدارات الترابية من جهة، وجمعيات المجتمع المدني الممنوحة في إطارها من جهة ثانية.
– الثانية، كونها ساعية إلى تكريس التنمية في بعدها المستدام، أي تقديم الخدمات والمساعدات المشجعة على الإنتاج وعلى إحداث مناصب للشغل قارة بالرغم من تواضعها النسبي، فتكون بذلك بعيدة عن مفهوم المساعدة، الصدقة، التي لا تفعل سوى أنها تهدئ من محنة الشرائح المستضعفة إلى حين.
الواقع أن هذه المبادرة، لا تزال تشكو من بعض الآفات نتيجة العقليات السالف ذكرها أعلاه، والتي ما زالت تعتبر الأمر تصدقًا وتفضلا ؛ ولذلك تقرنه بالمنة أو تقيم في طريقه مختلف أنواع العوائق والحواجز، وبعضها، كما يرد في وسائل الإعلام في أحايين غير قليلة، يجعل الأمر هدفا للتلاعب أو الابتزاز الانتخابي أو نحوهما من الممارسات المخجلة، والتي لم تعد خافية على أحد.

2.3 مراجعة المفاهيم المؤطرة لإصلاح المنظومة التعليمية :

يستند هذا المعطى على وسيلتين رئيسيتين هما التقرير الصادر عن المجلس الأعلى للتعليم ؛ والبرنامج الإصلاحي الاستعجالي، الذي كان بمثابة ردة الفعل العملية للوزارة المكلفة بالتربية والتكوين ذلك أن الأول، أجرى تعرية جلية لمثالب الخطط الإصلاحية السابقة والقائمة، نازعا عنها كل مساحيق التزيين والمداراة ؛ بينما الثاني، جاء مقترحا ما سماه «قطيعة مع الصيغ السابقة، وحاول أن يلتزم بالحد الأدنى من معايير الحكامة الجيدة من خلال اعتماده المقاربة بالمشاريع، وحرصه على بيان طرق التمويل ووسائله، مع الإلحاح في تحديد جدولة زمنية لكل مرحلة من مراحل التنفيذ حتى لا يبقى الباب مفتوحا كما كان في السابق، على مظاريف زمنية غير معلومة وغير محدودة.
وفوق هذه وتلك حاول هذا البرنامج أن يُشرك كافة الأطراف والشركاء من خلال لجان للتنفيذ والمتابعة والتقييم تمثل هؤلاء جميعا.

2.4. التدرج إلى إصلاح فعلي للقضاء :

.
يمكن الوقوف على مراحل هذا التدرج أو محطاته، من خلال تتبع سيرورة هذا الملف الكبير والحيوي والشائك، وسير الإصلاح فيه، بيد أنه من النوع الذي يصدق فيه القول الفرنسي المأثور : «أكثر بطئاً، ولكن أكثر ثباتا Plus lent Mais plus sur) ؛ حيث بدأ بإقرار على مستوى عال في هرم الدولة بعدم سلامة المنظومة القضائية من آفات غير قليلة ؛ ثم بالدعوة إلى الاجتهاد على صعيد الجهات المختصة في اقتراح صيغ إصلاحية ملائمة، ولكن قابلة للتطبيق والتفعيل وليست مجرد أماني وآمال ؛ ثم انتقل الملف إلى شخصية وزارية تم تكليفها من طرف جلالة الملك مباشرة وصراحة بالعمل على اقتراح إصلاحات فورية ؛ ثم بتكليف شخصية قريبة من المحيط الملكي، لما لهذا الملف من حساسيات وحسابات بالغة الدقة والحساسية، وبالغة الامتناع ؛ وبالتالي فهي في حاجة إلى دفعة مدعمة ومشجعة من لدن المؤسسة الملكية، وقد يحتاج الأمر إلى أن يكون الوزير المعني متمتعا بنوع خاص من السند والحماية ضد عقليات العصر الحجري الموجودة في جميع القطاعات والمتصدية لأي تغيير إيجابي في أي قطاع مهما كان شأوه، فما بالنا والأمر هنا يتعلق بقطاع مصيري ترتهن التنمية به في مختلف الميادين
والمجالات.
يشهد الواقع راهنا، ظهور تباشير إصلاح قضائي لا تخفى مؤشراته على أحد من الأطراف والفرقاء والشركاء ؛ فضلاً عن تدابير أخرى مصاحبة ومكملة، من شأنها أن تخفف من العبء الوازن والمثقل لكاهل السلطة القضائية، وفي طليعة ذلك إحداث مؤسسة الوسيط ؛ ثم هناك مجالات أكثر تعددًا وتنوعًا، أخذت طريقها هي الأخرى نحو تكريس حكامة جيدة، نذكرها بعجالة أشد فيما يلي :

2.5. إقرار مبدأي الإنصاف والمصالحة

واعتماد آليات لجبر الضرر، وتوسيع صلاحيات المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان.

2.6. إقرار إصلاحات بالغة الجرأة في مدونة الأسرة قياسًا إلى البلدان العربية ونظيراتها السائرة في طريق النمو.

2.7. إقرار مدوّنة للشغل، استنفد إعدادها شروط الإشراك الفعلي لأطراف الشغل وفرقائه

2.8 وضع القانون المغربي للإرهاب لوضع حد لاستغلال النصوص القانونية الجنائية خارج سياقها الحقوقي من جهة

وللتصدي بشدة، ولكن أيضًا بحكمة وتبصر لظاهرة الإرهاب بجميع أشكالها، بعد أن كادت تتحول إلى موضة متطرفي هذا العصر.

