المطلب الثاني: الاستعدادات الوراثية.
رواد المدرسة الوضعية وعلى رأسهم لمبروزو اعتقدوا أن الوراثة هي العامل المسؤول عن الإجرام، فالشخص يولد وهو مزود باستعدادات وراثية تدفع به إلى الجريمة. حيث ابتكر لمبروزو نظريته المجرم بالميلاد أو بالوراثة. وقد اتجه بعض الباحثين إلى إعادة إحياء هذه النظرية الوراثية مبتكرين أساليب وطرق جديدة أهمها:
الفرع الأول: فحص أشجار العائلات.
تقوم هذه الدراسة على ملاحظة الإجرام بين أفراد أسرة واحدة على مدى عدة أجيال ومقارنتها بعينة ضابطة تتمثل في أسرة أخرى لم يجرم أفراده.
ولإثبات ذلك قام العلماء بفحص عدة عائلات، من بينها أسرة رجل أمريكي يدعى جوك ولد سنة 1720 وكان مدمنا على الخمر شديد الولع بالنساء تزوج من امرأة ولدت في سنة 1740 وكانت لصة، وبتتبع سبعة أجيال تسلسل فيها التناسل في هذه الأسرة، تبين أن من 709 هم كل أفراد العائلة كان 202 من منحرفي الدعارة، 142 متسولا، 128 مومسا، و91 ولدا غير شرعي، و131 من البلهاء والمصابين بالزهري والأمراض العقلية.
ومن العائلات التي تقارن عادة بالعائلة المتقدمة عائلة الواعظ جونسون، الذي تبين من فحص دريته أنه لم يوجد بينهم مجرم واحد، بل على العكس كان منهم كثير من نساء الولايات المتحدة الأمريكية وحكام الولايات وقضاة المحاكم العليا ومشاهير الكتاب والوعاظ والمعلمين.
وفي دراسة أجريت بسويسرا على عائلة زيو وهو اسم مستعار للعائلة تبين أن الكثيرين من هذه السلالة من مدمني المسكرات والمتشردين والمتخلفين عقليا والمحكوم عليهم جنائيا، وقد انتهى الباحث إلى أن كافة الجهود التي بذلت لتقويم الأفراد البالغين بهذه العائلة لم تسفر عن نتيجة.
وإذا كان لمثل هذه الدراسات أهميتها في إثبات وراثية الإجرام إلا أن ذلك لا ينبغي أن يؤخذ بصورة مطلقة تجعلنا نغفل دور البيئة الاجتماعية والتربية التي يتلقاها الشخص في تحديد سلوكه، إذ أنه لوحظ أن بعض الخصائص العضوية والاتجاهات النفسية والغرائزية يمكن أن يورثها السلف إلى الخلف، إلا أنه من الصحيح أيضا أن هذه الخصائص والاتجاهات إذا كانت سيئة وقابلت بيئة اجتماعية طيبة يمكن أن تهذب منها وتدفعها إلى سلوك عادي.
وقد أثبتت الأبحاث التي أجريت على عائلة الواعظ الأمريكي جونسون الذي سبق الإشارة إليه فيما مضى، أن سلف هذا الواعظ ارتكب العديد من أفراده جرائم مختلفة، فقد ثبت أن جدته من أمه، قد طلقت لارتكابها الزنا، كما قتلت أكبر عماته ولدها، وقتل خاله الأكبر أخته الوحيدة وعليه لوحظ أن الإجرام أمر موروث لأصبح جونسون نفسه والعديد من ذرياته من المجرمين.
وقد أوضح الباحث في سنة 1928 كيف أن ستة من أطفال إحدى الأسر ذات التاريخ الإجرامي، قد أبعدوا عنها قبل بلوغهم سن السابعة، فأصبحوا من الأشخاص المرموقين في المجتمع، في حين أن اثنين منهم أبعدوا بعد هذه السن، فأصبحوا مجرمين، وإن دل هذا على شيء فإنما يدل على تضاؤل عامل الوراثة في مقارنته بعامل البيئة.
الفرع الثاني: قياس التشابه في الجريمة بين الآباء والأبناء.
