الفرع الثاني: التكوين النفسي للمجرم.
إذا كان أنصار التيار البيولوجي قد مالوا إلى ربط الجريمة بعوامل بيولوجية وراثية، فأخفقوا في الكشف عن علة الجريمة، فإن التيار السيكولوجي حاول تفسير السلوك الإجرامي من خلال ربطه بالاضطرابات السلوكية وعدم استواء الشخصية.
ويعتبر هذا الاتجاه من أكثر الاتجاهات تعقيدا في تفسير الظاهرة الإجرامية بسبب غموض المصطلحات التي استعملت وأيضا بسبب محاولته الكشف عن ذلك الجانب المجهول أو الخفي في الشخصية الإنسانية.
ويرجع السلوك الإجرامي في نظر هذا الاتجاه إلى أمرين:
1-الخلل النفسي الذي يصيب الشخص، حيث أكد باحثون أن المجرمين كلهم مرضى مصابون بخلل عقلي يرجع إلى نمو عاطفي معين يمكن البحث عن أسبابه في العوامل الداخلية للشخصية الإجرامية.
2-عدم التوازن النفسي أو العاطفي: كثيرة هي الأسباب النفسية التي دون أن تسبب للشخص خللا عقليا يمكن أن تلعب دورا رئيسيا في دفعه نحو الجريمة، وفقدان الفرد لتوازنه النفسي والعاطفي بمنعه من الحكم الصحيح على الأوضاع والمشاكل التي تعترضه ومن ثم يلجأ إلى حلها إلى تصرفات معيارية لا تستقيم مع الأوضاع والقيم والنظم الاجتماعية السائدة بحكم تعطل القوى الرادعة عن ممارسة وظيفتها التهذيبية.
أولا: الأمراض العصبية والنفسية.
1. الأمراض العصبية:
يقصد بالأمراض العصبية خلل في الجهاز العصبي يؤدي إلى انحراف نشاطه عن النحو الطبيعي. وهذه الأمراض متعددة، وأظهرها الهستريا والصرع واليقظة النومية والنورستانيا.
أما الهستريا، فهي اختلال يصيب الجهاز العصبي يصاحبه اضطراب في عواطف المريض ورغباته وضعف في سيطرة إرادته على ما يصدر منه من أفعال وتصرفات. والهستريا مرض ينتشر بين النساء بنسبة أكبر من انتشاره بين الذكور، وهو قد يكون سببا في كثير من الجرائم كجرائم القتل العاطفية وسرقة المعروضات خاصة في المحلات الكبيرة وجرائم البلاغ الكاذب…إلخ.
وأما الصرع فهو نوبات يفقد المريض خلالها وعيه وتعترضه دوافع لا قبل له بمقاومتها قد تحمله على ارتكاب الجرائم. والغالب أن يقترن الصرع بمظاهر بدنية تبدو خلال فترة النوبة كالتشنج والشعور بالاختناق. ومع ذلك فهناك نوع من الصرع يوصف بالصرع النفسي لا تقترن نوباته بمظاهر بدنية ويقتصر تأثيرها على القوى النفسية للمصاب فتؤدي إلى انحرافها وتبعا إلى ارتكاب بعض الجرائم، كجرائم القتل وجرائم العنف والجرائم المنافية للأخلاق والتشرد…إلخ. وقد لاحظ لمبروزو أهمية هذا النوع من الصرع في ارتكاب الجريمة حيث ذهب إلى أن معظم المجرمين بفطرتهم مصابون بالصرع ووصف المجرم بالفطرة بأنه مجنون نفساني.
وأما اليقظة النومية فهي حالة مرضية تبدو في أن المصاب بها يقوم أثناء نومه ببعض الأفعال تنفيذا لما يعرض له من صور ذهنية، وذلك دون أن يعني هذه الأفعال أو أن تكون له القدرة على التحكم فيها، ولا يذكر عند صحوه ما أقدم عليه أثناء نومه. واليقظة النومية بهذا النحو قد تكون سببا في ارتكاب الجرائم كالقتل والحريق والسرقة…إلخ.
