الفصل الأول: العوامل الإجرامية الفردية.
اتجه العلماء إلى تقسيم العوامل الإجرامية التي تتصل بالفرد إلى نوعين من العوامل: عوامل خلقية تتصل بالتكوين الطبيعي أو النفسي للمجرم (المبحث الأول)، وعوامل عارضة أو مكتسبة، يكتسبها الإنسان بعد ولادته، إما رغما عنه أو بإرادته (المبحث الثاني).
المبحث الأول: العوامل التكوينية الأصيلة.
تنقسم العوامل التكوينية الأصيلة إلى عوامل ترتبط بالتكوين الطبيعي أو النفسي للمجرم (المطلب الأول)، أو الاستعدادات الوراثية (المطلب الثاني)، أو العرق والنوع (المطلب الثالث).
المطلب الأول: التكوين الطبيعي والنفسي للمجرم.
حاول بعض العلماء رد الظاهرة الإجرامية إلى تكوين المجرم الطبيعي (الفرع الأول)، وإلى خصائصه النفسية (الفرع الثاني)، فهو في نظرهم نمط بيولوجي يختلف عن غيره من الناس بما يتصف به من نقص أو شذوذ في تكوينه الطبيعي والنفسي، فطبقا لهذا النظر لا يكون للبيئة الاجتماعية أثر يذكر في خلق الظاهرة الإجرامية.
الفرع الأول: التكوين الطبيعي للمجرم.
أولا: نظرية سيزار لومبروزو.
يسود الاعتقاد لدى كثير من الباحثين بأن علم الإجرام الحديث بدأ بظهور سيزاري لمبروزو ونظريته الأنتربولوجية أو الوضعية كما يسميها البعض لاعتمادها على المنهج الوضعي في دراسة المجرم دراسة علمية منظمة.
وقد بدأ “لمبروزو” حياته العلمية كطبيب للجيش ثم أستاذا محاضرا للطب العقلي والشرعي بجامعتي بافيا وتورينو. وقد قام بإجراء بحوث كثيرة لمعرفة ما يتميز به المجرمون عمن سواهم مدفوعا في ذلك بما لاحظه من إقبال أكثر المجرمين شراسة على الوشم، وانتشاره على أبدانهم بصورة فاضحة لم يشهدها لدى غيرهم.
وقد شملت هذه الأبحاث 383 جمجمة لمجرمين موتى وحوالي ستة آلاف من المجرمين الأحياء. وكانت دهشة لمبروزو كبيرة عندما اكتشف أثناء تشريحه لجثة مجرم شرس يدعى فييلا وجود تجويف غير عادي في مؤخرة الجمجمة يشبه ذلك الذي يوجد لدى بعض الحيوانات السفلى كالقردة والطيور. وكان لمبروزو قام بفحص جسم هذا المجرم وهو على قيد الحياة، فلاحظ عليه خفة غير عادية في الحركة وجنوح إلى المباهاة والتفاخر بنفسه، وميل إلى التهكم والسخرية من الغير.
كما اكتشف لدى مجرم آخر يدعى فرسيني بعض ملامح الإنسان البدائي في تكوينه الجسمي ونزوعه إلى قسوة الحيوانات المفترسة. وقد قتل هذا المجرم حوالي عشرين امرأة واعترف بأنه كان يشرب من دم ضحاياه قبل دفنهم في مكان خاص أعده لذلك.
وبهذه الاكتشافات اندفع لمبروزو إلى تكرار الفحوص وإجراء الأبحاث ليتأكد من صحة افتراضه وصحة اكتشافه، ثم قام بنشر النتائج التي توصل إليها في كتاب له بعنوان (الإنسان المجرم) عام 1976، وخلص فيه إلى أن المجرم وحش بدائي يتميز بملامح خاصة انتقلت إليه عن طريق الوراثة، ومن ثم فهو مجرم بالفطرة. ثم ذكر كثيرا من السمات الجسمانية والنفسية والعقلية والمزاجية التي اكتشفها لدى المجرمين الذين أخضعهم للبحث والدراسة.
