إذا كانت وظيفة القضاء هي منح الحماية القضائية للحقوق والمراكز القانونية المتنازع حولها، فإن هذه الحماية، لا تُمنح إلا مرة واحدة، لذلك لا يجوز للأطراف رفع ذات النزاع مرة أخرى بعد أن سبق الحسم فيه بواسطة حكم قضائي قطعي، ولو كان ذلك استنادا الى أدلة قانونية أو واقعية جديدة لم يسبق عرضها، أو عرضت وتم إغفال البت فيها أو الرد عليها من طرف القضاء، وذلك درءا لتأبيد النزاعات وتفاديا لتضارب المقررات، ولهذه الغاية وجدت طرق الطعن في الأحكام.
ولتحقيق هذه الغاية نص المشرع، على غرار باقي التشريعات المقارنة، على قاعدة حجية الشيء المقضي به في الفصل 451 من ظهير العقود والالتزامات، ويعتبر الدفع بحجية الشيء المقضي به الوسيلة العملية لإعمال تلك القاعدة.
من خلال هذه التدوينة المختصرة والمتواضعة، سأعرج بكل اختصار عن ثلاثة أمور جوهرية وهي :
أولا : معنى الدفع بحجية الشيء المقضي به وشروطه
ثانيا : طبيعة الدفع بحجية الشيء المقضي به
ثالثا: علاقة حجية الشيء المقضي به بالنظام العام
أولا : معنى الدفع بحجية الشيء المقضي به وشروطه
حجية الشيء المقضي به هي تلك الحُجية التي تثبت للحكم فيما فصل فيه بين الخصوم وبالنسبة لذات الحق محلا وسببا، فيكون أثرها وضع حد للنزاع المعروض على المحكمة، فتثبت لجميع الاحكام القطعية التي بتت في الجوهر، فإن صدر هذا الحكم غيابيا تبقى له حجيته الى أن تزول بالغائه بالتعرض، وإن صدر إبتدائيا تبقى له حجيته الى أن تزول بالغائه استئنافيا، وإن كان غير قابل للطعن العادي تبقى له حجيته الى أن يُنقض وهكذا….
والاحكام التي تثبت لها حجية الشيء المقضي به هي الاحكام القطعية لأنها هي التي تحسم النزاع في الخصومة ولو كانت قابلة لكافة طرق الطعن، وليس من الضروري حتى يعتبر الحكم قطعيا أن يفصل في مجموع النزاع، بل يكفي أن يضع حدا للنزاع في بعض أجزاء الدعوى، من طلبات مقدمة فيها أو دفوع، أو مسائل فرعية، كالحكم الصادر بعدم الاختصاص، أو الصادر بعدم قبول الدعوى لانعدام الصفة أو الأهلية أو المصلحة….
وأما الأحكام غير القطعية والتي كان يسميها المشرع في الفصل 230 من ظهير المسطرة المدنية لسنة 1913 الملغى، بالأحكام الصادرة قبل الفصل في الموضوع، وأصبح يسميها قانون المسطرة المدنية الحالي بالأحكام التمهيدية في الفصل 140 من قانون المسطرة المدنية، فهي لا تحوز حجية الشيء المقضي به لأنها أحكام لا تفصل في أي نزاع، وإنما تتعلق بسير الخصومة أو بالتحقيق فيها، كالحكم بندب خبير أو بتأجيل الدعوى أو بإحالة الادعاء بالزور الفرعي على التحقيق…. وهي لا تقبل الطعن فيها بطريق مستقل، بل يجب الطعن فيها مع الحكم الصادر في الجوهر داخل نفس الآجال، ويجب أن يتم الإشارة في مقال الاستئناف إلى استئناف الحكم التمهيدي طبقا للفصل 140 ق م م، لأن الطعن بالاستئناف في الحكم القطعي لا يفترض بالضرورة الطعن في الحكم التمهيدي، بل يجب الإشارة لهذا الأخير ضمن صحيفة الاستئناف.