وأخيرا تتمثل النورستانيا في ضعف يصيب الجهاز العصبي يؤدي إلى إنقاص سيطرته على أعضاء الجسم وتبعا إلى إضعاف سيطرة الإرادة على ما يصدر عن صاحبها من أفعال. وتفيد النورستانيا ضعف مقدرة المصاب بها على مقاومة الدوافع التي تغري بارتكاب بعض الجرائم مما يؤدي إلى إقدامه فعلا على ارتكابها.
2.الأمراض النفسية:
يقصد بالأمراض النفسية أو الشذوذ النفسي خلل يصيب القوى النفسية كالغرائز والعواطف ويؤدي إلى انحراف نشاطها عن النحو الطبيعي. والغالب في هذا الشذوذ أن يجعل شخصية المصاب به غير متلائمة مع القيم والمعايير الاجتماعية، فنجده لا يستنكر هذه القيم أو يستنكر أفعالا تقرها القيم المذكورة، وفي هذا ما قد يحمله على ارتكاب أفعال إجرامية.
ولعل أظهر حالات الشذوذ النفسي التي تبدو لها صلة وثيقة بظاهرة الإجرام الحالة التي تسمى “السيكوباتية”، وهي تتميز بأعراض أو خصائص رئيسية أهمها ما يلي:
عجز المريض عن التحكم في غرائزه، فصاحب الشخصية السيكوباتية متى شعر بالحاجة إلى إشباع غريزة اندفع بكل قواه إلى إشباعها دون أن تلقى إرادته مقاومة ما، ودون أن يقيم وزنا لما قد يعترض طريقه من صعوبات أو لما قد يترتب على أفعاله من نتائج.
يتميز السيكوباتي بسلوكه الاجتماعي المنحرف، فهو غالبا ما يرتكب أعمالا عدائية للمجتمع كالغش والكذب والإخلال بالوعود، ولا يعبأ بالمسؤولية ولا يتأثر بالمدح أو الذم، وتبدو بعض تصرفاته غير منطقية إذ قد يكون غنيا ويلجأ إلى السرقة لمجرد اللذة. وهو بالرغم من ذلك يتمتع بالقدرة على اجتذاب عطف الغير وإعجابهم به وصداقتهم له.
إن السيكوباتي أناني بطبعه إلى أبعد حدود الأنانية. وهذه الأنانية تبدو في تصرفاته في طفولته المبكرة، ولا يتخلى عنها حتى في معاملته لأهله وأفراد أسرته كزوجته أو أبنائه. وهو إذا كان يبدي أحيانا بعض مظاهر الوفاء لزوجته أو التعلق بأبنائه فإن ذلك لا يعدو أن يكون من قبيل التظاهر الذي تدفعه إليه الرغبة في أن يضفي على ن غالبا ما يفشل السيكوباتي في التجاوب الوظيفي، فهو كقاعدة عامة لا يجيد مباشرة وظيفته، وكثيرا ما يخطئ في مباشرتها ولا يتعلم من هذا الخطأ شيئا بل يقع فيه مرارا دون أن يحاول الاستفادة من تجاربه أو خبراته السابقة.
والخصائص المتقدمة توضح لنا إلى أي حد تعد السيكوباتية من عوامل الإجرام. فعجز المصاب بها عن ضبط غرائزة، وعدم تلاؤم شخصيته مع القيم الاجتماعية، واتصافه بالأنانية المفرطة، وعدم قدرته على التكيف الوظيفي، كل ذلك قد يدفعه إلى ارتكاب الجرائم تحت تأثير ما في شخصيته من شذوذ.
ومن صور السيكوباتية الجنسية، الخلل في الغريزة الجنسية التي تؤدي إلى انحراف نشاطها عن النحو الطبيعي. ولذلك فإن المصاب بهذا النوع من السيكوباتية يتصف بالشذوذ الجنسي، وكثيرا ما يتجه إلى ارتكاب جرائم الاعتداء على العرض أو الجرائم المخلة بالآداب عاجزا عن التحكم في غريزته وغير مبال بالتعارض بين إشباعها على هذا النحو وبين القيم التي تسود في المجتمع.
علم الإجرام المحاضرة السادسة السداسي الخامس
المصدر
الأستاذ:هشام بوحوص