تقسيم القواعد القانونية إلى قواعد آمرة وقواعد مفسرة
يمكن تقسيم القواعد القانونية إلى قواعد آمرة أو ناهية وقواعد مفسرة أو مكملة.
المبحث الأول : القواعد الآمرة.
القاعدة الآمرة أو الناهية هي تلك القاعدة التي لا يجوز للأفراد مخالفتها أو الاتفاق على عكسها ، وهذا يعني أن سلطان إرادة الأفراد منعدم إزاء القواعد القانونية الآمرة ،فإلزام هذه القواعد لهم إلزام مطلق ،ولا يملكون أمامه الخروج على أحكامها بإرادتهم أو باتفاقات يعقدونها فيما بينهم .
هذه القواعد إذن هي التي تتضمن خطابا موجها للأفراد بأداء عمل معين،ومعظم قواعد القانون من هذا النوع ،وعليه فإذا كانت القاعدة القانونية تتضمن أمرا بالقيام بعمل فهي قاعدة آمرة.
ومثالها القواعد القانونية التي تحرم القتل أو السرقة هي قواعد لا يجوز لأحد مخالفتها أو الاتفاق على عكسها ،ولا يمنع مثل هذا الاتفاق من توقيع العقاب على القاتل ،حيث أن الأمر يتعلق بقاعدة آمرة وثيقة الصلة بالمجتمع ونظامه ، وكذلك القواعد المحددة لشروط الزواج وآثاره فهي قواعد لا يجوز للأفراد الاتفاق على خلافها .
أما إذا كانت القاعدة القانونية تتضمن نهيا عن أداء عمل معين، فهي قاعدة ناهية .
ويلاحظ أن تسمية هذه القواعد بأنها آمرة لا يعني أنها تتميز بأنها تأمر ،فكلمة آمرة ليست إلا مجرد اصطلاح أريد به المعنى الذي ذكرناه ،وهو أن مخالفتها لا تجوز ،إذ الواقع أن كل القواعد القانونية آمرة كانت أو مكملة تتضمن الأمر أو النهي أو الإباحة فالعبرة إذن ليست بالأمر أو النهي ، وإنما بعدم جواز الاتفاق على خلاف الحكم المقرر بالقاعدة فتسمية هذه القواعد بالآمرة أو الناهية لا يضيف شيئا على المعنى الاصطلاحي .
وخلاصة القول أن القواعد الآمرة والناهية تتميز بأنها لا يجوز الاتفاق على عكسها، أي لا يملك الأفراد حق مخالفتها إيجابا أو سلبا، فهي ملزمة في الحالتين، ووجه الإلزام فيها هو الجزاء ( العقوبة ) المقرر الذي يوقع على كل من يخالفها في الأمر أو في النهي على حد سواء .
المبحث الثاني : القواعد المكملة.
القواعد المكملة أو المفسرة يقصد بها القواعد غير الآمرة والتي تهدف إلى تنظيم مصلحة مشتركة أو مصلحة فردية للأشخاص فقط في الحالات التي يكون هؤلاء الأفراد غير قادرين على تنظيم علاقاتهم بأنفسهم، وبالتالي للأفراد أن يتجاهلوا تلك القاعدة المكملة أو المفسرة، بل يجوز لهم الاتفاق على عكس ما قررته.
من هنا يمكن القول أن هذه القواعد تتميز عن سابقتها بكون سلطان الإرادة للأفراد يلعب دورا مهما ،حيث يجوز للمتعاقدين الاتفاق على استبعاد أي قاعدة منها والأخذ بحكم آخر غير حكمها ،ويرجع ذلك إلى أن هذه القواعد لا تتصل بمقومات المجتمع أو كيانه وإنما تتعلق بالمصالح الخاصة للأفراد الذين يمكنهم أن ينظموها بمحض إرادتهم .
وتعرف القواعد المكملة كذلك بالقواعد المقررة وهي تسمية صحيحة إذا ما اعتبرنا أن هذه القواعد تقرر أحكاما ينبغي تطبيقها كلما توافرت شروط ذلك، ومنها على الأخص عدم توصل الأفراد إلى حلول أخرى لحل النزاع القائم بينهم ، كما سماها البعض بالقواعد المفسرة ، وذلك على أساس أنه إذا سكت الأفراد عن الاتفاق على حكم مخالف لها ، فيفسر هذا السكوت على اتجاه إرادة المتعاقدين إلى تطبيق حكم هذه القواعد .
ومثال ذلك ما نصت عليه المادة 515 من ق. ل.ع بقولها : ” للمشتري ثمار الشيء وزوائده ، سواء كانت مدنية أو طبيعية ابتداءا من وقت تمام البيع ، ويجب تسليمها إليه معه ، ما لم يقض الاتفاق بخلافه ”.
فهذا النص عبارة عن قاعدة مكملة أو مفسرة لإدارة المتعاقدين البائع والمشتري في حالة ما إذا لم يوجد اتفاق بتسليم ثمار الشيء وزوائده في وقت معين، أي أن المتعاقدين لم يعبروا عن إرادتهم بخصوص هذه النقط بذاتها.
المبحث الثالث : معايير التفرقة بين القواعد الآمرة والقواعد المكملة.
إن التفرقة بين القواعد الآمرة والقواعد المكملة لها أهميتها في القانون الخاص دون القانون العام ، وذلك لأن قواعد القانون العام في مجملها قواعد آمرة ، وذلك نظرا لطبيعة القانون العام الذي يتصل بالمصالح العليا في المجتمع ،أما القانون الخاص فقواعده تنظم العلاقات الخاصة بين الأفراد وتبدو هذه الإرادة أكثر وضوحا في قانون الالتزامات والعقود والقانون التجاري .