ومن أهم هذه السمات عدم انتظام شكل الجمجمة، وضخامة الفكين، وبروز عظام الخدين وضيق الجبهة وانحدارها وكبر الأذنين وبروزهما إلى الخارج بشكل واضح. ومن الصفات النفسية والعقلية والمزاجية الأخرى ضعف الإحساس بالألم والميل نحو الوشم بصورة منافية للحياء وضعف الوازع الأخلاقي وعدم الشعور بالذنب والرعونة، والقابلية الشديدة لالتئام الجروح وسرعة الشفاء من الأمراض، وحدة المزاج، والميل إلى الكسل، والغرور والميل الشديد نحو الكحول، والرغبة الملحة نحو المقامرة، والإيمان الكبير بالخرافات، والشعور الدائم بعدم الاستقرار النفسي والعاطفي وعدم السيطرة على النفس.
واعتقد لومبروزو أن النموذج الإجرامي الكامل للمجرم المطبوع هو الذي يتميز بأكثر من خمس سمات انحطاطية، أما النموذج غير الكامل فهو الذي تقل سماته الانحطاطية عن الخمس دون الثلاث، أما من تقل سماته الانحطاطية عن الثلاث فهو لا يعتبر نموذجا إجراميا معينا، ثم أضاف إلى أن السمات الانحطاطية التي يتميز بها المجرم ليست هي سبب الجريمة ذاتها. وإنما هي سمات وصفات مميزة لتشخيص المجرم عن غير المجرم، ومع ذلك فهي تزيد من قابلية الفرد وتضاعف استعداده لارتكاب الجريمة أكثر من غيره.
ويفسر لمبروزو وجود مثل هذه الصفات الانحطاطية في المجرمين منطلقا من افتراضين يرتكز الأول على ما اسماه بالردة الوراثية التي تعود بالإنسان المجرم إلى مرحلة الوحشية الأولى من عمره. وقد تأثر لمبروزو في تفسيره هذا بما قاله داروين حول النشوء والارتقاء من أنه إذا كان من الممكن ظهور خروف أسود بين مجموعة من الخراف التي تختلف عنه، فإن ذلك يعزى إلى ردة أو رجعة وراثية.
ولهذا فإن المجرم بهذا المعنى هو ذلك الخروف الأسود في عائلته التي تختلف عنه، وقد ظهر على حين غرة ودونما سبب ظاهر، بذلك فإن المجرم مخلوق ضل طريقه عبر القرون، فولد في زمن غير زمنه، فهو إنسان بدأ يجوس خلال ديارنا ويعيش بين ظهورنا، ولكنه ليس منا ولسنا منه، فهو لا ينتمي إلى عالمنا بل ينتمي عضويا ونفسيا إلى عالم أسلافنا الأول حيث كان الإنسان أقرب إلى الوحوش منه إلى البشر المعاصرين.
وقد أثارت أفكار لمبروزو حماس البعض وإعجابهم، ثم ما لبث أن انقلب الحماس والإعجاب إلى نقد شديد حدا بلمبروزو إلى إعادة النظر فيما توصل إليه فراح يختبر صدق النتائج التي توصل إليها في بحوثه السابقة فانكب على المجرمين يقيس أطرافهم ويزن أجسامهم ويحلل أخلاقهم ويدرس طباعهم حتى قيل فيه أنه صور المجرم تصويرا فوتوغرافيا دقيقا من كل جوانبه.
وقد تبين أنه من خلال فحوصه اللاحقة وفي ضوء ما تعرضت له أفكاره السابقة من نقد لاذع وخاصة من زميله فيري أن هناك عوامل أخرى غير التي انتهى إليها سلفا تدفع إلى الإجرام، انتهى به المطاف إلى تصنيف المجرمين إلى عدة طوائف هي:
المجرم بالفطرة أو بالوراثة:
ويسمى كذلك المجرم بالطبيعة أو بالميلاد وهم أشخاص ولدوا مصابين باختلالات وراثية تظهر من خلال ملامح عضوية ونفسية تشبه سمات المخلوقات البدائية. هذه الاختلالات الوراثية تؤدي إلى تشويه القيم الأخلاقية في تقديرهم وتدفعهم إلى ارتكاب الجريمة.
هذا النوع من المجرمين يعتقد لمبروزو أن لا أمل في إصلاحهم، فهم يقدمون على الجريمة بمجرد أن تتاح لهم الفرصة المناسبة. لذلك فالتدبير المناسب لوقاية المجتمع منهم هو استئصالهم نهائيا بإعدامهم أو نفيهم المؤبد أو إلزامهم بالبقاء في مستعمرة زراعية.