حاول بعض العلماء التدليل على أهمية الوراثة كعامل يفوق في تأثيره عامل البيئة من ذلك ما قام به العالم “جورنج”. حيث تقدم في المؤتمر الدولي لعلم الإجرام الذي عقد في روما سنة 1938، بحالة خاصة بصبي في الثانية عشرة من عمره عاش منذ ولادته مع والدته ومع زوجها الثاني، ومع إخوته لأمه، أي مع الأبناء الذين أنجبتهم أمه من زوجها الثاني وكان الوسط الذي يحيط بالصبي في غاية السمو الخلقي.
وقد ظهرت على الصبي منذ طفولته المبكرة أعراض عدم الخضوع للنظام، والميل إلى السرقة وإلى إنفاق حصيلتها في مختلف المتع، وبالبحث عن أساليب هذه الأعراض في الصبي والتي تتنافى مع سمو الأسرة التي يعيش فيها، تبين أنه لم يكن وليد العلاقة الشرعية لأمه لا بزوجها الأول ولا بزوجها الثاني، وإنما كان وليد علاقة غرامية لأمه بمجرم عائد في جرائم السرقة بالإكراه عرفته في فترة كان قد غادر فيها السجن أثناء ترملها من زوجها الأول، والظاهر في هذه الحالة أن الجريمة لا ترجع إلى سوء تربية ولا إلى فساد في البيئة وقد نشأ الصبي في كنف أسرة طبية، وإنما ترجع إلى عامل الوراثة.
ولا نستطيع أن نسلم بصحة هذا النظر، أو أن نستنتج من هذا المثال قاعدة عامة تطبق على كل الناس، فالواقع ينبئنا أنه لا علاقة في كثير من الأحيان بين الاتجاهات السلوكية للآباء والأبناء، فكثيرا ما سلك الإبن سلوكا لا يتناسب مع سلوك الأب الطيب والعكس صحيح، وربما كان في القرآن الكريم ما يدل على ذلك في قصة سيدنا موسى مع العبد الصالح، الذي قتل أحد الأبناء ثم شرح بعد ذلك سر هذا التصرف فيما يقصه القرآن الكريم “وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين، فخشينا أن يرهقهما طغيانا وكفرا، فأردنا أن يبدلهما ربهما خيرا منه زكاة وأقرب رحما” الكهف 80 و81″.
فرغم أن الغلام كان أبواه مؤمنين، إلا أنه كان فاسد السلوك والخلق، وأيضا في قصة سيدنا نوح مع ابنه حين نادى ربه لينقذ ولده من الطوفان “قال ربي إن ابني من أهلي وأن وعدك الحق وأنت خير الحاكمين، قال يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح فلا تسألني ما ليس لك به علم”.
وفي دراسة أجراها جورنج عن التشابه بين الآباء، خرج بأن نسبة التشابه في السلوك الإجرامي بين الآباء والأبناء تصل إلى 60% وهي تقريبا نفس نسبة التشابه بينهم في طول القامة ولون العينين وغير ذلك من الصفات العضوية، كما أن نسبة تشابه الإخوة في سلوكهم الإجرامي تصل إلى 45% وهي نفس نسبة التشابه بينهم في الصفات العضوية، وخلص جورنج إلى أن نسبة التشابه هذه لا يمكن تفسيرها إلا بعامل الوراثة أو عامل البيئة أو كلا العاملين معا، ثم غلب عامل الوراثة على البيئة، لأن عوامل البيئة في نظره ترجع إلى أمرين هما التقليد والظروف الاجتماعية.
أما عن عامل التقليد فقد استبعده لسببين، أن نسبة التشابه بين الآباء والأبناء في الجرائم التي ترتكب جهرا كالسرقة يعتبر الآباء فيها مثلا للأبناء يحتذون بهم، لا تزيد عن نسبة الجرائم التي ترتكب سرا والتي يخفيها الآباء عادة عن أبنائهم كالجرائم الجنسية، والثاني أن الأطفال الذين يبعدون عن تأثير آبائهم في سن مبكرة ويودعون في السجن لا تقل نسبة الإجرام بينهم عمن يبقون تحت تأثير هؤلاء الآباء، بل تزيد في أحيان كثيرة.