وللتوصل إلى تمييز قواعد القانون الآمرة عن قواعد القانون المكملة أوجد الفقه معايير أهمها :
أولا :المعيار الشكلي.
يقوم هذا المعيار على أساس التعرف على صفة القاعدة القانونية من عبارة النص نفسه ، أي ألفاظه بحيث يبدو واضحا اتجاه نية المشرع إلى تحديد صفة هذه القاعدة والحكمة منها،وهل هي قاعدة آمرة أم قاعدة مكملة ، ويعبر المشرع عن هذه النية في حالة القاعدة الآمرة باستعماله ألفاظ قاطعة في هذه الدلالة ،كأن يرد تعبير ” لا يجوز… ”أو تعبير”…ويقع باطلا كل اتفاق يخالف ذلك ” أو تعبير ”يعاقب … ” أو ”لا يسوغ” .
ومن أمثلة ذلك في ق.ل.ع.م الفصل 61 الذي ينص على أنه ”لا يجوز التنازل عن تركة إنسان على قيد الحياة ،ولا إجراء أي تعامل فيها أو في شيء مما تشتمل عليه ولو حصل برضاه وكل تصرف مما سبق يقع باطلا بطلانا مطلقا ”.
ثانيا : المعيار الموضوعي.
في حالة ما إذا لم تعبر القاعدة القانونية بألفاظ صريحة على نية المشرع في تحديد صفة هذه القاعدة هل هي قاعدة آمرة أم مكملة، يجب النظر آنذاك إلى الأساس الذي انبنى عليه الحكم الوارد فيها ، ومدى اتصاله بالمصالح الأساسية للمجتمع أو عدم اتصاله بها .
فإذا تبين أن مضمون النص يتعلق بتنظيم مصالح خاصة للأفراد لا تتصل بالمصالح الأساسية أو الحيوية للمجتمع وبالمصالح الشخصية الواجب حمايتها كانت القاعدة القانونية قاعدة مكملة .
أما إذا تعلق الأمر بالمصالح الشخصية للمجتمع كما لو أريد حماية أشخاص أو فئة من فئات المجتمع ، فإن الأمر آنذاك يتعلق بالنظام العام وحسن الآداب ، والمبدأ هنا أنه كلما تعلقت القاعدة القانونية بالنظام العام والأخلاق والآداب عدت قاعدة آمرة .
ولما كان من غير العملي بالنسبة للمشرع أن يضع قائمة يحصر فيها ما يعتبر من النظام العام أو الآداب من قواعد فلقد اكتفى المشرع في عدة مناسبات بالإشارة إلى النظام العام بصورة عامة
أولا-مفهوم النظام العام :
القواعد القانونية التي تعتبر من النظام العام هي قواعد يقصد بها تحقيق مصلحة عامة سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية تتعلق بنظام المجتمع الأعلى وتعلو على مصلحة الأشخاص ولا يجوز لهم أن يناهضوها باتفاقات فيما بينهم حتى ولو حققت لهم هذه الاتفاقات مصالح فردية ، فالمصالح الفردية لا تقوم أمام المصلحة العامة .
والنظام العام على العموم قواعد تتعلق بنظام الدولة والمجتمع وتسمو على المصالح الفردية وهي تسعى لضمان المصالح العامة والقيم العليا لبلد ما في شتى مجالات الحياة .
إذن قوام النظام العام المصلحة العامة،وهو بذلك يعبر عن الأسس الاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية التي يقوم عليها نظام المجتمع .
ثانيا- الآداب العامة :
الآداب فكرة نسبية مرنة تختلف باختلاف الزمان والمكان ،فهي جزء من الأخلاق الاجتماعية الناتجة عن الدين و المعتقدات الموروثة ، والتي جرى عليها العرف وتعارف عليها الناس ، وهي بذلك تقوم على تقدير الرأي العام وما يتأثر به من عوامل أخلاقية واجتماعية ، وكمثال ذلك نظرة المجتمعات الإسلامية للعلاقة بين الجنسين ،حيث كان يعتبر الاختلاط بين الجنسين في الأماكن العمومية مسا علنيا بالحياء ، والآن وبتفتح العديد من المجتمعات الإسلامية على الحضارة الغربية تغير الوضع وأضحى الاختلاط غير مستقبح …ولإدراك الناس كل ذلك ليسوا في حاجة لقواعد قانونية مكتوبة تبين لهم الفضائل من الرذائل ، إنما دور القانون غاية في الأهمية ،فمتى كانت القاعدة القانونية على علاقة وطيدة بالآداب المتجدرة في المجتمع إلا واعتبرت آمرة لا يسوغ التواضع على ما يخالفها
ويلعب القضاء دورا مهما في تقدير توافق الروابط مع النظام العام والآداب أو تعارضها معها ،وهو كثيرا ما يستند إلى فكرة الآداب إذا لم تساعده النصوص القانونية في إبطال العقود المنافية للأخلاق ، والقاضي لا يرجع في تحديده هذا إلى أفكاره ومبادئه الخاصة بل يرجع في ذلك إلى الرأي العام في المجتمع الذي ينتمي إليه خصوصا آراء أهل النظر السليم فيه وإن تعارض رأي هؤلاء مع بعض العادات التي تسير عليها الأغلبية جهلا منها بما هو حسن وما هو سيئ.
المدخل لدراسة القانون(السداسي الأول) المحاضرة الخامسة.
المصدر
الدكتور مرزوق أيت الحاج