المجرم المجنون:
وهو من يرتكب الجريمة تحت تأثير المرض العقلي وهو يشبه في تصرفاته المجرم بالفطرة، ولذلك ينبغي أن يوضع في مصحة عقلية حتى يتقى شره ويعالج من مرضه إذا أمكن، أو يعدم إذا كان جنونه لا يرجى له الشفاء. وقد ألحق لمبروزو بهذا النوع من المجرمين، المجرم الهستيري والمصاب بالصرع ومدمن الخمور والمخدرات.
المجرم بالعادة:
وهو من يعتاد على ارتكاب الجرائم تحت تأثير عوامل اجتماعية فاسدة، فيجعل من الإجرام حرفة أو أسلوبا له في الحياة. ومن أهم هذه الظروف اتصاله بالمسجونين من محترفي الإجرام، وإدمانه على الخمور، والبطالة.
التدبير المناسب لهذا النوع من المجرمين له نفس مصير المجرم بالفطرة، إذ لا أمل في إصلاحه فيتعين استئصاله أو نفيه. إلا أن الفرق بين المجرم بالعادة والمجرم بالفطرة هو كون هذا الأخير يتخذ الاستئصال في حقه تلقائيا لمجرد ارتكابه الجريمة الأولى، أما المجرم بالعادة فلا محل لاستئصاله إلا إذا تعددت جرائمه وثبت اعتياده على الإجرام.
المجرم بالصدفة:
ويطلق لمبروزو على هذا النوع وصف أشباه المجرمين، إذ لا يرى علاقة لإجرامهم بأية ردة وراثية أو مرض أو صرع، وإنما يرجع إجرامهم إلى ظروف ومواقف يجدون أنفسهم فيها عن طريق الصدفة أو بدافع التقليد أو حب الظهور. ويوصي لمبروزو بإبعاد هذا الصنف عن الوسط الذي يعيش فيه بإرساله إلى مستعمرة زراعية أو صناعية لأجل غير مسمى، وبعدم تعريضه لعقوبة تؤدي حتما إلى اختلاطه بغيره من الجناة حتى لا يفسد وينقلب إلى مجرم بالعادة.
المجرم بالعاطفة:
وهو شخص يتميز بحساسية مفرطة يخضع بشأنها إلى الانفعالات الهوجاء والعواطف المختلفة كالغضب والحب والغيرة والحقد والكراهية. ويضع لمبروزو المجرم السياسي تحت هذا الصنف بوجه خاص. ويحسن في تقدير لمبروزو عدم تعريض هذا الصنف لعقوبات جنائية تفسده وتصنع منه مجرما معتادا، وإنما يكفي في حقه الإبعاد عن محيط الجريمة أو الحكم عليه بالحبس مع وقف التنفيذ.
2- تقدير نظرية سيزار لومبروزو:
والواقع أن نظرية لمبروزو كان لها فضل كبير في توجيه الدراسات الإجرامية صوب دراسة شخص المجرم من الناحيتين العضوية والنفسية توصلا لاكتشاف الأسباب التي تدفعه إلى الإجرام. ولو لم يكن لآراء لمبروزو سوى هذه الحسنة لكفاه ذلك شرفا ورفعة في سجل العلماء.
ولا يعني ذلك أن آراء لمبروزو معصومة من الخطأ أو أنها بمنأى عن النقد، إنما شأنها في هذا شأن غيرها من ثمار الفكر الإنساني، وقد وجهت إليها انتقادات من عدة زوايا نجملها فيما يلي:
أن ما قال به لمبروزو من اختلاف بين الشخص العادي والمجرم أمر ينقصه الدليل العلمي، كما أن التعميم الذي انتهى إليه من دراسته لحالات محددة، خلص منها إلى وجود شذوذ في التكوين العضوي والنفسي للمجرمين، تعميم من غير محله، فمن ناحية، ليس من الثابت إحصائيا أن كافة المجرمين يعانون من شذوذ في التكوين، ومن ناحية أخرى يقتضي تعميم القول بوجود هذا الشذوذ دراسة بعض حالات غير المجرمين للتحقق من مخالفتهم في الحقائق البيولوجية للمجرمين. وقد قام العالم الانجليزي جورنة باختبار نظرية لمبروزو فقارن بين المجرمين وغير المجرمين في دراسة شملت عدة آلاف من هؤلاء وأولئك، فلم يجد بين الطائفتين فروقا هامة في التكوين تؤكد شذوذ المجرمين في تكوينهم عمن سواهم. وهذا ما دفع جورنج إلى القول –في كتابه الذي نشره في سنة 1913 متضمنا نتائج دراساته- بأنه لا توجد اختلافات بين المجرم وغيره أكثر من تلك التي توجد بين طالب اسكتلندي وطالب انجليزي.