وبالنسبة للظروف الاجتماعية كالفقر ومستوى المعيشة والجهل فالتشابه بين الآباء والأبناء في السلوك الإجرامي لا يرجع إلى تأثير هذه الظروف، وذلك لأننا إذا استبعدنا تأثير الضعف العقلي، -وهو في نظر جورنج صفة موروثة- لانعدمت العلاقة أو كادت تنعدم بين ارتكاب الجريمة وبين الظروف المذكورة.
وتؤخذ على نظرية جورنج عدة مآخذ منها:
-أن تأثير الآباء في الأبناء لا ينحصر فقط فيما يورثونه إياهم من صفات عضوية أو نفسية قد تدفعهم إلى ارتكاب الجريمة، وإنما فيما ينتقل إليهم أيضا من قيم وأفكار، وتأثير التربية في انتقال القيم والأفكار أقوى من تأثير الوراثة، إذ أن الأفكار والقيم لا تورث.
-أن استبعاد الطفل من داخل أسرته، وإدخاله السجن لا يعني انتقاله إلى بيئة صحية، وإنما هو انتقل من بيئة فاسدة إلى بيئة أكثر فسادا.
-أن جورنج انتقل في دراسته على المجرمين الذكور، وهو يقرر رغم ذلك أن نسبة المجرمين من الأخوات إلى الإخوة هي 6/102، وهذا أمر غير منطقي، إذ لو كان الميل إلى الإجرام يورث بنفس النسبة التي تورث بها الخصائص العضوية كطول القامة أو لون العينين، فإن هذا الميل ينبغي أن يتوافر بنفس النسبة في الإناث والذكور على حد سواء.
الفرع الثالث: دراسة التوائم.
اتجهت أنظار بعض العلماء لدراسة التوائم لإثبات صحة نظرهم في وراثية الإجرام وقد فرقوا بين نوعين من التوائم، التوائم المتحدة، وهي التي تنتج عن انقسام بويضة واحدة بعد الإخصاب، والتوائم الإخوة وهي التي تنتج عن اتحاد بويضتين بحيوانين منويين، حاولوا أن يجروا مقارنة بين سلوك النوعين من التوائم فإن ثبت وجود الميل الاجرامي لدى التوائم المتحدة بنسبة أكبر من وجوده لدى التوائم الإخوة، كان القول بوراثية الإجرام صحيحا.
وقد أجرى العالم الألماني لانج في سنة 1929 دراسة على ثلاثين زوجا من التوائم الذكور البالغين، بينهم 13 زوجا من التوائم المتحدة و17 زوجا من الإخوة، واتضح له من البحث أن 77% من التوائم المتحدة لديها توافق على الجريمة، بينما نسبة التوافق على الجريمة بين التوائم الإخوة تصل إلى 12% فقط. وخلص إلى أن الفرق بين نسبة الإجرام لدى التوائم المتحدة ونسبته لدى التوائم الإخوة لا يمكن أن تعزى إلا إلى عامل الوراثة.
وكان لهذا البحث تأثيره الكبير على العديد من الباحثين في علم الإجرام، الذين رأوا في النتائج التي توصل إليها لانج دليلا على وراثية الجريمة، إلا أنه قد أجريت في أوربا ثلاث دراسات أخرى اتبع فيها أصحابها نفس الطريقة التي اتبعها لانج، وكشفت هذه الدراسات الأخيرة أن حالات التشابه بين التوائم المتحدة في السلوك الإجرامي –في جميع الحالات التي تناولها البحث- لا تزيد عن حالات التشابه بين التوائم الإخوة بأكثر من 1.4%.
والواقع أنه لا يمكن إغفال عامل الوراثة في اتجاهات الإنسان وسلوكه، فالإنسان يرث الكثير من الصفات أو القدرات والاتجاهات مما يصعب أحيانا على البيئة أن تغير فيها بدرجة كبيرة، ولكن القول بوراثية السلوك أمر يصعب التسليم بصحته، فالإمكانات التي يرثها الإنسان لا يكون لها وحدها التأثير الطاغي في تكوين سلوكه، وإنما تفعل البيئة الاجتماعية والثقافية والاقتصادية فعلها في توجيه الإمكانات الموروثة، فهذه الأخيرة في حد ذاتها قوى محايدة، وتقوم العوامل البيئية بتوجيه هذه القوى، فالشخص قد يرث الذكاء، وقد يرث القوة البدنية، ولكن توجيه هذا الذكاء إلى الخير أو إلى الشر، هذا هو دور عامل البيئة –فيما نعتقد- وربما صدق في هذا المجال قول سيدنا رسول الله (ص) “الناس معادن خيارهم في الجاهلية، خيارهم في الإسلام إذا فقهوا”.