2.9 مراجعة قانون المسطرة الجنائية

في نفس الاتجاه من الإحكام والتمييز بين الأفعال والممارسات التي تتخطى حاجز المدني والجنحي والتي تظل داخل دائرة هذين الأخيرين ؛ وذلك بعد أن ظهرت مع تطور الأخطاء والجنح والجرائم صعوبات تصيب بعض اختصاصات الهيئات القضائية بالتداخل والالتباس.

2.10. إحداث هيأة رسمية للدفع باتجاه تكريس الشفافية والمصداقية في القطاعات العمومية ومحاربة الارتشاء

وكان ذلك من باب مأسسة هذه المهمة الصعبة، لأنها تحتاج إلى أجهزة وتجهيزات وموارد بشرية واعتمادات مالية لا يمكن أن تتوفر لدى جمعيات المجتمع المدني الناشطة في هذا المجال.

2.11. مراجعة قانون الحريات العامة،

ووضع قانون الصحافة موضع نقاش واسع يُفترض أن ينتهي إلى اقتراح صيغة أو صيغ جديدة معدّلة لهذه الآلية الحقوقية، والدفع، في إطار إصلاح القضاء المغربي وتنويع تخصصاته باتجاه تكوين وتدريب بعض القضاة على التعامل مع ملفات الرأي ومنازعات عالم الصحافة والإعلام، المتميزة عن غيرها من النوازل.

2.12. سن قانون للأحزاب من أجل ضبط آليات العمل الحزبي

والحيلولة دون الاستمرار في تمييع المشهد السياسي وتفريخ الجمعيات السياسية الواهنة لسبب ولغير ما سبب، ومن أجل فرض احترام المعايير المتوافق عليها بخصوص الاستحقاقات التي تشهدها البلاد.

2.13. إخضاع النصوص المنظمة للاستحقاقات التشريعية والجماعية لمراجعة المتوالية.

وكذلك الشأن بالنسبة للتقطيعات واللوائح الانتخابية

.2.14 مراجعة المقاربة المعتمدة في تدبير السجون والإصلاحيات ومراكز الحراسة وإعادة الإدماج المخصصة للأحداث الجانحين)،

والأخذ بمقاربات تعتماد، المعيار الاجتماعي والإنساني، والشروع في عمليات تأهيل المؤسسات المذكورة طبقا للمعايير الدولية المعمول بها في هذا المضمار .

2.15. التفكير في مراجعة الإطار الوظيفي لمؤسسات الدفاع والأمن والقوات المساعدة،

والإقرار الفعلي لإطار وظيفي جديد لأسرة الأمن الوطني ينأى بها عن بيروقراطية الإدارة العمومية، ويُفسح أمامها ممكنات أفضل وأسرع للترقي من جهة، وللاستفادة من امتيازات وحوافز اجتماعية ومادية ومالية غير مسبوقة.

2.16 الدفع باتجاه توسيع مجالات استغلال تكنولوجيا الإعلام والاتصال

عن طريق إلغاء بعض الرسوم الجمركية على التجهيزات والأجهزة والأنظمة المعلوماتية تخفيض بعضها الآخر، والعمل على تعميم الحواسيب والأنظمة الاتصالية والوسائط والبرامج التربوية والتثقيفية المدمجة على كافة المؤسسات التعليمية العمومية، وتنظيم دورات تكوينية لأفراد الأسرة التعليمية في هذه المجالات.

2.17 تفعيل دور مؤسسة ديوان المظالم

بعد تجديد مرجعيتها التشريعية والتنظيمية والتطبيقية، والرفع من أداء مؤسسات الأعمال الاجتماعية في مختلف القطاعات.

2.18 التبشير بمشروع الجهوية الموسعة

على طريق المعالجة الحكيمة والملتزمة لقضية الوحدة الترابية، باعتماد مقاربة «حكامية توسع من اختصاصات الجهات وولاياتها ومجالسها وتفرعاتها الإقليمية والمحلية، حتى يكون لمشروع الحكم الذاتي المقترح، بالأقاليم الصحراوية المحررة والمسترجعة انعكاس إيجابي ومثمر على باقي جهات المملكة.

خاتمــــــــــــة :

كانت هذه إذن أبرز الآثار التي وَسِعَنا اقتفاؤها على مدار سنوات العهد المغربي الجديد، والتي نرباً بأنفسنا جميعا أن ندعي سلامتها من الآفات، أو نقول باكتمال تحققها على صعيد الواقع المعاش ؛ ولكننا بالرغم من ذلك، لا غلك لها تجاهلاً ولا نكرانا، لإيقاننا بأننا في بداية الطريق فعلاً، صوب حكامة جيدة فعلية تطال كافة القطاعات والمجالات سالفة الذكر بالضرورة. ونقول بالضرورة، لأنها متى أخطأت أحد هذه المواعيد جميعها، فإنها لن تعدو أن تصيب التجربة برمتها بالتصدع والاختلال، وهذا ما ينبغي أن نضعه في حسباننا ما دامت سفينة الإصلاح والتنمية هي ذاتها، وبالتالي فمن الخطورة بمكان أن نسمح بحدوث ثقب أو شرخ في أي جانب من جوانبها … وللحديث، ربما بقية.

المصدر د. محمد عزيز وكيلي رئيس قسم الموارد البشرية والشراكة والاتصال بالأكاديمية الجهوية للتربية والتكوين
اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق : من شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الإلهية، والابتعاد عن التحريض العنصري والشتائم.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

نستخدم ملفات الكوكيز لنسهل عليك استخدام موقعنا الإلكتروني ونكيف المحتوى والإعلانات وفقا لمتطلباتك واحتياجاتك الخاصة، لتوفير ميزات وسائل التواصل الاجتماعية ولتحليل حركة الزيارات لدينا...التفاصيل

موافق