وحتى يكون الدفع بحجية الشيء المقضي به صحيحا فلا بد من شروط أساسية وهي حسب الفصل 451 من ظهير الالتزامات والعقود ثلاثة :
– اتحاد الخصوم
– اتحاد الموضوع
– اتحاد السبب
ثانيا : طبيعة الدفع بحجية الشيء المقضي به
إذا كانت الدفوع الموضوعية أو الدفوع في الجوهر، هي الدفوع التي لا علاقة لها بالمسطرة أو الإجراءات، بل تنصب على ذات الحق المدعى به، فينكر بواسطتها الخصم نشأة الحق أو بقاءه أو مقداره.أو هي الدفوع التي يرد بها الخصم على مطالب خصمه منكرا حقه أو زاعما سقوطه أو مدعيا انقضاءه؛
وإذا كانت الدفوع الشكلية أو الدفوع المسطرية، هي الدفوع التي تنصب على شكليات الدعوى وإجراءاتها دون المس بجوهر الحق المدعى به؛
وإذا كانت الدفوع بعدم القبول لا تتعرض إلى جوهر الحق المطلب به ولا إلى الإجراءات المسطرية في الدعوى، وانما تتعرض لسلطة وصلاحية الخصم في استعمال دعواه.
فإن الدفع بحجية الشيء المقضي به لا يعتبر دفعا شكليا، لأن الدفع بحجية الشيء المقضي به لا يتعلق بالإجراءات الشكلية ولا المسطرية. وكذلك الدفع بحجية الشيء المقضي به لا يعتبر دفعا موضوعيا، لأنه لا ينصب على الحق المدعى به، فلا ينكره ولا يزعم انقضاءه، لأن الدفع بحجية الشيء المقضي به انما هو دفع يقول من خلاله المتقدم به للمحكمة إنه سبق أن صدر حكم في ذات الموضوع والسبب والأطراف، وبذلك فالمحكمة لا تفصل في الحق المدعى به وجودا أو عدما ولا تصل إليه.
وبذلك فالدفع بحجية الشيء المقضي به هو دفع بعدم القبول، لأن المحكمة من جهة أولى، عندما يتبين لها صحة الدفع فإنها تقضي بعدم قبول الدعوى ولا تقضي بالرفض، ومن جهة ثانية، فهذا الدفع يتعلق بسلطة وصلاحية المدعي في استعمال دعواه، لأنه إذا سبق وصدر حكم بنفس السبب والاطراف والموضوع، فأنه لا يحق للمدعي أن يعاود رفع الدعوى من جديد، ليس لأنه غير محق في طلبه، بل لأنه لا حق له في الادعاء من جديد.
ثالثا : علاقة حجية الشيء المقضي به بالنظام العام
ينص الفصل 452 من ظهير العقود والالتزامات على أنه لا يعتد بحجية الشيء المقضي به إلا إذا تمسك به من له المصلحة في إثارته، ولا يمكن للمحكمة أن تثيره من تلقاء نفسها، وبذلك يظهر لنا أن حجية الشيء المقضي به في المادة المدنية ليست من النظام العام، على عكس حجية الشيء المقضي به في المادة الجنائية، إذ تعتبر الأحكام الجنائية من النظام العام ويحتج بها الجميع ضد الجميع، لأنها تصدر لصالح المجتمع الذي تمثله النيابة العامة…
ملاحظة :
بالتمعن والتدقيق في الفصلين 451 و 452 من ظهير العقود والالتزامات نجدهما ينصان على قوة الشيء المقضي به وليس حجية الشيء المقضي به، وبالانتقال الى الفصل 462 من ظهير العقود والالتزامات في باب التفسير، فإن العبرة بالمقاصد والمعاني لا الالفاظ والمباني، والمشرع بنصه على القوة انما قصد الحجية، فهي التي تمنع النظر في نفس القضية مرتين أمام الدرجة الواحدة، ذلك لو إن مصطلح قوة الشيء المقضي به هو المقصود لكان كل حكم ابتدائي مجردا من حجيته، ويجوز تبعا لذلك تجديد النزاع مرة اخرى أمام نفس المحكمة او محكمة اخرى من نوعها ودرجتها، وأن الجهة التي لا يمكن تجديد النزاع امامها ستكون آنذاك هي محاكم الاستئناف، لأنها بحسب #الاصل هي التي تصدر قرارات حائزة على قوة الشيء المقضي به.
الدفع بحجية الشيء المقضي به
الدفع بحجية الشيء المقضي به
المصدر
عبد الرحمان الباقوري