فالاستعداد للخير أو للشر قائم بالإنسان، فإن كانت البيئة طيبة نمت اتجاه الخير في الإنسان فكان خيار، فإن كانت البيئة فاسدة نمت اتجاه الشر في الإنسان فكان فاسدا.
الفرع الرابع: الخلل الكروموزومي.
في بداية الستينات خرج علماء الحياة بفرضية مؤداها: أن عددا كبيرا من المجرمين يحملون كروموزوما زائدا. فكل خلية من خلايا جسم الإنسان تحتوي على 23 زوجا من الكروموزومات، يأتي فرد من هذه الأزواج من الأب بينما يأتي الفرد الآخر من الأم. وهناك زوج واحد من الكروموزومات في كل خلية يعرف بكروموزوم الجنس هو المسؤول عن تحديد جنس الفرد وهو على وجه التحديد الزوج رقم 23 .
في الحالة الطبيعية: الزوج الكروموزومي عند المرأة يكون متشابها يعبر عنه بالرمز xx ويكون لدى الرجل مختلفا يعبر عنه بالرمز xy، يتوقف نوع الجنين لحظة الإخصاب على اتحاد الكروموزوم x أو y لدى الرجل مع الكروموزوم x لدى المرأة، فإذا اتحد x مع x كان المولود أنثى يعني xx، وإذا اتحد x مع y كان المولود ذكرا يعني xy.
في الحالات غير العادية: قد يلحق هذه العملية خللا يولد حالات شاذة xyy بحيث يصبح لدى البعض كروموزوم زائد يسهم في انخفاض مستوى الذكاء عند حامله ويزيد من ميولاته العدوانية وزيادة مفرطة في البنية وطول القامة وتخلف عقلي نسبي.
وهناك حالة xxy أو ما يعرف بنمط كلنفلتر klinefelter نسبة إلى العالم الذي اكتشفه والتي يعاني أصحابها الذكور من العقم أو التخلف العقلي وكبر حجم الثديين وميل نحو تعاطي الكحول والجنسية المثلية. لوحظ أن نسبة الحاملين لثلاثي الجنس xxy تمثل 0.77 من مجموع السكان في الوقت الذي ترتفع فيه هذه النسبة من 5 إلى 10 مرات داخل المؤسسات السجنية.
التقييم:
* الواقع أن هذه الدراسات لازالت يكتنفها الغموض ولعل هذا ما دفع القضاء الأمريكي إلى رفض اعتبار هذا النوع من الخلايا مانعا من موانع المسؤولية الجنائية.
* الأبحاث اللاحقة أثبت أن الكثير من المجرمين المولودون بهذا الخلل الكروموزومي لا يتميز ون بأية سمات عقلية أو جسمانية شاذة عن غير المجرمين.
* المولودين بهذا الخلل هم نسبة قليلة بين البشر مما لا يمكن من تكوين عينات كافية تساعد في الوصول إلى نتائج حاسمة.
جملة القول أن الوراثة لا يمكن أن تكون بذاتها العامل الوحيد الحاسم في تكوين الظاهرة الإجرامية، فالشخص لا يرث السلوك الإجرامي في ذاته، فالجريمة مخلوق قانوني يختلف باختلاف الزمان والمكان وإنما يرث الميل أو الاستعداد الإجرامي. غير أن هذا الاستعداد أو الميل الإجرامي يبقى أمرا أو فكرة نسبية أو احتمالية، فإبن المجرم يكون أكثر ميلا إلى الإجرام من غيره، ولكن ليس من المحتم أن يسلك الإبن مسلك أبيه الإجرامي. فقد يصادف الإبن تهذيبا وتثقيفا في المدرسة أو في بيئة العمل أو الأماكن الدينية أو من خلال وسائل الإعلام تعلي من غرائزه السامية فتحد من الميل الوراثي للإجرام. بمعنى أن الوراثة الاجتماعية قد تلطف من الوراثة الإجرامية.