تنص الفقرة 16 من قانون المسطرة المدنية على أنه يجب على الأطراف الدفع بعدم الإختصاص النوعي أو المكاني قبل كل دفع أو دفاع، و في نفس السياق تنص المادة 49 من نفس القانون على أنه(يجب أن يثار و في أن واحد وقبل كل دفاع في الجوهر الدفع بإحالة الدعوى على محكمة أخرى لتقديمها أمام محكمتين مختلفتين أو لإرتباط الدعويين و الدفع بعدم القبول و إلا كان الدفعان غير مقبولين… يسري نفس الحكم بالنسبة لحالات البطلان و الإخلالات الشكلية و المسطرية……
إستلزام المشرع المغربي توقيتا معينا في إثارة هذه الدفوع، يقتضي منا الوقوف على المدلول الواقعي و التجسيدي لعبارة “قبل أي دفع أو دفاع” الواردة في المادتين أعلاه، لنتأكد مما إذا كانت تنصرف إلى تعاقب ترتيبي للدفوع، أم إلى تمظهر زمني يحتسب من خلال الوقت الفاصل بين إثارة الدفوع المعنية بالشرط، و ماقبلها أو بعدها من دفوع بغض النظر عن ترتيب كل واحد منها.
المدلول الحرفي يوحي بأنه من الواجب إثارة هذه الدفوع قبل أي دفع أو دفاع في الجوهر و لو في نفس الجلسة وفي نفس المذكرة، لكن في نظرنا الباعث التشريعي لوضع هذا الشرط، لايمكن أن يستوعب هذه القراءة السطحية، ذلك أن المشرع عندما إستلزم هكذا شرط لم يكن هاجسه البتة وضع ترتيب تسلسلي للدفوع، و إنما يروم درء التسويف المسطري للأطراف الذين كانو يحتفظون ببعض الدفوع المرتبطة عموما بالإختصاص أو الشكل إلى أخر أشواط الخصومة، مما يلزم المحكمة إعتبار تأسيسها إلى مجاراتها و الخروج فجأة من موضوع الدعوى، مما يترتب عنه هدر لكل الإجراءات المتخدة سلفا، و بالتبعية ضياع كل الوقت الذي إستغرقته المسطرة.
جانب من الفقه الفرنسي ناصر بشدة هذا التوجه، و إعتبر الفقيه روجيه بيرو، بأنه لايمكن الشك بداهة في وجود مناورة تسويفية كلما عمد المدعى عليه إلى جمع كل دفوعه في مدكرة واحدة دون إحترام ترتيب معين.
كما أكد الفقيهين (كاديي و جولاند) على أن التمسك بعمومية هذا القيد الزمني لايمكن إلا أن يؤول إلى إفراغه من مضمونه.
محكمة النقض الفرنسية من جهتها إعتبرت في قرار مبدئي صادر بتاريخ:27/01/1993 على أن إثارة الدفع بعدم الإختصاص في نفس المذكرة مع باقي الدفوع يبقى مقبولا بغض النظر عن تموضعه في الترتيب.
و إنطلاقا من هذا كله، سبقى في نظرنا إستلزام الإثارة المسبقة للدفوع المعنية بالشرط الزمني منوطا بثبوت سوء نية مثيرها، و الذي يثبت حتما من خلال تعمد عدم إثارتها إلا بعض الخوض في جوهرها بشكل لايمكن معه الرجوع إلى نقطة البداية.
أما إذا أثيرت تلك الدفوع بالموازاة مع باقي الدفوع الجوهرية، فالترتيب يبقى غير ذي أهمية من حيث الإثارة، و على المحكمة أن تقبلها و تناقشها و لو أثيرت في الترتيب بعد الدفوع الموضوعية، لأن الغاية التشريعية من الشرط تبقى منتهية في هذه الحالة.
كما أنه أحيانا تحتاج بعض الدفوع “المسبقة” تغدية أسسها بعناصر واقعية مستفادة من موضوع الدعوى، مما يلزم مثيرها التعرض العرضي لجوهرها، ففي هذه الحالة أيضا لايمكن أن نعتبره قد أهضب في جوهرها، لأن غايته من ذلك هو تسبيب دفعه.
و يبقى مجمل القول أنه لا مناص في تفسير عبارة “قبل أي دفع أو دفاع في الجوهر”من إستحصار نية و إرادة المشرع في وضع النص القانوني حتى لانزيغ على أسباب نزوله و تنعدم الفائدة من إقراره.