أن ما أكده لمبروزو من تشابه بين المجرم والإنسان البدائي، هو قول يؤخذ عليه ما يتضمنه من مغالطة فمن ناحية لا يمكن القول بأن معلومات لمبروزو عن الإنسان البدائي كانت من الكفاية لدرجة تمكنه من المقارنة بينه وبين المجرم، ومن ناحية أخرى، وعلى فرض أماكن المقارنة بين المجرم والإنسان البدائي، فإن القول تشابه المجرم والإنسان البدائي هو قول لا يبرر الادعاء بحتمية الإجرام لدى الإنسان المعاصر، لأن صحة هذا الاستنتاج تفترض أن المجتمع البدائي لم يكن يضم بين أفراده سوى المجرمين وهو افتراض لا يمكن التسليم به.
أخذ على لمبروزو كذلك قوله أن المجرم إنسان يولد مجرما بحكم عوامل وراثية انتقلت إليه فجعلت منه أحد شواذ الخلق، فقد نسب إلى لمبروزو جهله بقوانين الوراثة، وقد رد أنصاره على ذلك بقولهم أن الوراثة الإجرامية في رأيه لا تعني انزلاقا حتميا إلى الإجرام وإنما معناها وجود ميل موروث لا يفضي إلى الجريمة إلا إذا اقترنت بعوامل معينة، وهذا الميل عقد يكتسب بعد الميلاد.
أخذ على نظرية لمبروزو كذلك ما تتضمنه من إنكار تام لعامل البيئة والظروف الاجتماعية في نشأة الجريمة. والواقع أن هذا النقد مبالغ فيه، إذ أن لمبروزو قد اعترف في آخر مؤلفاته بدور العوامل البيئية والظروف الاجتماعية في تكوين شخصية الفرد، ومن ثم في الدفع إلى الإجرام.
والنقد الأخير الذي وجه إلى نظرية لمبروزو يتعلق بفكرة المجرم بالفطرة أو بالميلاد، فقد قيل بأن الادعاء بوجود مثل هذا المجرم لا يستقيم مع مفهوم الجريمة باعتبارها فكرة نسبية تتغير من مجتمع لآخر، وفي المجتمع الواحد من عصر إلى عصر فالقول بوجود مجرم بالفطرة يقتضي التسليم بوجود فعل يعتبر جريمة بالفطرة وهو ما لا يمكن عقلا الادعاء به، إذ أن الجريمة خلق قانوني يتغير بتغير الظروف التي حدت بالمشرع إلى تجريم فعل ما، ومن ثم ففكرة الجريمة لا تثبت على حال بحيث لا يسوغ عقلا التسليم بأن من تتوافر به أوصاف معينة يكون نزاعا على سبيل الحتم إلى ارتكاب أفعال قد تكون مجرمة وقت ارتكابها وقد لا تكون كذلك، وبناء على ذلك نلاحظ أن هذا النقد لا محل له بالنسبة لطائفة الجرائم التي تتغير تعبا لظروف الزمان والمكان، أو ما نطلق عليه الجرائم الاصطناعية التي تستند إلى إرادة المشرع، ومن ثم لا مجال له بالنسبة لطائفة الجرائم الطبيعية، وقد تكون هي التي عناها لمبروزو بفكرة المجرم بالميلاد، لكن ليس معنى ذلك أننا نسلم معه بوجود مثل هذا المجرم.
محاضرات في مادة علم الإجرام(المحاضرة الرابعة) السداسي الخامس.
Source
الأستاذ:هشام بوحوص